بقلم د. عبد العزيز قاسم
قلت لسائق السيارة التي استأجرناها في جزيرة “لُـمبوك” بإندونيسيا، ونحن في هزيع الليل الأوسط: ما بال أصوات المساجد تهدر في هذه الساعة بالأدعية والقرآن، ونحن صلينا العشاء من زمن؟ أجابني بأنها ليلة النصف من شعبان، والقوم هنا يحيونها بالذكر والقرآن في المساجد. وبادرني بالسؤال إن كنت أريد حضور هذا الذكر الإيماني، ازدردت ريقي وأجبته إجابة عامة، ولم أرد أن أفصح له؛ أن تخصيص هذه الليلة بالذكر بدعة عندنا، فمجرد مواظبة جماعته على الصلاة أفضل عندي من أن يتنصّروا أو يتصفونوا.
كانت لمقالتي “إندونيسيا..حوثيون جدد” الأسبوع الماضي؛ تفاعلات كبيرة والحمد لله، خمنت أن السبب الرئيس فيها؛ الشعور العام بتداعي الغرب والعالم على أهل السنّة، وكفّ أيديهم في مسائل الدعوة والإغاثة والعمل الإسلامي بعمومه، ومحاسبتهم على كل ريال ينفق في مساعدة إخوانهم، وانحياز الأمريكي -والغرب معه- للعدو التاريخي الفارسي، الذي امتطى المذهب الشيعي لينفّس عن شعوبيته الحاقدة، وقد مكنه الغربي في بلاد العراق والشام، وأطلق يده بلا حسيب ولا رقيب في كل ما يريد فعله لترويج صفويته العفنة بالعالم كله.
ما زلت أؤكد أن مواجهة هذه الصفوية التي تجتاح العالم الإسلامي، بتكتيك وخطط ممنهجة، ترعاها السفارات الإيرانية، وتقدم الملايين تلو الملايين لزرع الصفوية في آسيا وإفريقيا؛ هي ضرورة سياسية، عينية الفرض وليست خيارا، وأن مواجهتها اليوم، ولمّا تتفتق تلكم الخلايا الصفوية -التي زرعت خلال السنوات العشر الماضيات- من شرنقاتها الفاسدة؛ أسهل بكثير جدا من مواجتهها وقتذاك، ومن العقل وبُعد النظر، أن نُسلكها ضمن معركة عاصفة الحزم التي فككنا ونفكّ بها اليوم الطوق الإيراني عن الخليج والسعودية.
تذكرت وأنا في هذه الجزيرة التي اطمأنت نفسي فيها، وشعرت بكثير ارتياح وأنا أطالع المآذن تهتز بالأذان في أوقات خمس، وأرى الفتيات الإندونيسيات -في غالبهن- يرتدين الحجاب، وأنّى تلفت أجد الطابع الإسلامي يغشى الجزيرة؛ استراتيجية للعمل الإسلامي أمر بها مليكنا الحبيب عبدالله بن عبدالعزيز يرحمه الله، وشارك كاتب السطور في بعض جلساتها وورش عملها، حيث صدر أمر سامٍ في العام 1428هـ يتضمن تشكيل فريق عمل من المتخصصين والأكاديميين في المجالات الشرعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والقانونية والإدارية والمالية والأمنية لوضع استراتيجية للعمل الإسلامي للسعودية في الخارج، وتمت صياغة الخطة التنفيذية من خلال لقاءات واجتماعات عصف ذهني وورش عمل وحلقات نقاش عقدت في كل من مكة المكرمة والرياض والطائف على مدى ستة أشهر من العام 1430 هـ، وتوزعت على تسعة مسارات، هي: مسار الدعوة، ومسار التأهيل والتدريب، ومسار الإغاثة، ومسار تأهيل القيادات، ومسار التخطيط والتنوير، ومسار الأمن الفكري للشباب السعودي، ومسار الإعلام، ومسار السياسة، ومسار الشراكات.
إن لم تخني الذاكرة فإن الاستراتيجية كانت بإشراف د. عبد العزيز العمار وكيل وزيرة الشؤون الإسلامية، وأدارها الصديق أ.د. عصام فيلالي، وشارك فيها العشرات من المتخصصين أبرزهم معالي الشيخ سعد الشثري، ومعالي وزير الشؤون الاجتماعية السابق يوسف العثيمين، ود.جميل مرداد السفير في وزارة الخارجية، ود. عبد الله اليحيى وكيل وزارة العدل، ود. عبدالرحمن المخضوب وكيل وزارة الداخلية المساعد، وممثلون عن الاستخبارات السعودية، وثلة كريمة من المتخصصين؛ بلوروا خطة متكاملة للعمل الإسلامي في الخارج.
كم أتمنى على المحمدين، محمد بن نايف ومحمد بن سلمان، وهما عضدا مليكنا الحازم سلمان بن عبدالعزيز، ومن يقودا المسيرة المضيئة للمملكة اليوم؛ أن يطّلعا على هذه الاستراتيجية، ويُعيدا صياغتها بما استجد اليوم، وليُطلقا العمل الإسلامي للمملكة التي تشرئب أعناق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أن تتألق أخرى، وتزيح هذا الصفوي الانتهازي، الذي تسلل خلسة وملأ مكاننا في دول العالم الإسلامي، مستغلا ما كبلنا به الغربي، وضيّق علينا مساحات الدعوة والعمل.
أهل هذه الجزيرة المحافظة على إسلامها “لُـمبوك”، عندما يستمعون لحديثي وصديقي بـاللهجة السعودية، يقبلون مستبشرين باسمين، والنساء يلقين السلام باللغة العربية، ومجموعة منهن عملن لدينا، ورغم كل ما قيل عن العمالة المنزلية الإندونيسية، إلا أنها أفضل عمالة صمدت وتلاءمت مع البيئة السعودية ومزاج نسائنا الصعب. أذكر هذا لكي نعرف مكانتنا -كشعب ودولة- في قلوب المسلمين السنة، ويقينا أن ما نلقاه هنا في إندونيسيا الحبيبة؛ يتكرر في كل دول العالم الإسلامي، لأننا ننتمي للأرض التي تحتضن الحرمين الشريفين، وللدولة التي هي أسّ ورأس العالم الإسلامي، وهذه -لعمرو الله- من القوى الناعمة التي نتوافر عليها كدولة، ويجب علينا استثمارها في هذه المعركة مع الإيرانيين.
جزيرة “لُـمبوك” الساحرة التي أكتب هذه السطور منها، هي إحدى جزر الأرخبيل الإندونيسي الذي يقدر جزره بحوالي 17560 جزيرة، وهي تتباهى بأنها جزيرة الألف مسجد، لترد على جارتها جزيرة “بالي” الشهيرة، التي كانت تتباهى بأنها جزيرة الألف معبد بوذي، وأتمنى على كل الدعاة الذين يأتونها مراعاة خصوصية هذه الديار، وعدم الانشغال بالجزئيات المختلف عليها، فالإعلام العالمي لم يقصر تجاهنا، وشيطن “السلفية” للأسف الشديد، وأكملتها “داعش” المتطرفة، التي تنتسب زورا وبهتانا للسلفية، وباتت صورتنا للأسف مرادفة للتشدد والإرهاب.
أطلقوا العمل الإسلامي الدعوي، لإيقاف هذا الصفوي المتسرطن في دول العالم الإسلامي، أطلقوه اليوم قبل أن نندم، ولات ساعة مندم.
* المصدر : بوابة الشرق