مركز التاصيل للدراسات والبحوث
أراد الله تعالى بخلق بني آدم استخلافهم في الأرض، وقيامهم بعمرانها على هدى من الله –عز وجل. ومن أجل تحقيق هذا المراد جعل الله النبوة والرسالة، كيما يقوم الأنبياء والرسل بتلقي الوحي الإلهي وتبليغه للناس، وإرشادهم في ضوئه، وإقامة شئونهم في ظلاله. واصطفى الله لهذه المهمة رجالا من جنس البشر أنفسهم، واختارهم من بني قومهم: ((وإِنَّهُم عِندَنَا لَمِن الـمُصطَفَينَ الأَخيَارِ))، ص: 47. ولم تكن بشرية الرسل تخفى على الناس وهم يستمعون إلى دعوة الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام؛ بل كانت هذه الصفة معلومة لهم بالضرورة. كما كانت محل استشهاد المكذبين لنبوتهم ورسالتهم، مقررين أن النبوة والرسالة ابتداء لا تكون في البشر، وأنَّ البشر غير مؤهلين لحمل النبوة والرسالة ثانيا, لذلك اعترضوا على الرسل فرادى ومثنى وجمع.. وهذه أقوالهم سجلها القرآن الكريم: ((ومَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثلُنَا))، الشعراء: 186، ((أَنُؤمِنُ لِبَشَرَينِ مِثلِنَا))، المؤمنون: 45- 47، ((إِن أَنتُم إِلاَّ بَشَرٌ مِّثلُنَا))، إبراهيم: 10. فكانت بشرية الرسل هي متكأ المكذبين لعدم التصديق والإذعان.
وكانت ممارسات الأنبياء والرسل البشرية تدفع المكذبين لاستكثار النبوة على من هذه مؤهلاتهم: ((مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثلُكُم يَأكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ مِنهُ ويَشرَبُ مِمَّا تَشرَبُونَ * ولَئِن أَطَعتُم بَشَرًا مِثلَكُم إِنَّكُم إِذًا لَّخَاسِرُونَ))، المؤمنون: 33- 34. وهذا أكثر ما صدَّ الناس عن الإيمان؛ يقول تعالى: ((ومَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤمِنُوا إِذ جَاءهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَسُولاً))، الإسراء: 94. فهو استفهام في محل الإنكار. لذلك قال قوم نوح -عليه السلام: ((مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثلُكُم يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيكُم ولَو شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ))، المؤمنون: 24. ورد الله على أمثال هؤلاء فقال: ((قُل لَو كَانَ فِي الأَرضِ مَلاَئِكَةٌ يَمشُونَ مُطمَئِنِّينَ لَنَزَّلنَا عَلَيهِم مِن السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولاً))، الإسراء: 95.
ورغم كل الآيات المعجزة والدلائل إلا أنه لم ترد أي شبهة على منكري الرسل والأنبياء أو أتباعهم –في زمنهم- حول بشريتهم. حيث أنهم خالطوهم وعرفوهم عن كثب قبل بعثتهم، فقد ولدوا لأبوين[1]، وعاشوا طفولتهم تحت رعاية أهلهم، وأكلوا وشربوا ولبسوا كبقية بني جنسهم، وتحركوا وعملوا، وناموا ومرضوا، وفرحوا وحزنوا، ونكحوا وكانت لهم ذرية، ووقع منهم ما يقع من البشر من خطأ ونسيان وقضاء حاجة، وماتوا أو قتلوا. وكل ما هنالك نفيهم لتأهل البشر للرسالة أو وإمكانية نزول الوحي على بشر.
الغلاة:
لقد كان إثبات النبي أو الرسول لبشريته أمام قومه يأتي في إطار تأكيد وظيفته التي أنيطت به، وعدم كونه قادرا على كل شيء، وعالما بكل شيء؛ خاصة وأن قومه كانوا يطلبون منه آيات خارقة للإيمان بنبوته، على سبيل التعجيز.
ففي شأن قدرة النبي يقول تعالى: ((وقَالُوا لَن نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفجُرَ لَنَا مِنَ الأَرضِ يَنبُوعًا * أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلَالَهَا تَفجِيرًا * أَو تُسقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمتَ عَلَينَا كِسَفًا أَو تَأتِيَ بِاللَّهِ والـمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَو يَكُونَ لَكَ بَيتٌ مِن زُخرُفٍ أَو تَرقَى فِي السَّمَاءِ ولَن نُؤمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَينَا كِتَابًا نَقرَؤُهُ قُل سُبحَانَ رَبِّي هَل كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا))، الإسراء: 90- 93.
وفي شأن علم النبي يقول تعالى: ((قُل مَا كُنتُ بِدعًا مِن الرُّسُلِ ومَا أَدرِي مَا يُفعَلُ بِي ولَا بِكُم إِن أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ومَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ))، الأحقاف: 9. ويقول سبحانه: ((قُل لَا أَملِكُ لِنَفسِي نَفعًا ولَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ولَو كُنتُ أَعلَمُ الغَيبَ لَاستَكثَرتُ مِن الخَيرِ ومَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِن أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وبَشِيرٌ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ))، الأعراف: 188.
وبالرغم من هذا الخطاب والتأكيد ظهر في بعض أهل الكتاب الغلو في أنبيائهم، ورفعهم إلى مقام الربوبية والألوهية؛ حتى أصبح شخص النبي في نظر هؤلاء مركبا من: طبيعة بشرية (ناسوت)، وأخرى إلهية (لاهوت). ومن ثمَّ جعل هؤلاء أنبياءهم أربابا من دون الله. وهذا التوجه تمثله النصرانية بمعظم فرقها، وغالب أتباعها.
وقد جاء القرآن الكريم ليردع هؤلاء، ويعيدهم إلى رشدهم: ((يَا أَهلَ الكِتَابِ لَا تَغلُوا فِي دِينِكُم ولَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الحَقَّ إِنَّمَا الـمَسِيحُ عِيسَى ابنُ مَريَمَ رَسُولُ اللَّهِ وكَلِمَتُهُ أَلقَاهَا إِلَى مَريَمَ ورُوحٌ مِّنهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورُسُلِهِ ولَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيرًا لَّكُم إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ومَا فِي الأَرضِ وكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * لَّن يَستَنكِفَ الـمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبدًا للهِ ولَا الـمَلَائِكَةُ الـمُقَرَّبُونَ ومَن يَستَنكِف عَن عِبَادَتِهِ ويَستَكبِر فَسَيَحشُرُهُم إِلَيهِ جَمِيعًا))، النساء: 171- 172.
وبين القرآن لهم أن وجود عيسى –عليه الصلاة والسلام- لا يعدوا أن يكون معجزة إلهية: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ))، آل عمران: 59. وحكم بكفر من ادعى إلها غير الله: ((لَّقَد كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ ومَا مِن إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وإِن لَّم يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ))، المائدة: 73.
وحتى لا يقع في هذه الأمة ما وقع في غيرها أشار القرآن الكريم إلى الرسول –صلى الله عليه وسلم- بوصفه أنه “من أنفسهم”[2] -أي المخاطبين من قومه- بقصد تأكيد بشريته. فهو بشر من سلالة بشر، كما جاء عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)، رواه مسلم. وحذر رسول الله –عليه الصلاة والسلام- أمته من مزلق الغلو فيه لخطورته، فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد.. فقولوا: عبد الله ورسوله)، رواه البخاري.
إن دعوى الرسالة لا تضفي على الرسول صفة إلهية أو ربوبية تخرجه عن عبوديته لله[3]: ((مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ والحُكمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِن دُونِ اللَّهِ ولَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُم تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وبِمَا كُنتُم تَدرُسُونَ))، آل عمران: 79. ((قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَليَعمَل عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشرِك بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا))، الكهف: 110.
وقد وجد في هذه الأمة من رفع الرسول –صلى الله عليه وسلم- عن بشريته، تحت دعاوى مختلفة. وهذه الدعاوى في حقيقتها تخدم مرادهم في إثبات شخوص بشرية تتحلى بصفات الربوبية أو الألوهية باسم الولاية أو الإمامة أو القطبية، كما تزعم طوائف الشيعة والصوفية الغلاة ومن شابههم!
يقول محمد عمارة: “لهذا رأينـا القرآن الكريم -وهو المعجزة العقلية الخالدة للرسالة الخاتمة- يلحّ مع بقايا هـذه الفكرية الجاهلية على بشرية محمد بن عبـدالله -صلى الله عليه وسلم، ليعلن ويؤكد جدارة البشر بالاصطفاء الإلهي نبيا ورسولاً، واستحالة أن يكون النبي والرسول إلا بشراً يوحَى إليه”.
وهذا التأكيد على بشرية الرسول وثيق الصلة بالتأكيد على ضرورة أن تبقى عقيدة التوحيد في التصور الإسلامي محتفظة بنقائها الشديد. وحياة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسيرته توضح هذا الأمر أتم توضيح. فقد عاش -صلى الله عليه وسلم- كسائر البشر، تجري عليه أعراض البشرية طيلة حياته، منذ أن ولد إلى أن مات. ومع كونه بشرا إلا أن الله تعالى هيأه تهيئة خاصة تتناسب مع حمله الرسالة الخاتمة التي اصطفي لها. فكمَّله في الخَلقِ والخُلُق، فكان –عليه الصلاة والسلام- أكمل البشر في بشريتهم، وأكملهم في عبوديته لربه وقياما بحقه، و لذلك وصفه الله بالعبودية في أكمل مقاماته وأرفع درجاته صلى الله عليه وسلم.
إن إثبات صفة لبشر ما فوق بشريته يؤدي بالضرورة إلى إبطال التوحيد، وتحريف الشريعة. فكثير من هذه الطوائف تدعوا هؤلاء، وتستعين بهم، وتستغيث بهم عند قبورهم، وتعتقد فيهم بعض ما تعتقده في الله –تعالى. كما أنها تجعل منهم مشرعين بوجه من الوجوه، فينسخون أحكام السنة النبوية أو القرآن الكريم بدعوى عريضة كثيرة! فيكون لكل فرقة وطائفة دينها ومعتقدها وشرعتها الخاصة.
الجفاة:
إزاء طوائف الغلو التي ترفع الأنبياء –والرسول عليه الصلاة والسلام خاصة- فوق مستوى البشر، تأتي طوائف أخرى لتنزع عن الرسل مكانتهم وقدرهم بدعوى البشرية. وهم أصناف كثر.
فالقرآنيون الذين ينكرون السنة الشريفة ويأخذون بما في القرآن الكريم فقط، يصورون الرسول–صلى الله عليه وسلم- في هيئة البشر الناقل للرسالة، والذي لا يمتاز عن قومه بشيء من الهداية والتوفيق والإلهام والتسديد، إلا بكونه مسلما أنفذ أوامر الله وحكمه في نفسه.
إن إنكارهم للسنة الشريفة هو إنكار لدور من أدوار الرسالة في التوجيه والإرشاد والتشريع المفصل والشارح لمقاصد القرآن ومعانيه وأحكامه -بإذن من الله. وهذه الأدوار مثبتة بنصوص القرآن الكريم المتظافرة.
فقد قرن الله تعالى رسوله به في مواطن كثيرة تتعلق بالحكم والطاعة والتقاضي. كما في قوله تعالى: ((ومَا كَانَ لِمُؤمِنٍ ولاَ مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمرِهِم ومَن يَعصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِينًا))، الأحزاب: 36. وقوله سبحانه: ((قُل أَطِيعُوا اللَّهَ والرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ))، آل عمران: 32. وقوله –عزَّ شأنه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَازَعتُم فِي شَيءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ واليَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيرٌ وأَحسَنُ تَأوِيلاً))، النساء: 59.
وأخبر سبحانه أن كلام نبيه وحيٌ منه: ((ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِن هُوَ إِلاَّ وَحيٌ يُوحَى))، النجم: 3- 4. وجعل أحاديثه بيانا للقرآن: ((وأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم ولَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ))، النحل: 44.
وألزم تبارك وتعالى باتباعه: ((ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا واتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ))، الحشر: 7؛ ودعا للاقتداء به: ((لَقَد كَانَ لَكُم فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرجُو اللَّهَ واليَومَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا))، الأحزاب: 21؛ وحذر من مخالفة أمره: ((فليَحذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَن أَمرِهِ أَن تُصِيبَهُم فِتنَةٌ أَو يُصِيبَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ))، النور: 63؛ وتوعد من عصاه: ((ومَن يَعصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدخِلهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا ولَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ))، النساء: 14؛ وأمر رسوله أن يمحص دعوى المؤمنين بقوله: ((قُل إِن كُنتُم تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللَّهُ))، آل عمران: 31.
وبيَّن الله تعالى أن من أسباب الندم يوم القيامة مجافاة الرسول –صلى الله عليه وسلم: ((ويَومَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَا لَيتَنِي اتَّخَذتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا))، الفرقان: 27؛ وعدم طاعته: ((يَومَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُم فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيتَنَا أَطَعنَا اللَّهَ وأَطَعنَا الرَّسُولَا))، الأحزاب: 66.
وما من نبي إلا أمر قومه بطاعته: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ)). وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)[4]. وثبت عنه –صلى الله عليه وسلم- إنكاره على من أنكر سنته ففي الحديث الصحيح: (لا أُلفِيَنَّ أحدَكم مُتَّكِئًا على أريكتِه، يَأتِيه الأمرُ من أَمرِي ممَّا أَمرتُ به أو نَهَيتُ عنه، فيقولُ: لا أدري! ما وَجَدنا في كتاب الله اتَّبَعنَاهُ)، رواه أبو داود والترمذي[5].
وفى هذا دليل على أنه لا حاجة للحديث الثابت الصحيح أن يعرض على كتاب الله، لكونه حجة بنفسه، لأنه مما أوحاه الله تعالى لرسوله[6]. وفي هذا يدخل كل تفاصيل العقيدة والشريعة والأدعية والأذكار مما لم يرد في القرآن الكريم وأثبتته السُّنَّة النبوية.
إن شبهة هؤلاء القرآنيين تتعدد وتتطور مع دخول كثير من المشغبين على السنة المشرفة في هذا الاتجاه. ومن بين الشبهة التي يوردونها بشرية الرسول –صلى الله عليه وسلم، بحيث يحكمون على أقواله وأفعاله الصادرة عنه فيما لم ينص عليه القرآن الكريم بأنها اجتهاد بشري! قالها أو فعلها من منطلق: العادة، أو العرف، أو التقاليد، أو السياسة، وفي أحسن الأحوال الاجتهاد.
مستدلين بحديث البخاري: (إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني) ؛ وعند مسلم بلفظ: (إنما أنا بشر مثلكم أذكر كما تذكرون وأنسى كما تنسون)؛ وحديث أم سلمة رضي الله عنها، في الصحيحين، أن رسول الله –عليه الصلاة والسلام- قال: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار)؛ وحديث عائشة –رضي الله عنها، في مسلم، أنه دخل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلان، فكلَّماه بشيء لا أدري ما هو، فأغضباه فلعنهما وسبَّهما. فلمَّا خرجا قلت: يا رسول الله.. من أصاب من الخير شيئًا ما أصابه هذان؟! قال: (وما ذاك؟)، قالت قلتُ: لعنتَهما وسببتهما! قال: (أو ما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاةً وأجرًا)؛ وحديث طلحة بن عبيد الله -رضي الله عنه، عند مسلم، قال: مررتُ مع رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بقومٍ على رؤوسِ النخلِ، فقال: (ما يصنعُ هؤلاء؟)، فقالوا: يُلقِّحونه، يجعلون الذكرَ في الأُنثى فيتلقَّحُ. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: (ما أظنُّ يغني ذلك شيئًا). قال: فأُخبِرُوا بذلك فتَرَكُوه، فلم يَصلُح. فأخبر رسولُ اللهِ بذلك، فقال: (إن كان ينفعهم ذلك فليَصنَعُوه، فإني إنما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظنِّ، ولكن إذا حدَّثتُكم عن اللهِ شيئًا فخُذوا به، فإني لن أكذبَ على اللهِ عزَّ وجلَّ)، وعند أحمد بلفظ: (إنما هو ظنٌّ ظننته، إن كان يُغني شيئًا فاصنعوا، فإنما أنا بشرٌ مثلكم، والظن يخطئ ويصيب، ولكن ما قلت لكم قال الله -عز وجل- فلن أكذب على الله). وغير ذلك من الأحاديث.
ويغفل هؤلاء أن هذه الأحاديث جميعها مما لا خلاف عليه، وأنه لا خلاف حول أن هناك جانب بشري اجتهادي في الرسول –عليه الصلاة والسلام، بينها هو في أحاديثه، وبينها صحابته الكرام، وأشار إليها علماء الأمة، ولم يكن ذلك مدعاة لإسقاط السنة ومجموع أحاديثه التي تلقتها الأمة عنه، فحفظتها وعملت بها.
فما كان منه -عليه الصلاة والسلام- اجتهادا أُقِرَّ عليه فهو سنة جارية، وما كان منه خطأ فقد نبهه عليه الوحي، وما نسي فقد نبهه إليه صحابته –رضوان الله عليهم، وبهذا فلا مدخل لإسقاط السنة النبوية الصحيحة كجزء من الوحي ومصدر من مصادر التشريع التي أجمعت الأمة عليها. يقول تعالى: ((ومَا أَرسَلنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذنِ اللَّهِ))، النساء: 64. وكان –عليه الصلاة والسلام- يقول في خطبته: (إنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ اللهِ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ)، رواه مسلم.
ختاما.. فإنَّ الأنبياء –عليهم الصلاة والسلام- أدوا رسالتهم للناس من خلال مُعايشتهم معهم، وتعليمهم أخبار الدين وأحكامه، وشرح تفاصيلها وألفاظها، وإعمالها أمامهم ليتأسوا بهم، وتفهيمهم إياها، وبيان ما أشكل عليهم فهمه منها، وبيان منهجية تنزيلها في الواقع، وتطبيقها في الحياة، وتصحيح أي فهم خاطئ أو تطبيق مخالف للدين. وهذا كله يستدعي أن يضم ميراثهم من قول وفعل وهدي إلى المرجعية العليا للأمة.
[1] يستثنى من ذلك عيسى –عليه الصلاة والسلام- كما أخبار القرآن الكريم بذلك.
[2] كما في قوله تعالى:
((لَقَد مَنَّ اللّهُ عَلَى الـمُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِن أَنفُسِهِم..))، آل عمران: 164.
((لَقَد جَاءكُم رَسُولٌ مِن أَنفُسِكُم..))، التوبة: 128.
((كَمَا أَرسَلنَا فِيكُم رَسُولاً مِنكُم يَتلُو عَلَيكُم آيَاتِنَا..))، البقرة: 151.
[3] وهو -صلى الله عليه وسلم- مع بشريته وعبوديته لله –سبحانه- خير خلق الله على الإطلاق.
[4] رواه أبو داود، برقم (4604)، وأحمد: ج4/130، برقم (17213)، واللفظ له. صححه الشيخ الألباني، وقال الشيخ الوادعي عنه في (صحيح دلائل النبوة): حسن لغيره.
[5] وقد سكت عنه أبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح؛ وصححه الشيخ الألباني، وقال الشيخ الوادعي في كتابه (الصحيح المسند): صحيح على شرط الشيخين. (انظر: حديث رقم: 1236).
[6] يقول سبحانه: ((ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحيًا أَو مِن ورَاءِ حِجَابٍ أَو يُرسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ))، الشورى: 51.