ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث (علماء السوء)
بقلم د. جعفر الطلحاوي
هذه صورة ونموذج من الصور والنماذج التي تَخوَّفها النبي – صلوات الله وسلامه عليه – ، على أمته ، والمتمثلة في ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث في التعبير البلاغي من منافق القلب عالم اللسان، يقول ما يعرف المسلمون ويفعل ما ينكرون؛ فهو عذب اللسان، ناصع الفكرة، قوي الحجة، يقلب الحقائق، ويلفقُ الباطل، ويجعله في صورة الحق، ويُزوِّر المسلَّمات، ويخلع عليها لباسًا غير لباسها الحقيقي، في أسلوب هادئ، يضفي على صاحبه ثوب الوقار والحكمة، في حديث عذب ولسان رطب، يعبر عن تجربة حياة، يفتلها من خبرة محنك بالدواهي والأحابيل، وذلك في أسلوب عصري، ممزوج بما يتفتح له العقل، وتقبل عليه النفس من مغريات الحياة، ومقتضيات الإنسان في مجتمعه الجديد، فهو يملك زمام الحيل، يرد بها كل اتهام، يسخر لها شباك الدُّهاة، ليصطاد بها صيده، ثم يصل به الزيف والضلال إلى أن يجعل الله تعالى شاهدًا على قوله، فيقول المنافق في ختام حديثه: الله يعلم أني صادق فيما أقول، أو أن الله شاهد على ما أقول، وغيرها من عبارات الافتراء والتلفيق، ولقد عبر الحديث الشريف عن التصوير القرآني لهذا النموذج البشري الخطير، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعۡجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيُشۡهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلۡبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلۡخِصَامِ﴾ [البقرة: 204] فإذا حقق مراده أفسد في الأرض بإيقاع العداوة بين الناس، فتنعدم الثقة، وتنتشر البغضاء، فيحاول تدمير المجتمع، قال تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلۡأَرۡضِ لِيُفۡسِدَ فِيهَا وَيُهۡلِكَ ٱلۡحَرۡثَ وَٱلنَّسۡلَۚ وَٱللَّهُ لَا يُحِبُّ ٱلۡفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتۡهُ ٱلۡعِزَّةُ بِٱلۡإِثۡمِۚ فَحَسۡبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ [البقرة: 205-206] لذلك ورد في حديث آخر رواه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها يصور خصومته: ” إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللهِ , الْأَلَدُّ الْخَصِمُ ” (خ) 2325 , (م) 5 – (2668) فِي تَفْسِيرِ عَبْدِ بْن حُمَيْدٍ مِنْ طَرِيق مَعْمَر عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى {قَوْمًا لُدًّا} قَالَ: جَدَلًا بِالْبَاطِلِ. وفي تفسير اِبْن أَبِي حَاتِم {وَتُنْذِر بِهِ قَوْمًا لُدًّا} قَالَ: ” عُوجًا عَنْ الْحَقّ “. وَتَفْسِير ” الْأَلَدّ بِالْأَعْوَجِ ” عَلَى مَا وَقَعَ عِنْد الْكُشْمِيهَنِيِّ , يُحْمَلُ عَلَى اِنْحِرَافِهِ عَنْ الْحَقّ , وَتَفْسِير ” الْأَلَدّ بِالشَّدِيدِ الْخُصُومَة ” , لِأَنَّهُ كُلَّمَا أُخِذَ عَلَيْهِ جَانِبٌ مِنْ الْحُجَّةِ , أَخَذَ فِي آخَرَ.
أَوْ لِأَعْمَالِهِ لَدِيدِيَّة، وَهُمَا جَانِبًا فَمِهِ فِي الْمُخَاصَمَة. فتح الباري (20/ 223)
ويتصدر المجالس والاجتماعات، يدير الحوار الخادع، لا يبتغي من وراء ذلك إلا الشهرة وذيوع الصيت، ليصل إلى أغراضه من أقرب طريق
ففي المجتمع الذي تصدَّع بظاهرة النفاق، يلمع هذا النموذج البشري الخطير، فتُسلَّط عليه الأضواء زيادة في التعمية، ويُصدَّر ويتصدَّى لدعوة الإصلاح والتقويم، ويتصدر المجالس والاجتماعات، يدير الحوار الخادع، لا يبتغي من وراء ذلك إلا الشهرة وذيوع الصيت، ليصل إلى أغراضه من أقرب طريق، وفي أسرع وقت، يخدم من يواليهم في غير ذات الله ، وهؤلاء صورهم القرآن في أصح صورة، ليفضح أمرهم فتبور تجارتهم، قال تعالى:﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ لَا تُفۡسِدُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ قَالُوٓاْ إِنَّمَا نَحۡنُ مُصۡلِحُونَ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلۡمُفۡسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشۡعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ ءَامِنُواْ كَمَآ ءَامَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوٓاْ أَنُؤۡمِنُ كَمَآ ءَامَنَ ٱلسُّفَهَآءُۗ أَلَآ إِنَّهُمۡ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَٰكِن لَّا يَعۡلَمُونَ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوٓاْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوۡاْ إِلَىٰ شَيَٰطِينِهِمۡ قَالُوٓاْ إِنَّا مَعَكُمۡ إِنَّمَا نَحۡنُ مُسۡتَهۡزِءُونَ ٱللَّهُ يَسۡتَهۡزِئُ بِهِمۡ وَيَمُدُّهُمۡ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشۡتَرَوُاْ ٱلضَّلَٰلَةَ بِٱلۡهُدَىٰ فَمَا رَبِحَت تِّجَٰرَتُهُمۡ وَمَا كَانُواْ مُهۡتَدِينَ مَثَلُهُمۡ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسۡتَوۡقَدَ نَارٗا فَلَمَّآ أَضَآءَتۡ مَا حَوۡلَهُۥ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمۡ وَتَرَكَهُمۡ فِي ظُلُمَٰتٖ لَّا يُبۡصِرُونَ صُمُّۢ بُكۡمٌ عُمۡيٞ فَهُمۡ لَا يَرۡجِعُونَ﴾ [البقرة: 11-18].
وهم بعض من عناهم النص في قَوله تَعَالَى: ﴿وَإِنَّ مِنۡهُمۡ لَفَرِيقٗا يَلۡوُۥنَ أَلۡسِنَتَهُم بِٱلۡكِتَٰبِ لِتَحۡسَبُوهُ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَمَا هُوَ مِنَ ٱلۡكِتَٰبِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَمَا هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران: 78] وهم بعض من عناهم النص في قوله تعالى:
﴿وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ وَلَوۡ شِئۡنَالَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 175-176]
يُلاحظ إتاحة الفرصة لأمثال هؤلاء، في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة والتضييق على المخلصين الجادين من العلماء الربانيين
وهكذا في شِقَّيْ الوحي (الكتاب والسنة) حذرت هذه النصوص المعصومة من هذه الزمرة الخطيرة، فحددت صفاتهم وأبرزت معالمهم، ليكون المسلمون على حذر منهم، ويقظة لأساليبهم التي يدسُّون فيها السم فى معسول القول. هذا والمتابع عن كثب للأحداث الجارية في مجتمعاتنا اليوم من حولنا، يُلاحظ إتاحة الفرصة لأمثال هؤلاء ، في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة والتضييق على المخلصين الجادين من العلماء الربانيين، وتغييبهم، والحجر عليهم ، ومطاردتهم وهو خير شاهد على هذه النبوءة التي أنبأنا عنها من لا ينطق عن الهوى في قوله ” إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي , كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ ” الصَّحِيحَة: 239 وقوله :” أَكْثَرُ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا ” الصَّحِيحَة: 750 أَيْ: الذين يتأوَّلونه على غير وجهه , ويضعونه في غير مواضعه , أو يحفظون القرآن تَقِيَّةً للتُّهمة عن أنفسهم , وهم مُعتقدون خلافَه، فكان المنافقون في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – وهم هكذا في كل عصر – بهذه الصفة. وقال الزمخشري: أراد بالنفاق الرياء , لأن كُلًّا منهما إرادةٌ لما في الظاهر , خلافا لما في الباطن. فيض القدير (ج2ص102) وفي قوله ” هَلَاكُ أُمَّتِي فِي الْكِتَابِ وَاللَّبَنِ ” , فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ , مَا بَالُ الْكِتَابِ؟ , قَالَ: ” يَتَعَلَّمُهُ الْمُنَافِقُونَ , فَيَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ – عز وجل – ثُمَّ يُجَادِلُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ ” , فَقِيلَ لَهُ: وَمَا بَالُ اللَّبَنِ؟ , قَالَ: ” أُنَاسٌ يُحِبُّونَ اللَّبَنَ , فَيَبْتَغُونَ الرِّيفَ، فَيَخْرُجُونَ مِنْ الْجَمَاعَاتِ , وَيَتْرُكُونَ الْجُمُعَاتِ “الصَّحِيحَة: 2778. هذا والله تعالى أعلى وأعلم وأحكم وأعز وأكرم.
(المصدر: الجزيرة)