أبعاد المؤامرة المجوسيَّة-النُّصيريَّة لتدمير الشَّام 5 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
العلمانيَّة أداة دحْر أهل السُّنَّة
عمل حافظ الأسد على الحدِّ من النُّفوذ السُّنِّي في سوريا منذ بداية حُكمه؛ فطبَّق نظامًا علمانيًّا يحتكم إلى القوانين الوضعيَّة، واقتصر الاحتكام إلى الدِّين على حالات الأحوال الشَّخصيَّة، مع مراعاة التَّشريعات الخاصَّة بكلِّ طائفة دينيَّة في الحالات التي ينظر فيها القضاء. لم يمنع نظام الأسد تدريس التَّربية الدِّينيَّة في المدارس السُّوريَّة، ويقتصر ذلك على التَّربية الإسلاميَّة والمسيحيَّة. ويذكر ملخَّص كتاب وورن أنَّ محتوى مادَّة التَّربية الدِّينيَّة الإسلاميَّة يعبِّر عن “إسلام سنِّي تقليدي، ولا يوجد أي ذكر للأقليَّات الإسلاميَّة”، وكأنَّما أراد الباحث أن يلمح إلى أنَّ المنهج الإسلامي الملقَّن للطلاب السُّوريين لم يعلِّمهم احترام أبناء الطَّوائف الدِّينيَّة الأخرى، بما فيها الطَّوائف المحسوبة على الإسلام، وكذلك المذاهب السُّنيَّة ذاتها (ص12).
استخدم الأسد القوَّة المفرطة في التَّعامل مع المعترضين على تجاوزات النِّظام الحاكم، فيما عُرف بـ “الانتفاضة الإسلاميَّة في سوريا”، ويطلق عليه النِّظام الحاكم “تمرُّد الإخوان المسلمين في سوريا”. وكما يشير باتريك سيل في كتابه Asad: The Struggle for the Middle East-الأسد: الصِّراع على الشَّرق الأوسط (1988م)، بدأ الصدِّام بين الإخوان المسلمين في سوريا وحزب البعث بعد انقلاب البعثيين في 8 مارس 1963م، على النِّظام القائم حينها بسبب استئثاره بالسُّلطة؛ والسَّبب هو معارضة الإخوان للنِّظام الاشتراكي الذي طبَّقه البعثيون في الحُكم. يضيف باتريك سيل في كتابه آنف الذِّكر أنَّ الشَّعب السُّوري واجَه صعود البعثيين إلى السُّلطة بمظاهرات عارمة استمرَّت خلال عامي 1964 و1965م، عمَّت البلاد، وبخاصَّة في مدينة حماة، التي كان الأسد يشكِّك في ولائه لنظامه. تعامَل النظام البعثي مع تلك المظاهرات بالقوَّة المفرطة، كما فعل حافظ الأسد بعد وصوله إلى سدَّة الحُكم، وبخاصَّة لمَّا أصدر دستورًا جديدا في يناير 1973م، لا ينصُّ على أن يكون رئيس سوريا مسلمًا. كما ورد في كتاب Middle Eastern leaders and Islam-قادة الشرق الأوسط والإسلام: توازن غير مستقر (2007)، نظَّم الإخوان المسلمون مظاهرات واسعة النِّطاق في حمص وحماة، وصفوا فيها الأسد بـ “عدو الله”، ونادوا بإعلان “الجهاد ضدَّ حُكمه” (ص55). وقد شهدت الفترة ما بين عامي 1976 و1982 عددًا من الانتفاضات والتمرُّدات على نظام الأسد، ربَّما تكون انتفاضة حماة في فبراير من عام 1982م من أشهرها، ولعلَّها كانت آخرها، بعد أن أخمدها النِّظام باستخدام العنف المفرط، الذي أوقع آلاف الضَّحايا، وفق ما جاء في كتاب باتريك سيل (1988م، ص334) آنف الذِّكر وكتاب Dreams and Shadows: the Future of the Middle East-الأحلام والظلال: مستقبل الشرق الأوسط (2008م، ص243-248).
حماة قبل القصف
حماة بعد القصف
هذا وقد نشرت مجلَّة فورين بوليسي الأمريكيَّة في 21 سبتمبر من عام 2012م، مقالًا تحت عنوان “التَّاريخ يعيد نفسه: تقرير البنتاغون السِّري الواجب قراءته عن مجزرة سوريا لعام 1982″، تذكِّر فيه باتِّباع الأسد الابن نهج الأب في قمع الانتفاضة الشَّعبيَّة التي اندلعت في 15 مارس من عام 2011م، والتي يطلق عليها النِّظام “حربًا أهليَّة، وراح ضحيَّتها بحث تقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان في مارس 2018م، ما يزيد على 350 ألف شخص، بالإضافة إلى 5.5 مليون مهجَّر خارج البلاد.
يشير مقال فورين بوليسي إلى تقرير أعدَّته وكالة استخبارات الدِّفاع الأمريكيَّة (DIA) في أبريل 1982م، في أعقاب المجزرة الشَّنيعة التي استخدم فيها نظام الأسد الطائرات والمدفعيَّة لتدمير مدينة حماة وقمْع “انتفاضة الإخوان المسلمين”. وجاء في نصِّ تقرير وكالة استخبارات الدِّفاع الأمريكيَّة “لم تزل استراتيجيَّة الأسد قائمة على إدراك أنَّ غالبيَّة السوريين، بغضِّ النَّظر عن اختلافهم مع الحكومة الحاليَّة، لا يريدون الإخوان المسلمين في السُّلطة، رغم أنَّهم بلا شك يفضِّلون حكومة من المسلمين السُّنَّة] بدلًا من طائفة الأسد العلويَّة [“. ويضيف مقال فورين بوليسي أنَّ هناك “تناقُض” في تقرير وكالة استخبارات الدِّفاع الأمريكيَّة بين عدد الضَّحايا المشار إليه، والذي لا يتجاوز 2000 شخص، وبين تقدير المراقبين المستقلِّين، منهم الصُّحافي البريطاني روبرت فيسك واللجنة السُّوريَّة لحقوق الإنسان، الذي أفاد بأنَّ عدد الضَّحايا يتراوح بين 20 ألف و40 ألف شخص، قُتلوا جميعًا في شهر فبراير من عام 1982م، أي خلال أسابيع معدودات.
يبدو أنَّ التَّاريخ تكرَّر في ستِّينات القرن الماضي ليعيد مشهد تسلُّط جنرالات الجيش العثماني المنتمين إلى حركة الاتحاد والتَّرقِّي العلمانيَّة، على حُكم الشَّام في العقد الثَّاني من القرن العشرين، بوصول جنرالات جيش الجمهوريَّة السُّوريَّة من قيادات حزب البعث الاشتراكي، قومي الفكر وعلماني الأداء، إلى الحُكم في الستِّينات. أفضت الأوضاع المزرية في ظلِّ حُكم جمال باشا، جنرال حركة الاتحاد والتَّرقِّي، إلى انهيار الحُكم العثماني في الشَّام وفتْح الباب على مصراعيه أمام زحف قوَّات لورانس العرب عام 1917م، ليُستبدل حُكم دولة الخلافة بالانتداب الفرنسي عام 1920م. وتجدر الإشارة إلى أنَّ تعاوُن حزب البعث السُّوري مع قيادات حركة فَتَح الفدائيَّة أدَّى إلى اندلاع حرب الأيَّام الستَّة في 5 يونيو 1967م، لتُحتل مرتفعات الجولان منذ حينها إلى يومنا هذا.
تكوين الهويَّة العلويَّة
كما سبقت الإشارة، يُعتقد أنَّ النُّصيريَّة انبثقت عن الشِّيعة الاثني عشريَّة في القرن الثَّالث للهجرة، وقد ذكر الدُّكتور وجيه محيي الدِّين في العدد الثَّامن لمجلَّة (النَّهضة)، الصَّادر في يوليو من عام 1938م، أنَّ الهويَّة العلويَّة نشأت منذ وفاة النَّبيِّ (ﷺ)، الذي اعتُبر عليُّ بن أبي طالب وصيُّه ووزيره والأولى بخلافته؛ لينشأ ما سمَّاه محيي الدِّين “الحزب العلوي” في سقيفة بني ساعدة، حيث بويع أبو بكر الصِّديق (رضي الله عنه وأرضاه) في عام 11ه. يشير وورن في دراسته (2007م) إلى نزوح العلويين إلى سوريا وتتُّهم بالحكم الذَّاتي في القرن العاشر الميلادي في دولة حلب، التي كانت تقع على حدود الدَّولة البيزنطيَّة المسيحيَّة. وعاش العلويون في كنف الصليبيين بعد غزوهم الشَّام في القرن الحادي عشر الميلادي، حياة هادئة، وكانت علاقتهم ببعضهم “علاقة تعاوُن متبادل” (ص14). تلقَّى العلويون صفعة قويَّة في عام 1266م، عندما أصدر الظَّاهر بيبرس مرسومًا يقضي بأنَّ الإسلام هو دين الدَّولة الرَّسمي، ممَّا أدَّى إلى تجاهُل أبناء تلك الطَّائفة في توزيع المناصب. وكانت الصَّفعة التي تلقَّاها العلويون عام 1305م أشدَّ من السَّابقة، بأن أصدر شيخ الإسلام ابن تيمية فتواه آنفة الذِّكر بتكفير العلويين؛ ممَّا أدَّى إلى تحوُّل القمع الذي كان يتعرَّض له العلويون إلى “اضطهاد وقتل وحشي”، وتعتبر مجزرة كسروان في لبنان أشهر حالات إبادة العلويين (ص14). وجاء الفتح العثماني للشَّام عام 1516م ليحمل مزيدًا من التَّهميش والنَّبذ للعلويين، الذين “ذُبحوا على نطاق واسع غير مسبوق” و “طُردوا من حلب وغيرها من المدن الكبرى”؛ لينزح أبناء الطَّائفة العلويَّة إلى ما يُعرف بجبال العلويين. اضطرَّ العلويون إلى العمل في خدمة أهل السُّنَّة، ويتعرَّضون لأبشع الانتهاكات، كما كانت انتفاضاتهم تُقمع على يد ولاة الدَّولة العثمانيَّة، كما ينقل الباحث (ص14). وظلَّ العلويون يخفون هويَّتهم ويدَّعون الانتماء لأهل السُّنَّة حتَّى صعد نجمهم وحالفهم الحظُّ مع فرض الانتداب الفرنسي على سوريا عام 1920م.
بشَّار الأسد يصلّي صلاة عيد الفطر-5 يونيو 2019م
وكما سبق الإشارة، فضَّل المستعمر الفرنسي أبناء الأقليَّات من الطَّوائف غير السُّنيَّة على أهل السُّنَّة، المفترض أنَّهم كانوا العنصر السَّائد قبل انهيار الحُكم العثماني في الشَّام. أسَّس الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، البادئ فعليًّا عام 1920م، قبل أن تقرُّه عصبة الأمم رسميًّا عام 1922م، دولة أطلق عليها “دولة جبل العلويين” في الشَّمال الغربي لسوريا تحت الانتداب الفرنسي، وكانت تشمل محافظتي اللاذقيَّة وطرطوس واستمرَّت مستقلَّة حتَّى عام 1936م، كما أسَّس الانتداب في الجنوب الشَّرقي دولة للأقليَّة الدُّرزية باسم “دولة جبل الدُّروز”.
سوريا تحت الانتداب الفرنسي
تولَّد عن حالات القمع والتَّهميش والإبادة والإخراج من الملَّة التي تعرَّض لها أبناء الطَّائفة العلويَّة على يد منتمين إلى أهل السُّنَّة شعورٌ بالنُّفور والخوف، خاصَّة مع اعتقادهم أنَّ أهل السُّنَّة يرون أنفسهم أنَّهم “الوحيدون الذين يعرفون الإسلام الحقيقي” (ص16). أمَّا عن علاقة العلويين بالمسيحيين، فهي علاقة إيجابيَّة، خاصَّة وأنَّ العلويين يعتبرون أنفسهم “متشابهين جدًّا ثقافيًّا” مع المسيحيين، علاوة على أنَّهم “يتشاركون في معتقداتهم حول القدِّيسين، ويتشاركون في عدد من مقامات الأولياء في الجبال المحيطة بالساحل السوري” (ص16).
بشَّار الأسد في أحد مساجد السُّنَّة
دور الطَّائفة العلويَّة السياسي في سوريا والمنطقة
عرفنا من قبل أنَّ نظامًا ينتمي إلى حزب البعث الاشتراكي، غالبيَّة رموزه من قادة الجيش العلويين، وصل إلى السُّلطة في ستِّينات القرن الماضي، وبلغ قمَّتها عام 1971م، بتنصيب وزير الدِّفاع وقائد القوى الجويَّة حافظ الأسد رئيسًا. يشير وورن إلى أنَّ نظام الأسد لم يكن يحبِّذ التقارب بين الطَّوائف، مع حرْص خاص على قمع الإسلاميين، ونشْر الخوف من خطر وصول التَّيَّار الإسلامي إلى الحُكم. اختلفت النَّظرة إلى العلويين مع إعلان نظام الأسد دفاعه عن قضايا الأمَّة العربيَّة، واشتراكه مع سائر أبناء الأمَّة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، الذي يشغل جزءً من أراضي سوريا منذ عام 1967م، أي في ظلِّ حُكم حزب البعث. غير أنَّ نظرة الاحترام تلك تبدَّلت بعد الاستخدام المفرط للعنف من قِبل نظام الأسد في قمْع انتفاضة الشَّعب المستمرَّة منذ مارس 2011م. بالحديث عن الدُّور الذي لعبه أبناء الطَّائفة العلويَّة على المستوى السياسي في سوريا، وبخاصَّة في مواجهة التهديد الصُّهيوني، لا يمكن التَّغافل عن تعاوُن نظام حزب البعث الاشتراكي مع منظِّمي العمليَّات الفدائيَّة ضدَّ إسرائيل، وبخاصَّة من المنتمين لحركة فَتَح الفلسطينيَّة، التي قادت ثورة ضدَّ إسرائيل عام 1965م، واتَّخذت من الجنوب السُّوري مركزًا لشنِّ عمليَّاتها ضدَّ الكيان الصُّهيوني.
المصدر: رسالة بوست