السياسة بين الأخلاق والنجاسة!
بقلم عمر عبد العال
منذ عقود ؛ ومع استيلاء النظم الاستبدادية والعسكرية على السلطات في العالم العربي، انتشر بين الناس مقولة (السياسة نجاسة) دون أي جدل يذكر أو تمحيص مُبيَّن، حتى باتت قاعدة عرفية، تستند على تعريفٍ شائع بين الناس، على أن السياسة فن المراوغة وفن الممكن، وأنها تنطوي في كثير من تفاصيلها على اللاأخلاقية.
لم تُلقِ الشعوب العربية بالًا للأخلاق في العمل السّياسي، في ظل سطوة الاستبداد وانتشار الجهل، حتّى تطوّر هذا المفهوم للفصل بين السّياسة والأخلاق، فغدا الناس يردّدون “لا أخلاق في السّياسة”. وهم إن لم يرددوا بمقالهِم ولسانهِم هذه العبارة، فقد طبّقوها في أفعالهم وسلوكيّاتهم، لقد نجح الحكام المستبدون في ترسيخ مفهوم السياسة نجاسة، بهدف إبعاد الناس عن الممارسة السياسية ومنازعتهم الحكم، إلى أن جاء الربيع العربي، فحرر العقول وكسر القيود، واُتيحت الفرصة للتوعية السياسية والممارسة السياسية من جديد، لكن مع جدلية هذا المفهوم وإشارات استفهام مفادها (ما العلاقة بين الأخلاق والسياسة؟)
بدايةً ؛ لا يمكننا اختزال السياسة على أنها فن الممكن بحسب تعريف الواقعيون لها بهذا القدر وحسب، فهو ذو دلالات ومعانٍ عديدة متناقضة، لكن باختصار شديد ،عُرّفت السياسة على أنها رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية.
وقد عرّفها ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين: (أنها التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد).
في تأصيل العلاقة بين الأخلاق والسياسة، يرى بعض فلاسفة الغرب، أن لا علاقة بين الأخلاق والسياسة، لذلك يجب إبعاد الاعتبارات الأخلاقية تمامًا عن العمل السياسي، وهو ما يذهب إليه صراحة المفكر الإيطالي “ميكيافيلي” في كتابه “الأمير” ، حيث يرى أن مبدأ العمل السياسي هو : « الغاية تبرر الوسيلة »، فنجاح العمل السياسي هو ما يحققه من نتائج ناجحة كاستقرار الدولة وحفظ النظام وضمان المصالح الحيوية، بغض النظر عن الوسائل المتبعة في ذلك حتى وإن كانت لاأخلاقية، بل ويذهب إلى أبعد من ذلك، فيزعم أن الأخلاق تضر بالسياسة وتعرقل نجاحها، وأن الدول التي تبني سياستها على الأخلاق تنهار بسرعة.
ويوافقه الرأي في ذلك أيضاً فيلسوف القوة “نيتشه”، الذي يرى أن السياسة لا تتفق مع الأخلاق في شيء، والحاكم المقيد بالأخلاق هو حاكم فاشل.
في المقابل ،عدّ “أرسطو” السياسة فرعًا من الأخلاق، ويرى أن وظيفة الدولة الأساسية هي نشر الفضيلة وتعليم المواطن الأخلاق. وكذلك دعا الفيلسوف الألماني ” كانط” صاحب مذهب المبدئية في الأخلاق، إلى معاملة الإنسان كغاية في ذاته وليس كمجرد وسيلة.
نظرًا للواقع العربي اليوم، نرى أن غالبية سياسيي العرب مازالوا ينتهجون نهج السياسة اللاأخلاقية أو بمعنى آخر نهج السياسة الميكيافيلية، هذه السياسة الموروثة من أنظمة الاستبداد، التي تنص على أن السياسي لا يستطيع أن يلتزم بالمبادئ الأخلاقية في كل الأحوال، وأنه لابد أن يرتكب أفعال غير أخلاقية، حتى يحقق الغايات السياسية والمنفعة العامة المسؤول عنها، وتنص أيضًا على ضرورة ظهور السياسي للناس بمظهر الطيب والخيّر، لكن ليس من اللازم أن يكون كذلك.
بل وسار الكثير منهم على مبدأ الاستحواذ في تقاسم السلطة؛ أي غنيمة الدولة لا استردادها من خلال استغلال ثورات الربيع العربي. وجل الحركات والأحزاب السياسية علمانية كانت أو إسلامية، تتعامل مع المشهد بعقلية السيطرة والإقصاء للغير، والسباق المحموم في السيطرة على مفاصل الدولة، بيد أن الأنظمة الاستبدادية لم تسقط بعد.
ساهمت أنظمة الاستبداد في نشر السلوك المدمر للقيم والأخلاق في المجتمع، حيث رسّخت ظاهرة الفساد السياسي، وما رافقها من جني المكاسب المادية اللامشروعة، وتوزيع المناصب بناءً على الولاء الحزبي، دون اعتبار للكفاءة والنزاهة.
نحن اليوم أمام سياسيون وأحزاب ورثوا سياسة الكراهية، وصراع التناقضات، وانشغلت بمصالح سلطوية دون مصالح الناس، ورثوا آفات التعصب والانغلاق والأحادية، التي لم نجن منها سوى التخلف وديمومة الانقسام والصراع.
إن السياسة وجدت لتحقيق غايات أخلاقية منعدمة في المجتمع الطبيعي، تتمثل في قيم العدل وحرية الاعتقاد والمساواة بين الناس والتعاون على الخير والعمل لتحقيق الصالح العام للمواطنين واحترام كرامة الإنسان، وعليه فإن أخلاقيات الغاية تفرض أخلاقيات الوسيلة، أي هذا ما يفرض أن تكون الممارسة السياسية أخلاقية.
وقد كتب المفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإعلان الإسلامي: (الغاية النبيلة لا يمكن الوصول إليها بوسائل دنيئة، كما أن استخدام الوسائل الدنيئة، من شأنه أن يحط من قيمة أي غاية ويعرضها للحظر، وكلما ارتقت أخلاقنا قلّت حاجاتنا إلى استخدام العنف).
ومن الطبيعي أن القيم الأخلاقية وحدها – كقيم معنوية – لا تكفي لتجعل التنظيم السياسي قويًا قادرًا على تحقيق وجوده وتحقيق غاياته في خدمة الصالح العام، كما أن السلطة لا تمثل السياسة إذا قامت على القوة وحدها، وهذا يعني أن الأخلاق بدون قوة ضعف، والقوة بدون أخلاق ذريعة للتعسف ومبرر للظلم، وهو الأمر الذي يؤكد صعوبة تجسيد القيم الأخلاقية في الممارسة السياسية.
ولابد لنا من التفريق بين التنظير السياسي والممارسة السياسية، فعالم السياسة ليس بعالم تجريدي، وإنما هو عالم تدافع وتزاحم المبادئ والمصالح ولابد من الاختيار والترجيح، فالمُنظّر السياسي يبني الأحلام والأهداف والسبل لذلك، دون مواجهة واقعية تصطدم بتزاحم المبادئ وتضارب المصالح، بينما الممارس السياسي موجود أمام مساحة كبيرة مليئة بتضارب المبادئ وتزاحمها على نفس المحل، بالإضافة إلى أهمية المصالح العامة والالتزام بمبادئها، وهذا ما يجعل الالتزام السياسي بالمبادئ الأخلاقية صعبًا.
لذلك يحتاج السياسي اليوم أن يكون عمليًا مرنًا، فقد يضطر للقبول ببعض المفاسد من أجل تحقيق المصالح المرجحة، وقد يضطر للقبول ببعض الشر لتجنب ما هو أشر، ولكن ضمن ضوابط شرعية تحقق الصالح العام.
وهذا ما دعا إليه الإسلام، في الجمع ما بين الأخلاق والسياسة، والمُثل العليا والمصالح، فجعل من الأخلاق الإسلامية في السياسة متوازنة، فيها مساحة للمبادئ ومساحة للمصالح، وفيها مرونة، عند تزاحم المبادئ وتضارب المصالح.
وقد قال داهية العرب قديمًا، الصحابي الجليل عمرُ بن العاص: (ليس العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر، ولكن العاقل الذي يعرف خير الشريين).
آن الأوان لأن يدرك جيل الربيع العربي أن السياسة ليست نجاسة، فليس هناك علوم نجسة وإنما النجاسة والشرف يكمنان فيمن يمارس ذلك العلم ويطبقه، فلا يغرق بأوهامٍ موروثة بين النجاسة والقداسة، فعالم السياسة عالمٌ متشعبٌ مليءٌ بالتناقضات والتوافقات، بالتحولات والتكاملات، عالمُ الاحتمال والترجيح، الموازنة والتفضيل، عالمُ نجاح وفشل، هبوط وصعود، عالمٌ يحتاج لقدرةٍ عميقةٍ لترتيب الأفكار، واستنتاج العبر، والتنظير، والخروج بنتائج عميقة وصحيحة، ثم التطبيق بمسؤولية وعلم، بمبادئ وخُلق، بشجاعةٍ وثقة، بتضحية وصبر، واعلم أن بحر السياسة لا آخر له، ومن أراد أن يغوص فيه وجب عليه أن يعرف كيف يعوم جيدًا دون أن يغرق.
(المصدر: رسالة بوست)