آلام “الربيع”.. عن قصة العدمية وسؤال الشر وعبثية الحياة
إعداد عرابي عبد الحي عرابي
“جاءت الحرب العالمية الثانية، إنها الهزيمة؛ هتلر في مدننا ومنازلنا، نحن الذين وُلِدنا وترعرعنا في عالم كهذا، بماذا نؤمن؟ لا شيء… لا شيء سوى حالة الإنكار العنيد التي أُجْبِرنا على التوغّل فيها منذ البداية، [..] إنّ العالم الذي اضطررنا إلى العيش فيه عالم سخيف، وليس هناك شيء آخر، لا عالم بديل نلجأ إليه، في مواجهة إرهاب “هتلر” ما القِيَمُ التي يُمكِن أن تُريحنا والتي يمكن أن نعارض بها إنكاره لنا؟ لا شيء، [..] فالإنسان ليس سوى مادة خام للتاريخ، ويمكن أن يُفْعَل أيُّ شيء به”.
ألبير كامو، مقتطف من محاضرته “أزمة الإنسان”[1]
لطالما أرّقت “كامو” أسئلة كبرى، يتشابه أن تكون هي ذاتها الأسئلة التي يعايشها الشباب العربي منذ انطلاقة احتجاجات “الربيع” الثائر وما مرّت به أحداثُه من انكسارات وكوارث جعلت كثيرا منهم يتحوّل عن قناعاته، بدءا من الإيمان بالله وسعيه للوصول إلى أستاذيّة العالم عبر إحقاق الدين إلى القول كما ورد في فيلم “في سبع سنين” عن التحولات التي مر بها أحد الشباب: “لا أؤمن بوجود إله، [..] لقد صار عندي استعداد للتخلي عن كلّ شيء، لقد فقدت الثقة في كل شيء”[2].
ليس من الغريب أن ترى معارضي ثورات الربيع العربي يختصرون موقفهم من أحداثه بقولهم: لقد جرّت علينا هذه الثورات من الدمار والآلام والخسائر ما لا يمكن تخيّله! كما لن يغيب عنهم -على سبيل المثال- وصف وقوع مليون قتيل وإعاقةُ ضِعْفِ ذلك من الجرحى في سوريّة مثلا وما رافقه من تهجير أحد عشر مليونا في الداخل والخارج، وتدمير البنية التحتية والقدرات الاقتصادية للبلد بخسائر تتجاوز 400 مليار دولار[3] بأنها النموذج الحتمي الذي ستوصلنا إليه انتفاضات الربيع العربي.
في خضمّ هذه التجاذبات بين التأييد والمعارضة تنطلق صيحات تستند إلى رؤى فلسفية أكثر اختزاليّة وعمقا من منطق الأرقام، فيهيم كثير من الشباب أمام عدم فهم الأحداث التي يرونها يوميا، ولعل صرخة أحدهم -متسائلا عن ذلك الطفل الذي قُطِعَت قدماه في قصف على حيِّه بالبراميل المتفجّرة-: “أين هو الإله الذي ينادي باسمه والد الطفل [….] لقد مات الله مُكفّنا برحمته المزعومة”[4] ستُظهر شدّة المأزق الروحيّ والوجوديّ الذي يمرُّ به هؤلاء الشباب.
يعيد هذا الترابط بين الأحداث المفصليّة في تاريخ الإنسان ومواقفه من القضايا الوجودية إلى الأذهان قضيّة السياقات التي تظهرُ فيها الأفكار والفلسفات، فآثار استشكال وجود الشر فلسفيا والتغنّي بالعدميَّة أكاديميا وحياتيا لم تظهر على نطاق واسع إلا مع بدايات العصور الحديثة، وتزايد الأزمات.
على الرغم من التعريفات المتعددة للعدميّة سياسيا وفلسفيا ونقديا، فإنّه بالإمكان تفريعها إلى “العدميَّة المطلقة” التي تنكر أي قيمة أو وجود لأي شيء، و”العدميّة النقديَّة” التي ترى العقل عاجزا عن الوصول إلى الحقيقة، وعلى الرغم من ذلك فإن السياق العدميّ يدعو لنزع المعنى أو القيمة عن الفعل والتخلّي عن مواجهة المسؤوليّة والبحث عن الحقائق[5].
تُمثّل أسطورة “سيزيف” الذي عاقبته الآلهة الإغريقيّة بحمل صخرة ثقيلة من أسفل جبل وإيصالها إلى أعلاه حكاية العبثيّة الأولى، حيث كانت صخرة “سيزيف” تتدحرج ساقطة إلى أسفل الوادي كلّما وصل إلى قمّة الجمل، في اعتراض من الميثولوجيا (الأسطورة) الإغريقيّة على “لا منطقية” الحياة البشرية وعبثيتها، لتتطوّر العدميّة على يد اليأس والتشاؤم الذي بثّه شوبنهور في كتاباته ومحاضراته، حيث وصل إلى قناعة الاستسلام لليأس والامتناع عن التناسل حتى تختفي الحياة، وقد ورث “نيتشه” أفكار العدميّة السابقة على تنوّعها وصاغ منها تحليلاته عن مآلات الأفكار الفلسفية وآمال الإنسانيّة داعيا إثر ذلك لتحطيم القيم العليا المطلَقَة التي وصلت إلى الإنسان عن أسلافه، كالإيمان بالإله والعدالة وإنكار الحقيقة المجردة وداعيا في الآن نفسه إلى جعل الإنسان ذاته مصدرا للحقائق ومعناها.
استمرّ تصاعد الأحداث في أوروبا في النصف الأوّل من القرن العشرين، [OOJA1] لتشهد عدة أزمات اجتماعيّة متوازية مع انطلاق أضخم حربين عالميّتين راح ضحيتهما أكثر من مئة مليون قتيل وأضعافهم من المعاقين، متعزّزة بجموح الخيال الاشتراكي وتغوّل الاستهلاك الرأسمالي، مما أوصل الإنسان الأوروبي إلى الاقتناع بأن السوداوية تخيّم على كل شيء وتصبغ كافّة الميادين، وسرعان ما انعكس ذلك على الأدب والفن، فظهرت تيّارات اللاوعي الناشئة كالسريالية والعبثية، ومسرح العبثية والتمرّد حيث يزعم “ألبير كامو” أن مأزق “سيزيف” ما هو إلا تعبير مجازي عن الوجود الإنساني، ونرى بطله “ميرسو” في رواية “الغريب” غير مبالٍ بموت أمّه بل منزعجا من حرارة الشمس يوم دفنها، وغير آبهٍ بالجرم الذي ارتكبه قدر اهتمامه بالحرارة التي يشعر بها في قاعة المحكمة، كما يجول بنا في روايته “الطاعون” مستعرضا تفاهة الحياة ومسديا نصيحته بترك محاولات تحسين العالم؛ حيث يكشف لنا العقل بطريقته الخاصة أن هذا العالم عبثي جدا[6].
تشير الكاتبة الكندية نانسي هيوستن في كتابها “أساتذة اليأس” إلى أن تطوُّر الفكر الأوروبي في القرنين الأخيرين تفرّع في اتجاهَي “الطوباوية” و”العدميّة” أو الموقف الثوريّ والموقف الانهزاميّ المتضادّين ظاهريا، حيث يدعو الثوريّون إلى أن يضع المثقّف ذكاءه ليجعل العالم بحال أفضل، أما العدميّون فيرون أنّ الانتحار الفوريّ أولى؛ حيث إنّ أفعالَ الإنسان كُلَّها عبثيّة وفاشلة[7]، ولعلّ أبرز الصفات التي يشترك بها العدميون هي “احتقار الحياة والانعزال عنها” باعتبارها الشيء الوحيد الذي ينقذ الإنسان من الفناء، ومن ثمّ فإن العدميّ يتصف بالتخلي عن اتخاذ أي موقف سياسي[8] ولا يكفيه أن يحلم بالانتحار، بل يمتدّ به الخيال إلى أن يتمنّى لو أنّه لم يكن مولودا في الأساس[9].
تُظهِر لنا عدد من المسلسلات “الغربية” الحديثة التي تبثّها شبكات مثل “هوب” و”نتفليكس” اليومَ مدى تغلغل “العبثيّة” و”غياب المعنى” في ثناياها؛ وذلك من خلال تقديم الواقع الفنّي على نحو مصادِم للقِيَم المجتمعية التي سادت في الإنتاج التلفزيوني خلال العقود السابقة، فعلى سبيل المثال يجسّد لنا انتقالُ [OOJA2] “والتر وايت” في مسلسل “بريكنج باد” (Breaking Bad) من دور الأب الصالح والمعلّم الصارم إلى مجرِم يرأس عصابة لتصنيع المخدّرات وبيعِها أبلغَ النماذج التي توضّح الشكل الجديد للتحولات المبرّرة، والتي يتناقض تجاهها أي تصور واضح، وفقا لتعقيدات القصة التي يمر بها وايت.
وفي مثال آخر، يتناوَلُ مسلسل “بوجاك هورسمان” خفايا المشاعر الإنسانية وتفاعلات قضايا الصراعات البشرية على نحو يكادُ يتفوّق على المساقات العلميّة في العديد من الجامعات العربية، وعلى الرغم من ذلك فإنّنا نجد المسلسل مائلا نحو الطابع العبثيّ في فهم الوجود، حيث يعيش الحصان “بوجاك” على [OOJA3] [WU4] هيئة نصف إنسان ويشغَل دور الشخصية الرئيسة في المسلسل حيث يسعى لاستعادة ذكريات نجاحاته الماضية وتكرارها، إلا أنّ الفشل يرافقه في ذلك كلّه؛ مما يدفعه لإفراغ همومه بإدمان الكحول والمخدرات، وتخريب علاقاته بمن حوله.
لا يعرف “بوجاك” ماذا يريد من الحياة، ولا الغاية التي تحكمه، ولذا فإنّه يسير خلف إيمانه بعبثية الأمور، ينشئ علاقات وينهيها بدافع الملل، ويهزأ من الأفكار الحميميّة كحب الأب والأم، ويبحث عن “آلهة” تليق بعصره كالمال والشهرة والنجاح كتعويض عن “موت إله” نيتشه، إلا أنه يصل إلى نقطة واحدة بشكل متكرر دوما: لا إله، لا معنى للحياة.
تكفّل الإعلام المعاصر بإخراج النقاش [OOJA5] حول فكرة العدميّة والدعوة إلى إيقاف التناسل من أروقة الجامعات إلى الأحاديث اليوميّة بين مختلف شرائح البشر، وقد تزايد بصورة ملحوظة الضخّ الفنّيّ الذي يستهدف هذه القضيّة، فأُنتِجَت في أزمنة متفاوتة العديد من المسلسلات والأفلام والأغاني العالمية الداعيَة للتوقف عن التكاثر والإنجاب كفيلم “ليون” (lion) عام 2016، ومسلسل (True Detective) أو “محقّق فَذ” الذي تدور أحداثه حول هذه القضية.
يلخّص الممثل الأميركي “ماثيو ماكونهي” الذي يؤدي دور المحقّق “روستن كول” فكرته عن الحياة بقوله لصديقه: “أعتقد أن أنبل شيء نفعله لجنسنا هو أن نتوقف عن التكاثر ونسير جنبا إلى جنب نحو الانقراض” وذلك في المشهد التمهيديّ المؤسّس للمسلسل.
ألقت هذه الفلسفة بظلالها على العالم والمنطقة العربية، فتزايدَت في الآونة الأخيرة أنشطة “حركة الانقراض الطوعي للبشر” (VHEMT) الداعية إلى إيقاف جريمة “التناسُل والإنجاب”، كما امتدَّ تأثيرها إلى شرائح مختلفة من بعض الشباب العربي، فأُطلِقَت صفحات وحملات متعددة على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف نشر هذه الفلسفة والدعوة إليها، ولعل أبرزها صفحة “ضد التناسل” على موقع فيسبوك[10]، التي اجتمعت فيها أغلب المبادرات المشتّتة من حملة هذه الرؤية.
يذكر أحد مشرفي الصفحة “أن إعلان إطلاق الحملة كان اختبارا لوَقْع الفلسفة اللاّ إنجابيّة على وعي المتلقي العربي، وأنّ المتابعة الكبيرة لصفحتهم جاءت على عكس توقعاتهم”، والسبب برأيه عائد إلى “ما تمرّ به المنطقة من حروب وأزمات وكوارث ممّا جعل اليأس يتسرّب لشباب المنطقة”[11].
لن تكتفي السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة والأحوال المحيطة بالأشخاص والمجتمعات بدفع فلسفات العبثية واللاإنجاب للظهور فحسب، بل ستدفع تلك المعضلات باتجاه إنكار الإله، حيث إنّ التصور الإيماني لدى الإنسان يفترض وجود رحمة مطلقَة لدى الخالق يمنع بها وقوع أي أذى أو ضرر في الكون الذي يخلقه، ولذا يستثقل هؤلاء إمكانَ وجود إله يقبل بالشر والأذى لمخلوقاته!. ويمكن القول إن الملحدين يجعلون هذا السؤال -المتسرّب عن التعرُّض للشدائد- أداة للتشكيك بجدوى الإيمان أو صحته من الجذور، ولذا فإن “مُشكلة الشَّرّ” في الغرب اليوم أهمّ شُبهة إلحاديّة تستخدم في المناظرات بين الدينيين واللادينيين، حيث يراها الملحدون “البرهان” الذي يهدم قواعد الإيمان عند المتديّنين[12]، ولعل وصف الشاعر الألماني جورج بوخنر لحجة الشرّ بأنها “الصخرة” التي تَتَحَطَّم عليها حجج الإيمان[13] يوضّح أهمّيّة هذه الحجة في منظومة الإلحاد.
يشير د. سامي عامري إلى أن السؤال عن مشكلة الشر بحد ذاته يحوي دلالة أخلاقية لا مادية[14]، بل إن استشكال “الشر” في أصله دليل على تحقق الإيمان بالله في فطرة البشر، وهو الأمر الذي أكّده عدد من كبار ملحدي العصر الحديث كالعالم الإحيائي أنتوني فلو -الذي آمن في نهايات عمره- الذي كان يرى أن شبهة الشر كانت السبب الأول في إلحاده[15].
وبما أن المادة وتفرعاتها تعد أساس الإلحاد فإن الاستشكال الأخلاقي تجاه الشر يناقض الغاية التي قُدِّمت لأجلها، أي نفي وجود الإله وتصوير الكون على أنه محض مادة؛ وذلك لأن عقل الإنسان الذي تفاعل مع هذا السؤال جوهر غير مادي يرى للحياة قيمة ومعنى، إذ “لو كان الإلحاد حقا، لما كان علينا أن نتوقع أن يكون الخير هو النظام الرئيس أو أكثر أصالة من الشر، بل يتوجّب أن لا يكون هناك قِسما الخير والشر أصلا”[16]. وعلى الرغم من وجود عشرات الدراسات التي تبيّن الانفكاك بين الشر وقضيّة وجود الله، فإن الدراسات التي تبيّن دور الكوارث وتفاعل الناس مع مبادئ الإلحاد من خلالها لا تزال شحيحة وقليلة، كما يلاحظ في خضمّ المناقشات المنطقيَّة في مسألة الشر أنه قلّما يتنبّه الباحثون إلى التفتيش عن أساس الاستشكال ومصدره.
فبما أن العقل البشري قاصر في إدراك خصائص المحيط الخاص به، فإن قفزه إلى القطع في إحدى أهمِّ المسائل الوجودية بناء على أحكام مختزلة جدير بالبحث والاهتمام، حيث يشير د. سامي العامري -ضمن هذا السياق- في كتابه “مشكلة الشر ووجود الله” إلى مصدر الرؤية الفلسفيّة التي حكمت الغرب وشكّلت فكره في أعقاب الثورة الصناعيّة وما تلاها من تيّارات عدميّة وظهور الحروب والكوارث أساسا في تصدُّر الشرّ حُجّة لإنكار وجود الإله، وذلك أعمق من استشكال وجود الشر ذاته.
ينقل روجيه غارودي في كتابه “البنيوية فلسفة موت الإنسان” عن فرويد قوله “بأن نظريته في التحليل النفسي ألحقت بكبرياء البشرية الإذلال الثالث الأكبر لها بعد الثورة الفلكية على يد كوبرنيكوس [OOJA7] ورؤية داروين التي حوَّلت الإنسان إلى حيوان بيولوجي يصارع من أجل البقاء، ثم تحويل فرويد الإنسان إلى الهامش من خلال ربطه فهم الأحوال النفسية بأوتار بعيدة وأزمنة سحيقة وخفايا كامنة لا تقع في متناول أيدينا أو سيطرتنا أو فهمنا”[17]، ومن ثَمَّ كانت العدميّة التي أفرزت مظاهر اللامعنى وغياب الثبات الملجأ الذي يبرر المرء لنفسه من خلاله رفضه لوجود الإله وتأطير القيمة وإثبات المعنى.
تدفع حالة “غياب المعنى” التي يعايشها المحبَطون من واقع الحياة إلى التساؤل المتكرر عن قيمة وجود الشرّ، والذي يتطوّر لاحقا إلى اتخاذ قرار تجاه الإيمان برمّته، إلا أن الغريب في مثل هذه الحالات استناد القرار إلى منطق الشبهات المتناثرة في قضايا الدين والنبوة والقرآن أو الإنجيل، لا العمق الفلسفي لقضية وجود الإله ذاته.
في هذا السياق يمكن التمييز بين نوعين من مُتَّخذي قرار الإلحاد، أحدهما ينطلق من نظَر عقلي مجرّد ويستند إلى أدلّة معقّدة من البراهين المنطقيّة والإشكالات الفلسفيّة، وهو ما يمثّله تاريخ السؤال في الفلسفة التي بحثت عن أصل المادّة ومصيرها ونشأة الوجود ومآلاته، أما الآخر فينطلق من قضايا اللحظة الراهنة والشبهات المثارة تجاه الدين وشخصياته المقدسة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه وصف “ملحدي السوق” وهم ممّن ازدادت أعدادهم في سنوات الربيع العربي بشكل ملحوظ[18]، إلا أن نشاط هذه الأعداد ما زال مقتصرا على الكتابة الاحتجاجية في وسائل التواصل الاجتماعيّ واعتبار ذلك السبيل الأوضح للتمرّد على الأوضاع التي يراها أو التي يعاني منها.
نستشهد هنا بما ذكره د. عمرو شريف عن موقف جرى معه في إطار محاورته بعض الشباب العربي المتحوّل إلى الإلحاد، حيث يعلن مفاجأته من جهلهم في اللغة العربية وعدم حرصهم على قراءة أي شيء من شأنه البحث الفكري والفلسفي والنظر لما يدور في أذهانهم من شبهات ومسائل وجودية على نحو يدعو للاستغراب، حيث يقول: “إذا أراد أحدنا شراء هاتف جوّال فإنه سيدرس الأمر جيّدا، أمّا قرار التخلّي عن الدين فلم يبذل فيه الشباب أي جهد”[19]، مما يدفعه للتأكيد على خطورة الموجة الإلحاديّة القادمة وأهمية العناية بدراسة الدوافع النفسيّة في قرار الإلحاد على نحو أعمق من دراسة الدوافع الموضوعيّة.
نقتبس من كارل ماركس مقولته الآتية: “يصنع الناس تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم، إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظروف يواجهونها وهي معطاة لهم ومنقولة من الماضي مباشرة”[20]؛ لندلّل على أنّ انعكاس حالة الحرب أمر لا بدّ منه على مختلف الشرائح البشرية، إلا أن فقدان المعنى في التضحية وظهور العبث في تناول الحياة إيذانٌ بالانزلاق نحو فقدان المبادئ وطغيان ذاتيّة المرء ومنافعه على القِيَمِ العليا، وهو الحال الذي يذكّرنا بصرخة “نيتشه” حين قال: “أبحث عن الإله، أين الإله؟ […] صاح المجنون: أنا سأخبركم! لقد قتلناه – أنتم وأنا! نحن جميعا قتلة، لقد مات الإله! ويظل الإله ميتا! ونحن من قتلناه! كيف يمكننا أن نعزي أنفسنا، نحن أكبر القتلة؟ إن أقدس وأعظم ما امتلكه العالم قد نزف دمه حتى الموت بطعنات مُدانا: من سيمسح هذه الدماء عن أيدينا؟ أي ماء سيطهرنا؟”[21].
تُظهِر عبارة نيتشه أن انتشار فكرة الإيمان بالإله “السمح الرحيم العدل” قد ماتت، فلم يعد داخل السياق الاجتماعي والعلمي في أوروبا ثمة حاجة إلى مبادئ عليا، مما أوعز ذلك لعقل نيتشه الحفر في معنى غياب الإله وموته، ليصل إلى أن البشر هم من أجهزوا على حاجتهم إليه، الأمر الذي نرى تجلياته اليوم في حالة مدٍّ عبثيّة أخرى تدفع الناس لإنكار وجود الإله وتخاطب حالة الكبت السوداء في دواخلهم لدفعهم نحو التخلّي عن واجب مكابدة الحياة والتضحية في سبيل غرس أقوم المعاني فيها.
إن الإيمان بأنه ما من سبب للوجود أو غاية ستدفع العقل -ولا ريب – لتفسير أحداث الحياة ذاتها على نحو عشوائيّ ومادّي، ومن ثمّ فإنها تأسيس لأن يعيش حياة الرفاه الفردي ثم المجتمعي أكثر فأكثر، ومن المنطلَق ذاته يجب التنبّه إلى أن تفسير الشر الذي يحدث في العالم يجب أن لا ينفصل عن هذه الرؤية، وذلك لئلا يكون بحثنا في قضايا الإلحاد تحليلا مشابها لتحليل لوحة الموناليزا أو فوز فريق ما في بطولة معيّنة -مثلا- وكذلك وجود الحروب والأعاصير والكوارث المادية، لأن التفاعل مع الألم الطاغي في هذه الظواهر لا يستند إلى قيمة أخلاقية وإنَّما إلى رؤية عدمية.
ومن هنا فإنّ الواجب الموضوعي يحتّم العودة إلى الرؤى المختلفة لتفسير الشر باعتباره جزءا من النظام الكوني المتصف بالنقص، ومن هنا فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح لا يتمثل في السؤال عن وجود الشرّ أو المغزى من حكمته باعتباره هو المدار الأساس في فهم الحياة، بل إنّ الأهمّ حقًّا: لِمَ كان هذا الوجود أصلا وكيف كان؟.[22]
(المصدر: ميدان الجزيرة)