مقالاتمقالات المنتدى

“آيا صوفيا: الفتح الثّاني”

“آيا صوفيا: الفتح الثّاني”

بقلم د. محمد فتحي الشوك

أثار قرار تركيا بتحويل متحف آيا صوفيا أو الحكمة المقدّسة إلى مسجد ردود أفعال متباينة ،بين من فرح و بارك و استبشر و بين من عارض ندّد و استنكر، و قد اتّصفت المواقف تجاه ما وقع بالتسرّع و الانطباعية والمزاجية ممّا أفقدها من الموضوعية المطلوبة للحكم على حدث اعتبره البعض تاريخيا و قد يكون له تبعات على المدى القريب و البعيد.

فبمجرّد أن نطقت المآذن بعد صمتها القسري تعالت أصوات المهلّلين و المكبّرين مستبشرين بسماع ما تمنّوه منذ سنين ليقابله صراخ و عويل آخرين مستنكرين ما يجري و مندّدين ،لنكتشف حدّة ما نعيشه من استقطاب و يتجلّى ما في قلوب بعضهم من حقد دفين.

فما الّذي جعل مثل هذا القرار يثير كلّ هذا الجدل؟ وهل هي شعبوية و توظيف للدّين من قبل أردوغان كما يدّعي ذلك المستنكرون؟ أم هي خطوة في طريق تصالح تركيا مع هويّتها وممارسة طبيعية لسيادتها و علامة صحّية تؤكّد استعادتها لمكانتها؟

قرار تاريخي:

أصدرت المحكمة العليا التركية يوم الجمعة10يوليو قرارا تاريخيا يلغي آخر صدر سنة 1934 و الّذي تمّ بموجبه تحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف ليفسح المجال لأن يستعيد صورته الّتي كان عليها لمدّة 481 عاما أي منذ أن فتح السّلطان محمّد الثّاني المعروف بمحمّد الفاتح القسطنطينية سنة 1453 ميلادي.

و لعلّ بصيرة السّلطان و حكمته هي الّتي جعلته يطلب من قساوسة الكاتدرائية حينها بيعها إيّاه فوافقوا ليتمّ توثيق الصّفقة من خلال عقد شراء و تنازل نظير مقابل مادّي دفعه من حسابه الخاص ليقوم بعدها بإنشاء وقف جعل فيه العقّار الّذي اشتراه وهو ما استند إليه حكم القضاء التركي الّذي تناول القضيّة منذ سنة2005 لينطق بالحكم منذ أيّام بعد فحص مئات الوثائق من بينها سند ملكيّة أصلي يظهر بوضوح الملكيّة الخاصّة للعقّار.

و من المعلوم أنّ كمال أتاتورك هو من حوّلها إلى متحف سنة 1934 في سياق تصادمه مع هويّة تركيا و ارثها العثماني و في سعيه المحموم لفصلها عن جذورها ،يقول الأمريكي”توماس ويتيمور” الّذي أقنع أتاتورك بتحويل مسجد آيا صوفيا الى متحف و هو يتعجّب من سرعة و سهولة الاستجابة لما عرضه:”كانت آيا صوفيا مسجدا يوم حديثي معه،و حين زرت المسجد صبيحة اليوم التّالي وجدت على بابه إعلانا بخطّ أتاتورك يقول: المتحف مغلق للصّيانة”.

لم يخف الأتراك حنينهم لسماع صوت الآذان يرتفع من جديد من المآذن الّتي صمتت منذ ذلك التّاريخ، و قد تجلّى ذلك في كتاباتهم و أشعارهم و خطابات بعض سياسييهم.

فهذا الشاعر التركي “عثمان يوكسيل سردنغتشي” يقول في نص حوكم وأعدِم بسببه في مطلع ثمانينات القرن الماضي : “آيا صوفيا! أيها المعبد العظيم، لا تقلق سيحطّم أحفاد الفاتح كل الأصنام، ويحوّلونك إلى مسجد، ويتوضّؤون بدموعهم ويخرّون سجّدا بين جدرانك، وسيصدح التهليل والتكبير ثانية بين قبابك، وسيكون هذا الفتح الثّاني، وسيكتب الشعراء عنه الملاحم، وسيصدح الآذان من جديد وأصوات التكبير من تلك المآذن الصّامتة اليتيمة، وستتوهّج شرفات مآذنك بالأنوار تقديسا لله وشرف نبيه، حتّى إنّ النّاس سيظنّون أنّ الفاتح بعث من جديد. كلّ هذا سيحدث يا آيا صوفيا، والفتح الثّاني سيكون بعثا بعد موت، هذا أمر أكيد لا تقلق، وهذه الأيّام باتت قريبة، ربما غدا أو أقرب من غد”.

كما أنّ السّياسيين الأتراك أمثال “محسن يازجي اوغلو” الّذي توفّي اثر حادث غامض سنة 2009 كان من أشدّ المنادين باستعادة المتحف لصورته و دوره كمسجد ، و قد سبقه في ذلك نجم الدّين أربكان ليتسلّم المشعل رجب طيّب أردوغان الّذي كانت من بين وعوده الانتخابية سنة1994 تحقيق رغبة غالبيّة الأتراك في الصّلاة بمسجد آيا صوفيا.

و الأتراك مازالوا يذكرون كيف ضحّوا بقرابة 88الف شهيد في معركة جناق قلعة الّتي كان عنوانها انتزاع اسطنبول من الدّولة العثمانية و من الملفت أنّ من بين الشّروط الحاليّة لإحياء المفاوضات الأوربّية التركية هو عدم استفزاز مشاعر الأوربّيين بآيا صوفيا.

اتّهام أردوغان بالشعبوية لا يستقيم لأنّه في الظّرف الّذي أمضى فيه على مرسوم تفعيل القرار القضائي كان قد دشّن أعلى جسر معلّق في العالم بعد أكبر مطار و أكبر مركّب صحّي و بعد أن حوّل بلده إلى قوّة إقليمية و رقم صعب لا يمكن تجاوزه في مجمل المعادلات ، و الشّعبوية كما تعلمون هي شأن خاويي الوفاض و بائعي الأوهام و الكلام الفضفاض في ظلّ غياب البرامج و المشاريع و الانجاز.

أمّا عن توظيف الدّين و استثارة المتديّنين فهي تهمة جاهزة يشهرها من في العادة ينكرها على غيره و يمارسها بنفسه.

بشارة خير:

حصل شبه إجماع في تركيا على ما قرّر و التقى في ذلك من في الحكم و المعارضون ليكون الامتعاض و الاستنكار من خارج تركيا،و لم يكن مستغربا ردود الفعل المسجّلة في اليونان بالخصوص أو في أوربا عموما أو في روسيا و الولايات المتّحدة الأمريكية  فهي متوقّعة و يمكن تفسيرها بيد أنّ ما يثير الدّهشة حقّا الهستيريا الّتي انتابت بعض من يشاركون تركيا التّاريخ و الجغرافيا.

وقد استثارت الخطوة التركية إنسانيتهم و حسّهم المرهف و حرصهم على التراث الإنساني الثّقافي و شغفهم بالفنّ و المتاحف لينتصبوا يحاضرون عن قيم التّسامح و التّعايش،صمت هؤلاء حينما منح من لا يملك لمن لا يستحقّ لحظة إعلان ترامب القدس عاصمة للصّهاينة،وابتلعوا ألسنتهم أمام ما تمارسه الصّين في حقّ المسلمين الايغور بل برّروا ذلك و شجّعوه،و دعموا السّيسي الّذي احرق جامع رابعة بمن فيه ثمّ هدّم عشرات المساجد في مصر و تجاهلوا نسف الجوامع في سوريا من قبل العصابات الطّائفية ونظام بشّار الأسد المجرم و تناسوا ما أقدمت عليه اليونان و من قبلها اسبانيا من إغلاقها لعشرات المساجد لتحوّل إلى كنائس و إسطبلات و مسارح للعرائس و ملاهي و مراقص.

وحّدت الخطوة التركية الجريئة لأوّل مرّة الكنائس الكاثوليكية و الأرثوذوكسية و البروتستانتية و الإنجيليين الجدد لتلتحق بهم مؤسّسات إسلامية تفتي حسب المقاس و الطّلب ليعزف الجميع سيمفونية القيامة و الغضب ، فيأتيهم الردّ من أشدّ المعارضين لمن مرّر القرار فهذا قيادي حزب الشعب الجمهوري التركي المعارض “محرّم اينجه” يقول:”آيا صوفيا داخل حدود تركيا و فتحه للعبادة قرار سيادي لتركيا ،هذا أمر لا يحقّ لروسيا و الولايات المتّحدة و اليونان أو أيّ دولة أو مؤسّسة أخرى  أن تقرّر في شأنه .

وهذه المغنّية التركية الشهيرة ذات الأصول الكردية”بكديز تالينا” تصرّح:”آيا صوفيا لم يتمّ شراءها بمال الدّولة بل بمال الفاتح الخاص و يحقّ له فعل ما يشاء”.

ماذا لو لم يكن أردوغان ذو المرجعية الإسلامية هو من يحكم الآن في تركيا؟

 ثمّ ماذا لو كانت آيا صوفيا في بلد آخر غير تركيا لا يمتلك مؤشّرات صعود قد تجعله من اللّاعبين الكبار و من صنّاع القرار؟ ثمّ ماذا لو نجح انقلاب 15يوليو 2016الّذي أفشله وعي الشّعب التركي و تصدّيهم للانقلابيين بصدور عارية؟

ربّما تحوّلت آيا صوفيا إلى كاتدرائية أو إلى معبد إماراتي لصلاة الخميس تكريسا لتسامحهم و نشرا لسعادتهم و لن تجد حينها معترضا!

عاد آيا صوفيا مسجدا و هو حلم الكثير من الأتراك و المسلمين ،هي بشارة خير و فتح جديد ، خطوة تاريخية سيكون لها ما بعدها ،ذاك أكيد.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى