أبعاد المؤامرة العالميَّة لتنصير العالم الإسلامي7 من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
الحملة العالميَّة لتنصير المسلمين: جهود “الرسول إلى الإسلام” نموذجًا
أعدَّ الدكتور ناصر بن إبراهيم آل تويم، أستاذ الثقافة الإسلاميَّة في كليَّة الشريعة، التابعة لجامعة الإمام محمَّد بن سعود السعوديَّة، دراسة عنوانها صمويل زويمر: حياته ورحلاته (2013)، عن أهم المحطَّات في حياة المبشِّر والرحَّالة والمستشرق الأمريكي الرائد، صمويل مارينوس زويمر (1867-1952 ميلاديًّا)، الملقَّب بـ “الرسول إلى الإسلام”؛ لما بذله من جهود استهدفت تنصير المسلمين في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصَّة في شبه الجزيرة العربيَّة، مطلع القرن العشرين، بتكليف من الكنيسة البروتستانتيَّة الأمريكيَّة. وُلد صمويل زويمر لعائلة متديِّنة من أصول فرنسيَّة، لأبٍ التحق بالسلك الكنسي بعد خدمته في الجيش لسنوات، وأمٍّ لم تمنعها مشكلاتها الصحيَّة من العمل التطوُّعي في الكنيسة. كان صمويل الثالث عشر في الترتيب بين خمسة عشر ابن لتلك العائلة، مات بعضهم في الصغر بسبب تردِّي الرعاية الصحيَّة، ومن الملفت أنَّ جميع أبناء تلك العائلة سلكوا طريق العمل الكنسي، وعلى رأسهم الابن الأكبر، جيمس فريدريك، الذي أصبح لاحقًا رئيس المعهد اللاهوتي الغربي للتعليم العالي في ولاية ميشيغان الأمريكيَّة.
تعريف عام بصمويل زويمر
بدأ زويمر رحلته التَّبشيريَّة عام 1889 ميلاديًّا، في عمر الثانية والعشرين، واستمرَّت تلك الرحلة إلى عام 1929 ميلاديًّا، حينما غادر مصر، التي خدم فيها لمدَّة 16 عامًا، ليعمل أستاذًا في التَّبشير وتاريخ الأديان في معهد برنستون اللاهوتي، إلى أن تقاعد في عمر السبعين ليتفرَّغ لكتابة مؤلَّفات تخدم جهود التَّبشير. لم يكوِّن زويمر آراءه عن العالم الإسلامي من خلال القراءات فقط، إنَّما من خلال التعامل المباشر مع المسلمين في شبه الجزيرة العربيَّة وآسيا الصغرى ومصر، لمدَّة تُقدَّر بـ 40 عامًا، وقد ساعده ذلك في كتاب وتحرير مجلَّة العالم الإسلامي (Moslem World) لمدَّة 35 عامًا، والتي أسَّسها عملًا بتوصيات مؤتمر ادنبره التَّبشيري العالمي المنعقد عام 1910 ميلاديًّا. أمَّا عن بداية رحلة زويمر في العالم الإسلامي، فكانت حينما أطلق مع زميليه، القُسَّين جيمس كانتين وجون لانسينغ، البعثة العربيَّة الأمريكيَّة عام 1889 ميلاديًّا، وإن كانت لكانتين الريادة في الانطلاق إلى بيروت في ذلك العام، ليلحق به زويمر بعد إتمام دراسته في المعهد اللاهوتي، متَّجهًا إلى اليمن، ثم البصرة في العراق، ثم إلى البحرين. كرَّس زويمر جزءً من مسيرته الطويلة لكتابة مؤلَّفات تبشيريَّة تعكس الرؤية المسيحيَّة بأسلوب مبسَّط يقبله المتلقِّي المسلم، وقد قال في العدد الأول لمجلَّة العالم الإسلامي (Moslem World) “إذا كانت كنائس العالم المسيحي لتصل إلى العالم الإسلامي بالإنجيل، فيجب أن يعرفوا عنه ويعرفوه”.
أمَّا عن المذهب المسيحي الذي اعتنقه صمويل زويمر، وشكَّل أساسه العقائدي، فكان الكالفينيَّة، وهو مذهب بروتستانتي يُعرف بـ “اللاهوت المصلح”، يتميَّز بالتمسُّك بتعاليم بولس الرَّسول والقدِّيس أوغسطين، فيما يتعلَّق بالسمو الإلهي والتشديد على أنَّ البرَّ بالإيمان بالمسيح، وليس بالأعمال. ومن عقائد الكالفينيَّة الحتميَّة القدريَّة، أو التدبيريَّة الإلهيَّة، بمعنى أنَّ الربَّ قد اختار فئة من خلقه اختصَّهم بالخلاص قبل الخليقة. اعتبر زويمر أنَّ الغاية الأساسيَّة للإرساليَّات لم تكن تنصير المسلمين، إنَّما تحقيق مجد الربِّ بنشر دعوته في شتَّى أنحاء العالم. اعتمد المبشِّر الشهير على الحوار ونشر المعارف المسيحيَّة في بداية رحلته التَّبشيريَّة، خارجًا عن النمط التَّبشيري المعروف، الذي يعتمد على الإغراء بمكتسبات ماديَّة.
نشأة زويمر وتعليمه
بالنسبة إلى مسيرة زويمر العلميَّة، فقد حصل على درجة الليسانس عام 1890 ميلاديًّا من كليَّة هوب في جامعة ميشيغان، ثمَّ على الماجستير من مدرسة نيوبرونزويك اللاهوتيَّة في ولاية نيوجيرسي، كما حصل على الدكتوراه من كليَّة هوب عام 1904 ميلاديًّا، هذا بالإضافة إلى دراسته للحقوق وحصوله على شهادة دكتوراه أخرى عام 1919 ميلاديًّا من جامعة روتجرز.
أمَّا عن تنشئة المبشِّر الرائد في منطقة الشرق الأوسط، فقد أسهمت بصورة كبيرة في توجيهه إلى إطلاق رحلته الطويلة في العالم غير المسيحي. ورث صمويل زويمر عن أبيه ميله إلى نشر المسيحيَّة في الخارج، حيث أراد أبوه السفر إلى إفريقيا للمشاركة في الإرساليَّات المتَّجهة إليها. ويذكر جيه كريستي ولسون في تأريخه لسيرة زويمر في كتاب Apostle to Islam , A Biography of Samuel M. Zwemer-رسول إلى الإسلام: حياة صمويل م. زويمر (1952)، أنَّ صمويل نذرته في طفولته لخدمة الكنيسة، أسوةً بقصَّة حنَّا، أم مريم العذراء، في الإنجيل، لمَّا نذرتها لخدمة الهيكل. اعتاد زويمر منذ طفولته على المشاركة في تجديد الكنائس وبناء مرافقها، من خلال التدرُّب على حرفة النجارة، وبدأ رحلته في الوعظ في سنٍّ مبكِّرة، وكان يقرأ صفحات من الإنجيل خلال دروس الأحد. وكان زويمر ينضم صيفًا إلى الجمعيَّة الإنجيليَّة الأمريكيَّة في نيويورك، ليشارك في توزيع نُسخ الإنجيل، وفي جمع التبرُّعات لصالح جهود التَّبشير، التي كانت يكتب عنها مقالًا شهريًّا يُنشر في مجلَّة هوب. ولا شكَّ في أنَّ مطالعة مؤلَّفات من الأدب المسيحي كان له عظيم الأثر في التكوين الذهني للمبشِّر الرائد، وقد تجلَّى ذلك في مؤلَّفاته الشخصيَّة لاحقًا.
رحلات زويمر التَّبشيريَّة
بدأ زويمر في تعلُّم العربيَّة قبل سفره إلى العالم الإسلامي، ولكن حال مرض معلِّمه دون استكمال الدراسة، ليبدأ من جديد بعد سفره، كما جاء في كتاب رسول إلى الإسلام: حياة صمويل م. زويمر (1952) للكاتب جيه كريستي ولسون. اتَّخذت رحلات زويمر إلى الأقاليم العربيَّة طابعًا استكشافيًّا في البداية، وكانت اليمن ومدنها مثار اهتمامه الأكبر، وعاش فيها لفترة تحمَّل فيها ارتفاع درجة الحرارة، ومشاقَّ التنقُّل بين المدن في غياب وسائل مواصلات مريحة. لم يجد زويمر مانعًا من مخاطبة أهل اليمن في الأسواق ودعوتهم إلى الإيمان بالمسيح، باعتباره النبيِّ المخلِّص، واعتاد وقتها على توزيع نسخ من الإنجيل، وتحسَّن خلال تلك الفترة مستواه في العربيَّة. وكانت البصرة المحطَّة الثانية لزويمر، بعد فترة في مصر تدرَّب فيها على أساليب التَّبشير.
نقلًا عن دراسة الدكتور ناصر آل تويم (2013)، واجها زويمر في بداية رحلته صعوبات بسبب المعارضة القويَّة للإرساليَّات التَّبشيريَّة وقتها، كما عبَّر زويمر نفسه في كتابه Arabia, the Cradle of Islam-شبه الجزيرة العربيَّة، مهد الإسلام (1900)، حيث وصل الأمر إلى إغلاق مكاتب التَّنصير، والمطالبة بإجلاء المبشِّرين عن البلاد. ويبدو أن زويمر قد استفاد من تجربته في البصرة بعد سفره إلى البحرين، التي تردَّد عليها بداية من عام 1892 ميلاديًّا، حيث اختلفت التجربة هناك، لمَّا تركَّزت جهود التَّبشير على نشر المؤلَّفات، وقد وجد زويمر في ذلك بابًا للتبشير لا يمكن غلقه. لجأ زويمر في البحرين إلى حيلة اجتذبت إليه قلوب العامَّة، وهي تقديم خدمات علاجيَّة وتأسيس مشفً يتبع الإرساليَّة. تشجَّع زويمر بعد تجربته في البحرين على التوجُّه إلى مناطق أخرى في شبه الجزيرة العربيَّة، وكانت الأحساء والهفوف في أقصى الشرق من بين وجهاته. مارس المبشِّر المتحمِّس مهامه المعتادة، من التحاور مع الناس وبيع نُسخ الإنجيل، ولكنَّ تعطَّلت جهوده بسبب إصابته بالحمى نتيجة ارتفاع درجة الحرارة؛ فعاد إلى البحرين. لم ييأس زويمر من تجربته الأولى في البصرة، ولم تثنه عن معاودة زيارة العراق؛ فاتَّجه إلى مُدن يكثر فيها المسيحيُّون. لم تتوقف رحلات زويمر في العالم الإسلامي إلى عام 1912 ميلاديًّا، حينما عُيِّن قائدًا للتنصير في المركز الرئيس في القاهرة، باعتبارها مركزًا مؤثِّرًا في مجال التَّبشير، عاصمةً لإفريقيا والعالم العربي، نقلًا عن دراسة الدكتور ناصر آل تويم (ص676).
لم يتوقَّف صمويل زويمر عن زيارة شتَّى مُدن العالم بهدف نشر تعاليم الكتاب المقدَّس والتعريف بالمسيحيَّة، وشملت رحلاته شمال إفريقيا وغربها، وتركيا، وإيران، والسودان، وإندونيسيا، وعُمان، إلى جانب إلقائه العديد من المحاضرات في مُدن أوروبيَّة ومشاركته في تدريب المبشِّرين. ويشير الدكتور ناصر آل تويم (2013) إلى أنَّ جهود زويمر ركَّزت على “المناداة بأهميَّة تنصير المسلمين، التعرُّف على الاحتياجات التَّنصيريَّة، إصدار المطبوعات، عقد المؤتمرات المصغَّرة والاجتماعات، وتدريب العاملين في حقل التَّنصير” (ص691-692). المفارقة أنَّ عدد الذين نجح زويمر في تنصيرهم خلال رحلته الطويلة لم يتجاوز 12 شخصًا، وفق ما ورد في دراسة إل. في. ويرف التي تحمل عنوان “Our Muslim Neighbors: The Contribution of Samuel M. Zwemer to Christian Mission-جيراننا المسلمون: إسهام صمويل إم. زويمر في التَّبشير المسيحي” (1977).
في تناوُله لأهم ملامح مسيرة صمويل زويمر في دراسة عنوانها “An American Missionary to Islam: Samuel Marinus Zwemer-مبشِّر أمريكي إلى عالم الإسلام: صمويل مارينوس زويمر” (2014)، يشير الباحث الأكاديمي جلال أمانة إلى أنَّ الإسلام والمسيحيَّة أكثر الديانات اهتمامًا بالدعوة في العالم، وإن كان الإسلام يحتفظ بموقع القوَّة في مواجهة عمليَّات التَّبشير، وفي التعامل مع المسيحيَّة بوجه عام، منذ زمن نبيِّنا مُحمَّد (ﷺ)، الذي أقنع نصارى نجران بدخول الإسلام، ونشرت الأجيال الجديدة التي نشأت على تعاليم الإسلام الدين في شتَّى بقاع الأرض. مع ذلك استطاع زويمر استغلال ما يعتبره علماء اللاهوت المسيحي نقاط ضعف في الإسلام، ويأتي على رأس تلك النقاط عدم تركيز الإسلام على الخلاص البشري والتكفير عن الخطيئة، وإن اعترف بفضل النبي (ﷺ) في إصلاح شبه الجزيرة العربيَّة بدعوته. انتقد زويمر في الإسلام كذلك مفهوم الألوهيَّة، الذي يغيب عنه مظهر الحنو الأبوي لإله تجسَّد في صورة ابنه ليتقرَّب إلى البشر، ثمَّ ضحَّى بابنه الوحيد في سبيل خلاصهم. ويرى أمانة أنَّ زويمر استطاع تطويع رسالته التَّبشيريَّة بحسب المعطيات المتاحة في ذلك العصر، ولم يختلف في رأيه عن الإسلام عن معاصريه، بأن اعتبر أنَّ في التمسُّك به رجعيَّة وتشدُّد، وبالابتعاد عن تعاليمه تقدُّم ومسايرة لروح العصر الحديث. اعتبر زويمر أنَّ مهمَّة تحويل المسلمين إلى المسيحيَّة تواجه تحديًا كبيرًا، وهو إهدار دم المرتدِّين عن الإسلام؛ ولذلك حذَّر الكنيسة من ذلك الخطر الدائم.
إكمالًا لما أثاره الباحث جلال أمانة في دراسته عن زويمر (2014)، نستعرض أهمَّ ما ورد في رسالة علميَّة للباحث يؤانس بيكلي، حصل بها على درجة الماجستير في الفلسفة من جامعة برمنجهام البريطانيَّة، وعنوانها “Samuel Zwemer’s Missionary Strategy Towards Islam-استراتيجيَّة صمويل زويمر التَّبشيريَّة تجاه الإسلام” (2012). يركِّز بيكلي، تمامًا مثل أمانة، على زعم زويمر بأنَّ الإسلام مقترن بالرجعيَّة والابتعاد عنه مقترن بالتقدُّم، متَّخذًا من الإمام محمَّد بن عبد الوهَّاب نموذجًا للتشدُّد سلبي التأثير على الإسلام، ومن المفكِّر الهندي السيد أحمد خان نموذجًا للإصلاح الديني. وجد زويمر أنَّ النموذج الذي روَّج له محمَّد بن عبد الوهَّاب، صاحب الدعوة إلى التخلُّص من البدع والمحدثات التي انتشرت في زمنه ونالت من ثوابت الدين، ما يستعصي على جهود التَّبشير. في حين رأى المبشِّر الرائد أنَّ في نموذج أحمد خان، الداعي إلى التركيز على الفلسفة وتقديم العقل على النقل المقارب لفكر المعتزلة، ما لا يهدِّد مساعي التَّنصير.
يشير بيكلي في مقدِّمة دراسته إلى أنَّ هدفه الأساسي كان تحليل استراتيجيَّة صمويل زويمر التَّبشيريَّة، التي انعكست في نظرته إلى نبيِّنا مُحمَّد (ﷺ) ودوره في الخلاص البشري، والقرآن الكريم وحقيقة تنزُّله بوحي إلهي، وتقديره للحركات الإصلاحيَّة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي. بفضل إتقانه للعربيَّة وحياته الطويلة بين العرب، استطاع زويمر أن يجري دراسات لا تُضاهى عن العالم الإسلامي؛ ومن هنا جاءت تسميته “الرسول إلى الإسلام”، وكان الكاتب جيه. كريستي ويلسون من أوائل مروِّجي هذه التسمية، التي حملها عنوان كتابه رسول إلى الإسلام: حياة صمويل م. زويمر (1952). في حين يرى باحثون أنَّ جهود زويمر تخدم الحركة الاستعماريَّة الصهيونيَّة-المسيحيَّة في المرتبة الأولى، من خلال استهداف العقليَّة المسلمة بأفكار تتنافى مع صحيح الإسلام، وكان الباحث الأكاديمي البريطاني عطاء الله صدِّيقي من مؤيِّدي هذا الرأي، كما ذكر في دراسة عنوانها “Islam and Christian Theology-الإسلام واللاهوت المسيحي” (2005). وتكمن أهميَّة التراث الفكري الذي خلَّفه زويمر فيما يعكسه من فهم للرؤية البروتستانتيَّة للإسلام. من جديد، يذكِّر بيكلي بأنَّ هناك موضوعات شديدة الحساسيَّة في الدراسات الإسلاميَّة، من بينها نبوَّة النبي (ﷺ)، وطبيعة الوحي الإلهي الذي تنزَّل به القرآن الكريم، مذكِّرًا بردِّ الفعل العنيف من العالم الإسلامي تجاه الأديب البريطاني، كشميري الأصل، سلمان رشدي عند إطلاق روايته The Satanic Verses-آيات شيطانيَّة (1988)، التي اتُّهم رشدي بسببها بالإساءة إلى النبي (ﷺ)، وإلى الدعوة الإسلاميَّة في مهدها، بأن شبَّع تنزُّل الوحي برؤى خرافيَّة.
اكتشف زويمر أنَّ الدراسات عن الإسلام التي أجراها أتباع البروتستانتيَّة قليلة نسبيًّا، وفطن إلى أنَّ نقد الإسلام لا يكون إلَّا من خلال التعامل مع المسلمين ودراسة الدين كما يفهمه معتنقوه. عبَّر زويمر عن أحد أهم أهدافه جهوده العلميَّة في دراسة الإسلام، وهو “تنصير العالم الإسلامي في هذا الجيل”، متَّخذًا إيَّاه شعارًا في الحياة، كما ذكر في كتابه A Call to Prayer for Moslem World-دعوة إلى الصلاة للعالم الإسلامي (1923). لا يمكننا أن نغفل عن حقيقة أنَّ المرجعيَّة الأساسيَّة لأفكار زويمر كانت عقيدة ألفيَّة المسيح ومجيئه الثاني، التي هي جزء من المذهب البروتستانتي، الذي تفرَّع منه ما يُعرف بالمسيحيَّة الصهيونيَّة، أو الأصوليَّة، أو اليمينيَّة المتطرِّفة، التي لا هدف لها أهم من تهيئة العالم لاستقبال المسيح، ويُعد التَّنصير استراتيجيَّة حيويَّة بالنسبة لها. اعتبر المبشِّر الرائد أنَّ التَّبشير بالخلاص الركيزة الأساسيَّة التي يجب أن يقوم عليها عمل المبشِّرين، وهذا ما لا يقدِّمه الإسلام.
نظرة زويمر إلى الإسلام كما يعكسها أحد مؤلَّفاته
يتناول صمويل زويمر في كتابه Islam: A Challenge to Faith-الإسلام: تحدٍّ للإيمان (1907)، وكما يحدِّد عنوانه الفرعي دراسات في الدين المحمدي والاحتياجات والفرص في العالم المحمدي، الإسلام، في دراسة مفصَّلة لتاريخه، منذ نشأته وانتشاره في شبه الجزيرة العربيَّة، وأهم عقائده وطقوسه، والانقسام العقائدي بين السُّنَّة والشيعة، والتحديات التي يشكِّلها أمام حركة التَّنصير العالميَّة. يبدأ زويمر كتابه بالإشارة إلى أنَّ الإسلام ظهر في مكَّة في فترة كانت رياح التَّنصير قد وصلت إليها فيه، ولن ننسى أنَّ عام مولد نبيِّنا مُحمَّد (ﷺ) يُعرف بعام الفيل (570 أو 571 ميلاديًّا)، نسبة إلى الغزو الذي تزعَّم أبرهة الأشرم، حاكم اليمن المفوَّض من مملكة أكسوم الحبشيَّة المسيحيَّة، باستخدام فيلة اقتيدت من أجل تدمير الكعبة المشرَّفة. أمَّا عن دافع أبرهة، فكان صرف العرب عن الحجِّ إلى الكعبة البيت الحرام، الذي جعله الله تعالى قيامًا للناس (سورة المائدة: آية 97)؛ لدفعهم إلى الحجِّ إلى الكنيسة التي بناها في صنعاء، وجعل منها تحفة معماريَّة، مطلقًا عليها القُليس.
غير أنَّ ما لم يكن في الحسبان قد وقع، بأن جعل الله تعالى كيده وجيشه في تضليل، بأن سخَّر طيرًا صغيرة الحجم تلقي عليهم حجارة من طين، فتكت بهم وخيَّبت مسعاهم، كما يخبرنا بيان الحقِّ سبحانه في سورة الفيل “أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)”. وبرغم هذه الآية والمعجزة الربَّانيَّة التي أحبطت تلك الغزوة الصليبيَّة تبشيريَّة الدافع، تجد صمويل زويمر في القرن الرابع عشر الهجري، يدرس أسباب انتشار الإسلام في جزيرة العرب وما ترتَّب عليه من تعطيل لمساعي التَّنصير حينها، وكأنَّ إيمانه بالتدبيريَّة الإلهيَّة لم يهدِه إلى أنَّ إرادة الله هي التي حالت دون تدمير بيت الله الحرام، الذي جعله هدايةً للعالمين، مصداقًا لقوله تعالى “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ” (سورة آل عمران: آية 96). يتأسَّف زويمر في أوَّل فصول كتابه على ضياع فرصة شيوع المسيحيَّة في جزيرة العرب، بقوله “ظهر الإسلام في منطقة كانت في مرمى المسيحيَّة؛ فمكَّة لا تبعد عن القُدس (معقل المسيحيَّة وقتها بزعامة الدولة البيزنطيَّة) أكثر من ثمانمائة ميل، مسافة قطعها مُحمَّد (ﷺ) في شبابه. ظهر الإسلام في وقت كان من المفترض أن تكون جزيرة العرب قد اعتنقت المسيحيَّة، التي انتشرت في القرون الستَّة التي سبق فيها إنجيل المسيح عقيدة مُحمَّد (ﷺ) حتَّى حدود المحيطات، الهادي والهندي والأطلسي…” (ص1-2). يعترف زويمر بأنَّ الإسلام هو الدين الوحيد الذي هزم المسيحيَّة في عُقر دارها، في القُدس في القرن الأوَّل الهجري، ثمَّ في القسطنطينيَّة في القرن التاسع الهجري؛ ولذلك، فهو يتساءل: ما هي أسباب تلك الهزيمة؟
يذكِّر صمويل زويمر بأنَّ شبه الجزيرة العربيَّة قبل الإسلام كانت عبارة عن قبائل يدين معظمها بديانات وثنيَّة، إلى جانب مستعمرات يهوديَّة ومسيحيَّة في المناطق التجاريَّة. كان الشام يخضع وقتها للنفوذ البيزنطي، أو الدولة الرومانيَّة الشرقيَّة المسيحيَّة، بينما كان العراق تحت سيطرة الفرس المجوس؛ أمَّا اليمن، فكما سبقت الإشارة، كانت تحت سيطرة الدولة الحبشيَّة المسيحيَّة. إذا ما تأمَّلنا في طبيعة الديانات الوثنيَّة المنتشرة في شبه الجزيرة العربيَّة زمن البعثة النبويَّة، لوجدنا أنَّ بعضها كان يؤمن بأنَّ الطبيعة هي التي كانت تهب الحياة ثم تنتزعها، وآمن بعضها بوجود إله خالق وأنكر البعث والنشور، فيما آمن بعضٌ آخر بالخالق والخَلق، لكنَّهم أنكروا نبوَّة النبيِّين واتَّخذوا أصنامًا آلهة من دون الله، قُدِّمت إليها القرابين، وذُبحت لها النذور، ونُظِّمت لأجلها رحلات الحج، وفق ما جاء في كتاب The Original Sources of the Quran-مصادر القرآن الأصليَّة (1905)، للقُس ويليام سانت كلير تسديل.
المصدر: رسالة بوست