مقالاتمقالات مختارة

بين المفتي والمستفتي

بين المفتي والمستفتي

بقلم د. عبد الحليم قابة

بين حدود الله وشبهات عباد الله!.. أو بين المفتي والمستفتي!

تكثُرُ أسئلة الناس عن حكم الله خاصة في الأمور المستجدّة مما قد يلتبس أمرُها عليهم، وخاصة إذا سمعوا خلافا بين العلماء في حكمها واشتدت حاجتهم إليها.

وهذا مظهر رشد، لأن المقرر في ديننا أن الإنسان لا ينبغي أن يُقبل على شيء حتى يعلم حكم الله فيه(وجوب أو تحريم، ندب، أو كراهة، أو إباحة).

فإذا التبس أمرٌ ما؛ فغالبا يكون من المشتبهات التي علَّمَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهجَ التعامل معها بقوله: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه).

أي أنّ من تورّع عن الشبهات واجتنبها احتياطا فقد طلب البراءة والسلامة لدينه وعرضه، وسدّ باب الإضرار بهما أو باب تعرّض الآخرين لهما بالسوء.

وهذا ميزان مهمّ للمفتي وللمستفتي. لو أحسن الناس وزن الأمور به.

وبيان ذلك:

أن الحلال بَيّن والحرام بَيّن، كما قال سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، أي أنهما واضحان معلومان معروفان عند العام والخاص، وفقه التعامل معهما واضح جليّ لا يحتاج إلى إيضاح وإجلاء.

أما حدود الله فمثل وجوب الصلوات الخمس والصيام والزكاة، ووجوب الصدق والوفاء، ووجوب الولاء لله ورسوله والمؤمنين، وغير ذلك مما هو معلوم مشهور.

أو مثل حرمة السرقة والربا وشرب الخمر والكذب والخيانة وإيذاء المسلمين، والولاء للكافرين على حساب المؤمنين. وغير ذلك من المحرمات المعروفة.

أما الشبهات والأمور المشتبهات؛ فمثل بعض معاملات البنوك التي يُقال بأنها تراعي أحكام الشرع، والتسويق الشبكي، وبعض أنواع التأمين والضرائب، والعمل في مؤسساتهما، وغير ذلك من المسائل التي اختلفت فيها اجتهادات الثقات من علماء الأمة، وفرضها واقعها المؤلم.

– أما النوع الأول فأمره واضح للمفتي والمستفتي، كما قرّرنا وبيّنّا.

– أما الشبهات فهي نوعان:

النوع الأول: ما كان للمفتي فيها اجتهادٌ أو قناعة واتضح أمرُها لديه؛ فلا يجوز أن يُفتي بخلاف قناعته؛ لأنه مأمور بذلك، ولا يسعه إلا ذلك.

أما النوع الثاني: -فهو المسائل التي لم يتضح أمرُها لديه؛ – فلا يجوز له أن يُفتي الناس فيها بالتحريم المطلق، ويسد عليهم بابا لو أراد الله غلْقَه لغَلَقه، بل يُبقي لهم باب الرخصة -المعتبرة شرعا- مفتوحا، وينصحهم -بعد ذلك- بالتورّع والاحتياط كما وجّهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا المسلك جمعٌ بين بيان حدود الله التي لا يجوز لأحد تعدِّيها، وبيان سبيل الورع الذي يتنافس فيه المتنافسون.

لكن للأسف كثير ممن يمارس الفتوى في هذا الزمان لا يفرقون بين حدود الله، والشبهات التي لم يحرمها الشرع بشكل قاطع، بل بيّن لنا فقط أن من حام حولها فقد حام حول الحمى، فقد يقع فيه، وقد يعصمه الله فلا يقع فيه. بل إن بعضهم يخلط بين آرائه الشخصيه أو أعرافه، أو تسيّبه، أو تشدده، أو ورعه الكاذب، يخلط بين كل ذلك وبين الحكم الشرعي الذي لا يجوز تجاوزه بحال من الأحوال. فيختلط الأمر على المستفتي وقد يحرم عليه الحلال، وقد يحلل له الحرام، كما سمعنا ورأينا، خاصة عند من قلَّ إدراكهم لهذه الموازين واستحضارهم لهذه الضوابط.

أما المستفتي فينبغي أن لا يترخص في ما لا رخصة فيه من حدود الله وأحكامه الواضحة، ولا حرج عليه – بعد ذلك –  أن يترخّص فيما فيه سّعة من مسائل الخلاف، وليس في ذلك غمطٌ لدينه وعرضه، إن شاء الله، لأنه مأمور بسؤال أهل الذكر، لكنه – مع ذلك – لو تورّع لكان خيرا له، وسدًّا لباب الطعن عليه، وتحصيلا لبركة التوجيه النبوي العظيم. ولو أفتاه المفتون، وشغّب عليه المشاغبون. وضيّق عليه المضيِّقون، أو وسّع عليه المتسيّبون.

والله الموفق وهو يهدي السبيل.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى