أبو إسحاق الإلبيري .. حارس على حدود الشريعة
أَكْرِمْ بالمؤمن يُعطَى قلبًا حيًّا، وسلوكًا نقيًّا! فإذا رُزق إلى هذين بيانًا عليًّا، كان نِعم الرجل هو، فتلك نعمة كُبرى من الله على المرء المؤمن.
ومن هؤلاء المؤمنين الذين حبَاهم الله القلبَ الحيَّ، والسلوك النَّقي، والبيانَ العلي: الفقيهُ الزَّاهد الورِع، والمحدِّث البارع النبيل، والشاعر الأندلسيُّ المجيد إبراهيمُ بن مسعود بن سعد، المعروف بأبي إسحاق الإلبيري، وهو أحد شُعراء قبيلة تجيب الكندية.
عاش أبو إسحاق في مدينة غرناطة، وتوفِّي بإلبيرة، وكلاهما من مدن الأندلس[1].
وأبو إسحاق رحمه الله من الشُّعراء المبرَّزين، ولئن كان الشُّعراء يهيمون بشِعرهم في كلِّ وادٍ، ويقولون ما لا يفعلونه، فإنَّ أبا إسحاق كان ممَّن سَخَّروا شعرهم لدعوة الإسلام، وبيان أهدافه، وخدمة قضاياه العظيمة.
فقد نظم رحمه الله في الزُّهد والرقائق، والحكمة والنَّصائح، والعظات المتنوعة، ويلمس القارئ لشعره أنَّه كان وجدانيًّا محسنًا، من ذلك قوله في قصيدة في الزهد:
أتيتُك راجيًا يا ذا الجلالِ ففرِّجْ ما ترى من سُوء حالي
عصيتُك سيِّدي وَيْلي بجَهْلي وعيبُ الذَّنب لم يَخطُرْ ببالي
ألفاظ سَهلة ليِّنة، تَحمل معانيَ راقية عالية، تُرقي الهِمَم، وتدفع العزائمَ، تلك معالم بعض أشعار أبي إسحاق.
ومن قصيدةٍ له شهيرة جدًّا في ذِكر العلم وفضله، والحثِّ عليه والعناية به، ضمَّنها حِكمًا غالية، ونسجها في ثوبِ نُصْحٍ لولده أبي بكر، تُسمَّى بـ منظومة أبي إسحاق الإلبيري أو تائيَّة الإلبيري، يقول في مطلعها:
تفتُّ فؤادَك الأيامُ فتَّا وتَنحِتُ جِسمَك السَّاعاتُ نَحْتَا
وتدعوك المنونُ دعاءَ صِدقٍ ألَا يا صاحِ أنت أُريدُ أنتَا
إلى آخر أبيات تلك القصيدة، وهي مَليئةٌ بالمعاني الجميلة، زاخِرةٌ بخُلاصة تجارِب الحياة، توفِّر العمرَ والجهدَ، وتَختصر الوقتَ على مَن تأمَّلَها، وعمل بما فيها.
لقد أوقف أبو إسحاق الإلبيري شِعرَه على خِدمة قضايا الإسلام إذا عرضَتْ، وتجلية أحكامه إذا صدرَتْ، وجعله لسان المسلمين الذي يَنطق عمَّا في قلوبهم، ويعبِّر عن مَكنون صدورهم، ويشرح أحوالَهم.
ومن ذلك: القضيَّة التي بين أيدينا الساعة؛ اتَّخذ باديس بن حبوس – صاحب غرناطة – رجلًا يُقال له: إسماعيل بن نَغْرَالَّة[2] وزيرًا له، وكان إسماعيل هذا يهوديًّا، ووضعه على جَمْع الأموال ورقابة التصرُّفات الماليَّة في الدولة، ليس هذا فحسب؛ فقد صار ذلك اليهودي أثيرًا عند باديس، فهو ناصحه الأوَّل الذي لا يبرم باديس أمرًا من الأمور إلَّا برأيه!
واستغلَّ الوزير اليهوديُّ منصبَه في طريقين:
1- العمل على إرضاء حاكمِه رضًا يَكسِب به ثقتَه، ويُعمي به عينَه، وكان ذلك الأمر ميسورًا لمثله؛ إذ شرع الوزير اليهوديُّ يثمر المال، وينمِّي موارد الخزانة حتى امتلأَتْ، وهذا هو عينُ ما يُرضي الحكَّامَ عن موظَّفيهم، ويجلب ثقتَهم حد العمى فيهم.
2- العمل لصالح دينه وبَني جلدته، راح الوزيرُ اليهودي يعمل على تعيين اليهود في كثيرٍ من المناصب الهامَّة في الدولة.
قال ابن عذاري المراكشي في كتابه المسمَّى بالبيان المغرب: أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغرالة اليهودي، وعمالًا متصرفين من أهل ملَّته، فاكتسبوا الجاهَ في أيامه واستطالوا على المسلمين[3].
وقد ساعدَتِ اليهوديَّ على إخفاء أفعاله الخبيثة، وحقيقة مآربه البعيدة – صفاتٌ كان يصبغ بها وجهَه الخارجي؛ فقد كان كما يقول عنه معاصرُه ابن حيَّان – المؤرِّخ الأندلسي الشهير -: “وكان هذا اللَّعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال علمًا وحِلمًا، وفهمًا وذكاء، ودماثة وركانة، ودهاء ومكرًا، وملكًا لنفسه، وبسطًا من خلقه، ومعرفةً بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالًا لحقودهم بحلمه، ناهيك من رجل كتَب بالقلمين، واعتنى بالعلمين، وشغف باللِّسان العربي، ونظر فيه، وقرأ كتبه، وطالع أصولَه، فانطلقت يدُه ولسانه، وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي، فيما احتاج إليه من فصول التحميد لله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، والتزكية لدين الإسلام، وذكر فضائله – ما يريده، ولا يقصِّر فيما ينشئه عن أوسط كتَّاب الإسلام، فجمع لذلك السجيج في علوم الأوائل الرياضية، وتقدَّم منتحليها بالتدقيق للمعرفة النجومية، ويشارك في الهندسة والمنطق، ويفوق في الجدَل كلَّ مستولٍ منه على غاية، قليل الكلام مع ذكائه، ماقتًا للسباب، دائم التفكُّر، جمَّاعة للكتب”[4].
مضى إسماعيلُ هذا طيلة حياته يؤسِّس لكيانٍ يهوديٍّ في غرناطة، يحكر عليهم المناصبَ العليَّة، ويملكهم المقدرات الكبيرة، ثم إنَّه هلَك، فهل يكتفي باديس بذلك؟ كلا، لقد ندب باديس ابنَ وزيره الهالِك هذا، وكان اسمه يوسف، فولَّاه ما كان لأبيه من أعمال، وكان الابن صنو أبيه عملًا وحيلة، يتمتَّع بذكاء ودَهاء كبيرين مثل أبيه، وقد مكَّنتْه هذه الصِّفات لدى باديس، وساعدَتْه يدُ أبيه السابقة عند باديس، إضافة إلى خبرته بتجربة أبيه التي كانت تهديه طريقَه، فغدا أوَّل رجل في الدولة، وأمضاهم تصرُّفًا في شؤونها.
وقد مضى مع ذلك في استكمال أعمال أبيه القَذِرة، لكن في شيء من العلن، يؤزُّه عليه ذلك التمكُّنُ الذي صار له، مع وراثته الأمر كابرًا عن كابر؛ ذلك كله مع غروره بالنَّجاح الذي حصَّله والده في نفس الطَّريق، فجعله يسعى بنشاط في سبيله.
وسرعان ما ظهر ذلك كله للناس، وكان موضع حديثهم في أيامهم صبحَ مساء، وساءت هذه الأفعالُ جموعَ المسلمين، وأصبح أثرها في نفوسهم شديدًا؛ إذ كيف يقبلون أن يرفع ذلك اليهوديُّ من شأن طائفته وأهلِ ديانته ويعزَّهم على حساب المسلمين؟! ثم لا يكتفي بما كان من عمل أبيه في الخفاء، لقد صبروا مع مضض على عمل ذلك مع جيلهم وجيلٍ آخر سبقهم، حتى يستعلن عمله ويظهر، وتفشو رائحته وتنتشر، ماذا عساه يفعل إن طالت به الحياة، أو جاء ابنه من بعده في موضعه؟!
كانت كل هذه الأسئلة – ومعها الحيرة والقلق والغضب – تعتمل في نفوس المسلمين، وتحنقهم على ذلك اليهوديِّ وطائفته، وساءهم أنَّ السلطة يومئذٍ – ممثلةً في باديس بن حبوس وملئه – لا تسمع لشكواهم، ولا تحسُّ بحالهم!
“وكان على رأس هؤلاء الغاضبين من نفوذ اليهود: الأمير بلقين؛ ولد باديس الأكبر، ووليُّ العهد من بعده؛ حيث كان يجاهر ابن نغرالة هذا بالعداوة ويسعى لإسقاطه وقتلِه، وكان يتضامن مع بلقين بعضٌ من رجال الدولة وشيوخ صنهاجة الكبار.
وكان يوسف اليهودي من جانبه يضع عيونَه وجواسيسه من خاصَّة باديس في القصر وفي الحريم، فلا يكاد باديس يأتي بحركة، أو تَصدر عنه كلمة، حتى يقف عليها لفوره، وكذلك بالنِّسبة لبقلين، وعرف يوسف من جواسيسه بنيَّة بلقين في التخلُّص منه، فأسرع هو ودسَّ على بلقين مَن وضَع له السُّمَّ في شرابه، فمات بلقين مسمومًا، وكانت صدمةً كبيرة على باديس، وأفهمه يوسف اليهودي أنَّ بعض فتيان ولده بلقين وجواريه هم السَّبب في ذلك، فقَتَل منهم عدَّةً، وفرَّ الباقون، وكان ذلك سنة 456هـ.
بعد مَقتل بلقين، ازداد باديس انطواءً على نفسه، وفوَّض الأمورَ كلها لليهودي، الذي زاد في طغيانه المرهِق لأهل غرناطة؛ بغيةَ جمع الأموال، واستسلم لذلك الطُّغيان والجبروت الجميعُ عدا رجل واحد اسمه الناية، وهو رجلٌ خدم باديس وقام له ببعض المهام الخطيرة، حتى ارتفعَتْ مكانتُه عند باديس، ووقع التنافس بينه وبين يوسف اليهودي، وكان الناية يحرِّض باديس على وزيره اليهودي ويكشف له عيوبَه كلَّما سنحَتِ الفرصة”[5].
ذلك كان شعور جميع المسلمين يومئذٍ في غرناطة تجاه ذلك الوزير اليهودي، وأبو إسحاق الإلبيري يومئذٍ واحد من المسلمين، يسوءه ما يسوءهم، ويحزِنُه ما يحزنهم، وفوق ذلك هو شاعر مرهف الحسِّ يجد في الشيء الخفيف الوطءِ على غيره ثقلًا، ثم هو رجل زاهِدٌ واعظ، وحكيمٌ ناصح، وهو بهذا من مقدَّمي المسلمين بلا شك؛ ولهذا كلِّه نهض رحمه الله يدافِعُ عن حقِّ الإسلام، ويبيِّن غَضْبةَ علمائه، ويعلن استنكارَ أبنائه لما يقع، وقد عبَّر عن ذلك بطريقته البيانيَّة العالية، في قصيدةٍ شعرية مشهورة، أنكر فيها ذلك الأمر وبيَّن خلالها مساويه، وتكلَّم فيها بالحقِّ غير هيَّاب، يقول فيها مطلعها:
ألا قُل لصنهاجةٍ أجمعين بدور النَّديِّ وأُسْدُ العرينْ
لقد زلَّ سيِّدُكم زلَّةً تقرُّ بها أعينُ الشامتينْ
تخيَّر كاتبَه كافرًا ولو شاء كان مِن المسلِمينْ
فعزَّ اليهودُ به وانْتخوا وتاهوا وكانوا مِن الأرذلِينْ
ونالوا مُناهم وجازوا المدى فحان الهلاكُ وما يَشعرونْ
وهو يرى في المسلمين غُنية عن هذا اليهودي الكافِر الذي خدَم أبناءَ دينه على حساب المسلمين؛ وهذا حقٌّ، فكم في المسلمين من كفاءات عليا! يُؤثِرُ عليها الحكَّامُ مَن هم أدنى منهم فيها، ويهضمونهم حقوقهم، بل واللهِ ولو كانوا أقلَّ منهم كفاءة وكان مثل هذا الموضع، ما صحَّ أن يُقدَّم غيرُ المسلم على المسلم ويوضع فوق رأسه؛ فلا الدِّين يقول بهذا ولا العقل!
ولله درُّ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إذ بلغه مثلُ ذلك عن بعض وُلاته، فما كان مِن عمر إلا أن أمره بنَقض ذلك ورد الأمر إلى نصابه.
يروي نظام الملك الطوسي في كتابه “سياست نامه” أو سير الملوك، وهو كتاب متخصص في نُصح الحكَّام والساسة – أنَّ والي العراق في خِلافة عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص قد أقدم على تعيين يهوديٍّ مسؤولًا عن جباية الأموال في سواد بغداد وواسط والأنبار وتلك النَّواحي إلى تخوم خوزستان والبصرة، وأنَّ هذا المسؤول اليهودي قد تطاول على المسلمين وأساء معاملتهم، فكتبوا إلى الخليفة عمر يشكونه، ويطالبون بعَزْله، وتعيينِ رجل من المسلمين، ولما قرأ أميرُ المؤمنين الرسالة قال: أَيَتسنَّى ليهوديٍّ يعيش على وجه الأرض سالمًا أن يشعر بالتفوُّق والفضل على المسلمين؟! وأمر بأن يُكتب إلى سعد بن أبي وقاص: اعزِلْ ذلك اليهودي، وولِّ عملَه مسلمًا.
ولما قرأ سعد الرسالةَ، بحث بين المسلمين عربًا وعجمًا، فلم يجِد فيهم من هو بكفاءة اليهودي وخبرتِه، فاضطر إلى إبقائه على رأس عمله، وكتب إلى عمر يقول: “لقد امتثلتُ أمرَ أمير المؤمنين، فأحضرتُ اليهوديَّ، وعقدتُ مجلسًا جمعتُ فيه كلَّ العمَّال والمتصرفين في ديار العرب والعجم، فلم يكن في العرب مَن له دراية بأحوال العجم وشؤونهم، أمَّا عمَّال العجم، فتبيَّن لي بعد استقراء أنْ ليس فيهم مَن له كفاية اليهودي ومهارته في المعاملة، وحُسن تصرُّفه وإدارته ومعرفته الناس، لقد اضطررتُ إلى إبقائه في عمله؛ حتى لا يتسرَّب الخلَل إلى شتَّى أنواع المعاملات، ولكي يستمرَّ تحصيلُ الأموال، وإنِّي في انتظار أمر أمير المؤمنين”، فلمَّا وصلتِ الرسالةُ إلى عمر وقرأها، تملَّكه العجب، فقال: يا للعجب! يختار غيرَ ما اخترتُ، ويرى غير ما رأيتُ! وتناول القلمَ وكتب في أعلى الرِّسالة نفسها: “مات اليهودي!”، ثمَّ أعادها إليه، ولما تسلَّم سعد الرسالة، وقرأ توقيعَ عمر في أعلاها، عزل اليهوديَّ فورًا، وعيَّن مسلمًا مكانه، وتسلَّم المسلم عمله، فتبيَّن بعد سنة أنَّ ما أُنجز على يد العامل المسلم أفضل بكثير مما أُنجز على يد اليهودي، وأنَّ شؤون العمران قد نمَتْ وازدهرَتْ، حينئذٍ قال سعد بن أبي وقاص لأمراء العرب: أنعِم بأمير المؤمنين عمر رجلًا عظيمًا، فقد كتبتُ في أمر ذلك اليهودي وشؤون الولاية رسالةً طويلة، لكنَّه أجابني بكلمتين، فكان الأمرُ كما قال، لا كما كنتُ أعتقد، ونجَّانا مما كنا فيه.
لقد تأمَّل نظام الملك هذه الحادثة، وعلَّق عليها مخاطبًا حكَّامَ زمانه والحكامَ في كلِّ عصر، فقال: “إنَّ ما عناه عمر بقوله: ماتَ اليهودي، هو هَبْ أنَّ اليهودي قد مات، وكلُّ نفس ذائقةُ الموت، فالموت بمثابة العَزْل عن العمل، واعلم أنَّ العمل يجب ألَّا يتوقَّف بموت أيِّ عامل أو عزلِه، بل ينبغي ندب رجلٍ آخر له، فَلِمَ تظل عاجزًا؟!”.
وقال: “إنَّ الملك زينته العمَّال، عمَّال الخراج، وكبار الجيش، وإن على رأس كلِّ العمال والمتصرفين وزيرًا، فحين يكون الوزير سيِّئًا خائنًا، ظالمًا متطاولًا، يكون العمَّال جميعهم كذلك، بل أسوَأ، وأكثر خروجًا على القواعد والأصول المرعيَّة، وإذا ما وُجد ثمَّة عامِلٌ بارع في إدارة دفَّة الأمور، أو كاتبٌ أو مستوفٍ أو خبيرٌ في أنواع المعاملات، ممَّن لا نظير له في المملكة، من ذَوي المذاهب السيِّئة والعقائد الفاسدة؛ من مثل اليهود والنَّصارى والمجوس، وآذى المسلمين واستخفَّ بهم، لحجةٍ في العمل أو الحساب، فتجب تنحيتُه ومعاقبتُه إذا ما تظلَّموا منه واشتكوا، ولا يغرنَّك قولُ شفعائه: إنَّه لا يوجد في المملكة كلِّها كاتبٌ أو محاسب أو عامِل مثله، إن يُنَحَّ عن عمله فإنَّ أضرارًا بالغة ستلحق بالمعاملات جميعها، ولا يستطيع أحد أن يقوم بهذه المهمَّة بعده! إنَّهم يَكذبون، وينبغي ألَّا يُصغى إلى كلامهم، بل يجب استبدالُ ذلك الشخص بآخر، مثلما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد ورَد مثل هذا في كتاب عمر لأبي موسى رضي الله عنهما بشأن كاتبه النَّصراني؛ إذ كتب إليه يقول: “لا تكرِموهم إذ أهانهم الله، ولا تأمَنوهم إذ خوَّنهم الله، ولا تُدنوهم إذ أقصاهم الله”، فلمَّا قال له أبو موسى: لا قوام للبَصرة إلا به!
قال عمر: “مات النَّصرانيُّ والسَّلام!”؛ يعني: هَبْ أنَّه قد مات، فما كنتَ صانعًا حينئذٍ فاصنعه الساعةَ واستعِنْ عنه بغيره”[6]، وقد ذكر أبو يعلى أنَّ الإمام أحمد سئل: أيُستعمل اليهوديُّ والنَّصراني في أعمال المسلمين مثل الخَرَاج؟ فقال: لا يُستعان بهم في شيء[7].
وهذه النصوص تؤكِّد على أنَّه يُشترطُ فيمن يمارِس الرقابةَ الماليَّة أن يكون مسلمًا؛ لأنَّها سُلطة وولاية، وليس لغير المسلم ولايةٌ على المسلم، خاصَّة وأنَّ الرقابةَ قد تصِل إلى وليِّ الأمر في الدَّولة الإسلاميَّة، فكيف نسوغ لغير المسلم مثل هذه السلطة والولاية[8]؟!
وأيضًا لأنَّ مِن شروطها الأمانة، وغير المسلم ليس بأمين[9].
لقد أكَّد نظام الملك أنَّ قول عمر: “مات اليهودي” سيظلُّ مَضرب المثَل في العرب والعجم إلى يوم الدِّين، “فأنَّى وُجد عامِلٌ يجيد مهنةَ الكتابة، وله مَهارة وخبرة في إدارة الأمور وتصريفها، لكنَّه متطاولٌ ظالمٌ خبيثُ المذهب، وأريد لهذا تنحيته، فيتصدَّى شفعاؤه ومَن يحدبون عليه قائلين: يجب ألَّا يُعزل؛ فهو كاتبٌ ممتاز، وعامِل جَلْدٌ، وليس ثمَّة مَن هو أفضل منه هو في عمله، وأمثال هذا الكلام، فما على الحاكِم إلَّا أن يقول: “مات اليهوديُّ”، فبهاتين الكلمتين تُردُّ أقوالهم كلها وتبطل، ويُعزل ذلك العامل”[10].
إنَّ كفاءة اليهودي لا تَعني إطلاقًا أن يُرفع فوق رؤوس المسلمين، وأن تكون له الولاية عليهم، وأن يَستذِلَّ صالحيهم، ويبعد أكْفاءهم، ويحقر كبراءَهم، ويستأثر هو وآلُه بخيرات المسلمين دونهم، وذلك كله قد حدَث، وأبو إسحاق يعبِّر عن ذلك في قصيدته فيقول:
فكم مسلمٍ فاضِلٍ قانتٍ لأرذلِ قردٍ مِن المشركينْ
وما كان ذلك مِن سَعْيِهم ولكنَّ منَّا يقومُ المُعينْ
فهلَّا اقتدى فيهمُ بالأُلى مِن القادةِ الخِيرَةِ المتَّقينْ
وأنزلهم حيثُ يستأْهِلون وردَّهمُ أسفلَ السَّافلينْ
وطافوا لَدينا بأَخْراجِهم عليهم صَغارٌ وذلٌّ وهُونْ
وقَمُّوا المزابلَ عن خِرقةٍ ملوَّنة لدِثارِ الدفينْ
ولم يَستخِفُّوا بأعلامِنا ولم يَستطِيلوا على الصَّالحينْ
ولا جالَسوهم وهمْ هُجْنةٌ ولا واكبوهم معَ الأقرَبينْ
إنَّه لا ينبغي أن يَغيب عن العاقل النَّابِه حجمُ الخطَر البعيد، ولا رؤية المتخفِّي منه، ولا ألاعيب الماكِر به، إنَّه يجب أن يَنظر إلى ما وراء ذلك: ماذا بعد أن يمكَّن ليهوديٍّ في أرض؟ ثم إنَّه مَكَّن لأقربائه وأهل ملَّتِه، ثم إنَّه أذلَّ المسلمين واستأثر دونهم بكلِّ نفيس، ماذا يكون بعد؟!
ذلك كله بأموال المسلمين وخيراتهم، لم يأتِ ذلك اليهوديُّ ولا آله بشيء من عندهم أو بجهدهم!
لقد راح أبو إسحاق يستحثُّ باديسَ على التنبُّه إلى خطَرِ ما يفعله، وسوءِ ما ينتظر من ورائه، ويلفت ذلك الرئيسَ إلى أنَّه أخطأ إذ عَهِد بهذه المهمَّة إلى ذلك اليهودي، فكيف ذلك؟ أوَ يؤتمن الخائن، ويصاحَب الفاسِق، ويُستخدم العميل؟! ألا ما أبعد ذلك عن عَين الحكمة والصَّواب، يقول أبو إسحاق رحمه الله:
أباديسُ أنت امرؤٌ حاذقٌ تصيبُ بظنِّك نفسَ اليقينْ
فكيف اختفَتْ عنك أعيانُهم وفي الأرضِ تُضربُ منها القرونْ
كيف تحبُّ فِراخَ الزِّنا وهم بغَّضوك إلى العالَمينْ
وكيف يتمُّ لك المُرتقى إذا كنتَ تَبني وهم يَهدِمونْ
وكيف استنمتَ إلى فاسقٍ وقارنتَه وهْوَ بِئْسَ القَرينْ
وقد أنزلَ اللهُ في وَحْيه يحذِّر عن صُحبةِ الفاسقينْ
فلا تتَّخِذْ منهمُ خادمًا وذَرْهُم إلى لعنةِ اللاعنينْ
فقد ضجَّتِ الأرضُ مِن فسقِهم وكادَتْ تميدُ بنا أجمعينْ
تأمَّل بعينَيْك أقطارَها تجِدْهم كلابًا بها خاسِئينْ
وكيف انفردتَ بتقريبِهم وهم في البلاد مِن المُبعَدينْ
على أنَّك الملِكُ المرتضَى سَليلُ الملوكِ مِن الماجدينْ
وأنَّ لك السَّبْقَ بين الوَرى كما أنتَ مِن جِلَّةِ السَّابقينْ
وإنِّي احتَلَلْتُ بغرناطةٍ فكنتُ أراهم بها عابِثينْ
وقد قسَّموها وأعمالَها فمِنهم بكلِّ مكانٍ لَعينْ
وهم يقبضون جباياتِها وهم يَخضِمون وهم يَقضمونْ
وهم يَلبسون رفيعَ الكُسَا وأنتم لأَوْضعِها لابِسونْ
وهم أُمناكم على سِرِّكم وكيف يكونُ خؤونٌ أمينْ
ويأكلُ غيرُهمُ دِرهمًا فيُقصى ويُدنَون إذ يَأكلونْ
إنَّه لا يُقبل في دين الله ما يَجري ويَحدث، ولا يُقبل في أذهانِ العُقلاء، وليس مِن أعراف قومٍ جاهلين مخدوعين ليس لهم بيان مِن الله في كلِّ شأن صَغُر أو كبر، فكيف بالمسلمين وعندهم مِن الله في أولئك ما ليس لأحد؟! وهو بيانٌ صادِق تامُّ الصِّدق، واضحٌ كامل الوضوح، ومَن أصدق من الله قِيلًا؟! ومَن أصدق من الله حديثًا؟! فكيف يستخفُّ بآيات الله هذا الاستخفاف، وكيف يتجاهل عليها كل هذا الجهل، ويتجاوز في حقِّها كل ذلك التجاوز؟! إنَّه لمنكورٌ في قلب كلِّ مسلم ومزعج لنفسه تصوُّرُ ما عليه هؤلاء، فكيف يقبل أن يكون حالهم ذلك؟! بل يضاف عليه حال ما يذكُرُه بقوله:
وقد ناهَضوكم إلى ربِّكم فما تَمنَعون ولا تُنكِرونْ
وقد لابسوكُم بأسحارِهم فما تَسمعون ولا تُبصرونْ
وهم يَذبحون بأسواقِها وأنتم لأطرافِها آكِلونْ
ورخَّم قردُهمُ دارَه وأَجرى إليها نميرَ العيونْ
فصارَتْ حوائجُنا عنده ونحن على بابِه قائمونْ
ويضحكُ منَّا ومِن دينِنا فإنَّا إلى ربِّنا راجعونْ
ولو قلتَ في مالِه: إنَّه كمالِكَ، كنتَ مِن الصَّادقينْ
إنَّ من الواجب شرعًا، وسياسة وعقلًا وحكمةً – أن يُبعد هؤلاء ولا يُقرَّبون، ويُقصَون ولا يُدنَون؛ بل تجب معاقبتُهم على إجرامهم في حقوق الله ودينِه وكتابه، وحقوق علمائه وخلقِه وعبادِه:
فبادِرْ إلى ذَبْحِه قُربةً وضَحِّ بهِ فَهْو كبشٌ سَمينْ
ولا ترفعِ الضَّغطَ عن رهطِه فقد كنَزوا كلَّ عِلقٍ ثَمينْ
وفرِّق عُراهم وخُذ مالَهم فأنت أحقُّ بما يَجمعونْ
وليس في إبعادهم ولا معاقبتِهم ولو بالذَّبح غَدْرٌ بهم؛ فهم كانوا أسبقَ إلى الغَدر حين تعدَّوا حدودَ ما لهم، وتجاوَزوا إلى ما لا ينبغي أن يفعلوا، فهم الناكِثون أوَّلًا، والغادِرون أوَّلًا، والماكرون أولًا، ولا يُلام مَن قابَل الناكِثَ بنكث والماكِرَ بمكر؛ بل هو العدل؛ إذ يقابَل بمثل ما فعل، ويعاقَب بمثل ما عاقب به.
ولا تحسبَنْ قَتْلَهم غَدْرةً بلِ الغدرُ في تركِهم يَعبثونْ
وقد نكثوا عهدَنا عندهم فكيف تُلام على النَّاكثينْ؟
وكيف تكونُ لهم ذمَّة ونحن خُمولٌ وهم ظاهِرونْ
ونحن الأذلَّةُ مِن بينهمْ كأنَّا أسأْنا وهم محسِنونْ
فلا ترضَ فينا بأفعالِهم فأنت رهينٌ بما يَفعلونْ
وراقِبْ إلهَك في حِزْبه فحِزبُ الإلهِ همُ الغالِبونْ
إنَّ أبا إسحاق لا ينسى أن يُذكِّرَ باديس في نِهاية الأمر بأنَّ الغلَبَة لحزب الله تبارك وتعالى في عاقِبة الأمر ونهايته، سواء فعَل ما أوصاه به أو لم يَفعل، فإنَّ الله ناصِرٌ دينَه ونبيَّه وكتابَه وأحكامَه وعبادَه المؤمنين.
ويَظهر أنَّ باديس قد أصمَّ أُذنيه وأعمى عينيه، فلم يلتفِت إلى عِظة أبي إسحاق التي تعبِّر بلُطفٍ شديد عن صرَخات قلوب المؤمنين، فلم يعزِلِ الوزيرَ اليهودي؛ بل تركه في موضعه، وكأنِّي بالمسلمين قد ضاق بهم الحالُ ذرعًا وكانوا يَنتظرون كلمةً دافعة ليَنفجروا معبِّرين عن حالهم، وما أنْ سمعوا كلماتِ أبي إسحاق في قَصيدته حتى اشتعل السخط الشَّعبي داخل غِرناطة ضد ذلك الوزير يوسف خاصَّة، وضد اليهود عامَّة! “وشاعتِ القصيدةُ في التحريض على سَحْقِ اليهود، وانتشرَتْ كالنَّار في الهشيم، وألهبَتْ مشاعرَ الشَّعب الغرناطي، وكانت الشَّرارة التي أضرمَتِ الحريق”[11]، فانتفضوا وثاروا على الوَزير اليهودي، يتقدَّمهم علماء وشيوخ المدينة، ففرَّ اليهوديُّ إلى قَصر باديس يَحتمي به، فاقتحم الجمهورُ عليه القصرَ وأمسكوا به، ثمَّ قتَلوه وصلبوه على باب غِرناطة، وقيل: اختفى في بيت فحم، وسوَّد وجهَه وتنكَّر، فعرفوه، وقتَلوه وصلبوه على باب غِرناطة، ثمَّ كرُّوا على أصحابه وصنائعه ففَتَكوا بهم[12]، وكان جملةُ مَن قُتل معه ستين ألفًا من اليهود.
بذلك وضَع الأهالي حدًّا لاستِبداد باديس برأيه، وظُلمِ وزيره وبَنِي جلدته.
لقد كانت هذه الحادثة عجبًا مِن العجب، فلم يُعرف إلَّا في القليل النَّادر أن أبياتًا من الشِّعر لعبت دورًا سياسيًّا مباشرًا في التاريخ السياسي لأمَّةٍ من الأمم، فكهربت العزائمَ ودفعَتْ بها في سرعة خاطفة إلى إشعال الحرائق، وشحذِ السُّيوف للقتل – كالدور الذي لَعبته هذه القصيدة، ولعلَّ الشِّعر الأندلسي لم يَعرف أبدًا البساطة عاريةً كما عرفها في هذه القصيدة، وفي الوقت نفسه لم يُرَ قصيدة مثلها يلفها مثل هذا الإعصار مِن المشاعر، لقد اجتاحَتْ أنغامُها حيَّة متوهِّجة أعماقَ المدينة مع زفير النيران وحشرجة القصيدة، كما يقولُ الناقد الأدبي الإسباني “أميليوغراسيا غوميز”[13].
وجديرٌ بالتقرير هنا مسألة مهمَّة؛ وهي أنَّ اليهود قبل هذه الحوادث كانوا يعيشون عزًّا وحريَّةً ورفاهية، فوق الوجه الذي أمَّلوه حين دخول المسلمين الأندلس؛ إذ أنقذوهم من سوء العذاب الذي سامهم إيَّاه القوط؛ فقد كان “ملوكهم يعاملونهم نفس السوء الذي يعاملُهم به أهلُ سائر البلدان النَّصرانية في أوروبا، بل إنَّ العامَّة كانت تعاملهم بمنتهى القسوة، وكان القائمون على الكنيسة وحُكام الدَّولة ينهبون ويتلفون أموالهم بلا حياء ولا رحمة”[14]، فلما دخل المسلمون الأندلسَ، أعفوهم من ذلك كله، بل أعطوهم حريَّةَ الاعتقاد، وحرِّيةَ العبادة، وحرية العيش والعمل.
وقد أخطأ حكَّام الأندلس – بدايةً من المستعين الخليفة الأموي، حتى باديس هذا ملِك غرناطة – في ترقية هؤلاء اليهود إلى المناصب العالية الرفيعة؛ لأنَّ اليهود لا ينسَون أبدًا أنَّهم يَهود، ولا يخلِصون لدولتهم؛ بل لدينهم ولبني جِنسهم فقط، فلُدِغوا من جرَّاء ذلك، ولا يزال المسلمون في كلِّ مكان يُلدغون من اليهود ولا يَعتبرون!
♦ ♦ ♦
كان مِن نتائج تلك الثورة العارمة أيضًا أنَّ باديس نفى أبا إسحاق – صاحب الشرارة الأولى في تلك الثورة بقصيدته الكاشِفة لألاعيب الوزير ونيَّاته المرعبة – إلى إلبيرة، ولعلَّه فعل ذلك إذ لم يستطع اتِّخاذ إجراء فوقَ هذا معه؛ لأنَّه كان على الحقِّ وبه نطق، ولأنَّ الناس كلهم يومئذٍ كانوا على قلْبِ رجلٍ واحد هو أبو إسحاق الإلبيري.
إنَّ تلك النتيجة التي انتهت إليها هذه الأحداث العَصيبة – تدعونا إلى تساؤلٍ واجب يلحُّ علينا: ألم يكن الأَولى من ذلك كلِّه أن يعزل باديس ذلك الوزيرَ اليهودي، ويعاقبه على جُرمه، ويزجر أبناء طائفته عمَّا اقترفوا في حقِّ المسلمين، ويردهم إلى المكانة اللائقة بهم؟!
أمَا كان ذلك أولى وأوجب؟ بدل أن يتولَّى الناس بأنفسهم إزاحته من طريقهم بمثل هذه الثورة التي اهتزَّت لها جنباتُ غرناطة!
ألا تعسًا للنَّظر الفاسِد، وللسياسة المتكلِّسة!
رحَّل الفقيهَ الورِع الزَّاهدَ أبا إسحاق إلى إلبيرة، نتيجة لوقفته ضد التعدِّي على الشرع الحنيف، وضد الاستبداد بخيرات المسلمين، وضد طُغيان اليهود على المسلمين، وهناك مات سنة 460 هـ، رحمه الله وأجزل مثوبته في الجنة، آمين.
(المصدر: شبكة الألوكة)