مقالاتمقالات مختارة

آثار الاستبداد

آثار الاستبداد

بقلم شيخ الأزهر السابق محمد الخضر حسين*

إذا أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد نزلت عن شامخ عزها لا محالة، وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء؛ إذ لا غنى للحكومة عن رجال تستضيء بآرائهم في مشكلاتها وآخرين تثق بكفاءتهم وعدالتهم إذا فوضت إلى عهدهم بعض مهماتها.

والأرض التي اندرست فيها أطلال الحرية إنما تأوي الضعفاء والسفلة ولا تنبت العظاء من الرجال إلا في القليل.. قال صاحب لامية العرب:

ولكن نفساً حرة لا تقيم بي *** على الضيم إلا ريثما أتحول

فلا جرم أن تتألف أعضاء الحكومة وأعوانها من أناس يخادعونها، ولا يبذلون لها النصيحة في أعمالهم، و آخرين مقرنين في أصفاد الجهالة يدبرون أمورها على حد ما تدركه أبصارهم، وهذا هو السبب الوحيد لسقوط الأمة؛ فلا تلبث أن تلتهمها دولة أخرى وتجعلها في قبضة قهرها وذلك جزاء الظالمين.
ثم إن الاستبداد مما يطبع نفوس الرعية على الرهبة والجبن، ويميت ما في قوتها من البأس والبسالة:

فمن في كفه منهم قناة *** كمن في كفه منهم خضاب

فإذا اتخذت الدولة منهم حامية أو ألفت منهم كتيبة عجزوا عن سد ثغورها وشلت أيديهم من قبل أن يشدوا بعضدها.

وإن أردت مثلاً يثبت فؤادك ويؤيد شهادة العيان فاعتبر بما قصه الله تعالى عن قوم موسى عليه السلام، لما أمرهم بالدخول للأرض المقدسة وملكها، كيف قعد بهم الخوف عن الطاعة والامتثال وقالوا: {إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها}.

فمتى جئت تسأل عن الأمر الذي طبع في قلوبهم الجبن وتطوح بهم في العصيان والمنازعة إلى قولهم: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون} (المائدة:24).. وجدته خُلق الانقياد المتمكن في نفوسهم من يوم كانت الأقباط ماسكة بنواصيهم وتذيقهم من سوء الاستعباد عذاباً أليماً.

والأمة مفتقرة إلى الكاتب والشاعر والخطيب، والاستبداد يعقد ألسنتهم على ما في طيها من الفصاحة وينفث فيها لكنةً وعيًّا، فتلتحق لغتهم بأصوات الحيوانات ولا يكادون يفقهون قولاً.

وإذا أضاءت على الأمة شموس الحرية وضربت بأشعتها في كل واد، اتسعت آمالهم وكبرت هممهم وتربت في نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة، ومن لوازمها اتساع دائرة المعارف بينهم، فتتفتق القرائح فهماً وترتوي العقول علماً، وتأخذ الأنظار فسحة ترمي فيها إلى غايات بعيدة؛ فتصير دوائر الحكومة مشحونة برجال يعرفون وجوه مصالحها الحقيقية، ولا ينحرفون عن طريق سياستها العادلة.

والحرية تؤسس في النفوس مبادئ العزة والشهامة، فإذا نظمت الحكومة منهم جنداً استماتوا تحت رايتها مدافعة ولا يرون القتل سبة إذا ما رآه الناكسو رؤوسهم تحت راية الاستبداد.

ثم إن الحرية تعلم اللسان بياناً وتمد اليراعة بالبراعة، فتزدحم الناس على طريق الأدب الرفيع وتتنور المجامع بفنون الفصاحة وآیات البلاغة.. هذا خطيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك شاعر يستعين بأفكاره الخيالية في نصرة الحقيقة ويحرك العواطف ويستنهض الهمم لنشر الفضيلة، وآخر کاتب، وعلى صناعة الكتابة مدار سياسة الدولة.

ولم تكن ينابيع الشعر في عهد الخلفاء الراشدين فاغرة أفواهها بفن المديح والإطراء، وإنما ترشح به رشحاً وتمسح به مسحاً، لا يضطهد من فضيلة الحرية فتيلاً، وما انفلت وکاؤها وتدفقت بالمدائح المتغالية إلا في الأعصر العريقة في الاستبداد.

ولما وقر في صدر عمر بن عبد العزیز من تنظيم أمر الخلافة على هيئته الأولى لم يواجه الشعراء بحفاوة وترحاب، وقال: ما لي وللشعراء. وقال مرة: إنى عن الشعر في شغل. انتجعه جرير بأبيات فأذن له بإنشادها وقال له: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقاً. وعندما استوفاها واصله بشيء من حر ماله فخرج جرير وهو يقول: خرجت من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء وإني عنه لراضٍ، ثم أنشد يقول:

رأيت رقى الشيطان لا تستفزه *** وقد كان شيطاني من الجن راقياً

ومن مآثر الاستعباد ما تتجشأ به اللها، وتسيل به الأقلام من صديد الكلمات التي يفتضح لك من طلاوتها أنها صدرت من دواخل قلب استشعر ذلة، وتدثر صغاراً، نحو (مقبل أعتابكم) (المتشرف بخدمتكم) (عبد نعمتكم). ولا أخال أحداً يصغى إلى قول أحد كبراء الشعراء:

وما أنا إلا عبد نعمتك التي نسبت إليها *** دون أهلي ومعشري

إلا ويمثل في مرآة فكره شخصاً ضئيلاً يحمل في صدره قلباً يوشك أن ينوء بما فيه من الطمع والمسكنة.

ومن سوء عاقبة الخضوع في المقال أن يوسم الرجل بلقب وضيع ينحته له الناس من بعض أقوال له، أفرغ فيها كثبة من التذلل وبذل الهمة؛ كما سموا رجلاً باسم: “عائد الكلب”؛ لقوله:

إني مرضت فلم يعدني واحد ** منكم ويمرض كلبكم فأعود

ولا نجهل أن بعض من سلك هذا المسلك من التملق والمديح اتخذه سلّماً؛ ليظفر بحق ثابت، ولكنه لا ينافي الغرض الذي نرمي إليه من أن الحقوق في دولة الحرية تؤخذ بصفة الاستحقاق، وفي دولة الاستبداد لا تطالب إلا بصفة الاستعطاف، ذلك الوزر الذي يُحبط بفضل العزة التي نبهنا الله عليها، وأرشد مَن يريدها إلى أنها تطلب بالطاعة من الكَلِم الطيب، والعمل الصالح، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]

ــــــــــــــــــــــــ
* كتاب: الحرية في الإسلام، لشيخ الأزهر الأسبق محمد الخضر حسين، ص71-73.

(المصدر: مجلة كلمة حق)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى