مقالاتمقالات مختارة

الحاجة إلى تجديد العناية بالنصوص الشرعية في الاجتهادات المعاصرة

الحاجة إلى تجديد العناية بالنصوص الشرعية في الاجتهادات المعاصرة

بقلم د. محمد أكجيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.

أما بعد، فلقد كانت نصوص الشريعة – ولا تزال – هي المنطلَق والأساس لفقهاء المسلمين في تدبير شؤون الأمة، باجتهاداتهم عبر مختلف الأزمان والعصور، فمنها يَصدُرون وإليها يَرِدُون، مهما اختلفت مناهجهم وتعددت طرائقهم في الاستدلال؛ فكان أحدهم لا يَعدِل عن النص الشرعي في إثبات حكم إلا إذا لم يجد إليه سبيلًا؛ فهل تفي النصوص الشرعية بأحكام القضايا كلها؟ وهل يسوغ الاستغناء بها عن غيرها من مسالك الاجتهاد؟ تلك هي القضية التي تباينت فيها مناهج العلماء وآراؤهم، وهي مسألة أصولية لم تفردها كتب أصول الفقه بمبحث ضمن مباحثها – حسب علمي – وإنما أشار إليها بعضها إشارةً فحسب، أعرض فيما يلي لبيانها، وتقرير الراجح منها، سائلًا الله تعالى التوفيق والسداد.

1- القول بتناهي النصوص، ولا تناهي الحوادث:

كثيرًا ما يُمهَّد للقول في القياس والمصالح المرسلة وغيرها من مسالك الاجتهاد – بما يَذكره بعض الأصوليين عادةً من القول بتناهي النصوص ولا تناهي الحوادث؛ مثل قول السمعاني: “الضرورة داعيةٌ إلى وجوب القياس؛ لأن النصوص متناهية، والحوادث غير متناهية”[1]، وهذا قول طائفة من العلماء.

2- قول الظاهرية:

ويقابل هذا القولَ قولُ الظاهرية بوفاء النصوص بالأحكام من غير حاجة إلى القياس، كما هو معلوم من مذهبهم.

3- قول جمهور العلماء:

وذهب جمهور العلماء إلى القول بشمول النصوص لجميع الحوادث، مؤكدين في الوقت نفسه إمكان الاستدلال عليها بالأَقْيِسة الصحيحة ومسالك الاجتهاد المعتبَرة الأخرى، مستدلين بمثل قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].

4- الراجح من الأقوال:

تعرض “الحجوي” لهذه الأقوال، مبرزًا ما يَرِد على القولين الأولَين من اعتراض، مرجِّحًا القول الثالث بعد سياق أدلته، قائلًا: “وهذه كلها أدلة إقناعية”[2].

5- أدلته:

أ- اعتمادُ النصوص منهجُ النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الدين، ومنهجُ الوارثين له من الصحابة والتابعين والأئمة المهديين:

إن الارتكاز على النص الشرعي والاعتماد عليه – قبل الالتفات إلى غيره – في تقرير أحكام الشريعة واستنباطها – كان منهج النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ رسالة ربه؛ فكان يأتيه السؤال في نازلة، فلا يجيب فيها إلا بما تَنزَّل من الوحي، وإذا لم يتنزل من الوحي ما يجيب عنها، أرجأ الجواب إلى حين نزول وحي بخصوصها؛ حتى اعتبر الشافعي رحمه الله أن كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن[3].

وهو ما صرح “ابن تيمية” بأنه طريق النبوة ومنهاجها؛ حيث قال: “فمن بنى الكلام في علم الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة”[4].

وكذلك كان الصحابة والتابعون والأئمة المهديون، يتحرون الوحي غاية التحري في أحكامهم وفتاواهم، حتى إذا عجزوا، سلكوا بعد ذلك مسالك الاجتهاد المعتبرة؛ يقول ابن القيم: “وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري”[5].

وقال أيضًا: “وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: “قال الله كذا”، “قال رسول الله كذا”، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط”[6].

– النصوص الشرعية قواعد كلية، تشمل ما لا يحصى من الجزئيات؛ علَّل ابن تيمية القول بعدم شمول النصوص لأحكام القضايا – بعد نسبته إلى القائلين به – بعدم الفهم للمعاني العامة للنصوص، ووجه شمولها للقضايا والحوادث؛ حيث قال: “وإنما أنكر ذلك مَن أنكره؛ لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة، التي هي أقوالُ الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد”[7].

ثم بيَّن وجه هذا الشمول حيث قال: “وذلك أن الله بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بجوامع الكلم؛ فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية وقاعدة عامة تتناول أنواعًا كثيرة، وتلك الأنواع تتناول أعيانًا لا تُحصى؛ فبهذا الوجه تكون النصوص محيطةً بأحكام أفعال العباد”[8]‏.

وهو ما أكده ابن القيم حيث قال: “وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم، مع قصور بيانهم؛ فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم – أقدر على ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامة وقضية كلية، تجمع أنواعًا وأفرادًا، وتدل دلالتين: دلالة طرد، ودلالة عكس”[9].

وأكد ابن تيمية هذا المعنى في جمل أخرى من كلامه؛ حيث قال: “ومَن كان متبحِّرًا في الأدلة الشرعية، أمكنه أن يستدل على غالب الأحكام بالنصوص وبالأَقْيِسة”[10]‏.‏

وفي موضع آخر قال: “فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص، لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقَلَّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها وبدلالتها على الأحكام”[11].

ويقول الشوكاني في معرِض حديثه عمَّا ينبغي للمجتهد أن يعمله في اجتهاده ويعتمد عليه: “فعليه أولًا أن ينظر في نصوص الكتاب والسنة”، وذكر أوجه النظر في النصوص الشرعية، ثم قال: “وعندي: أن من استكثَر مِن تتبع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وجعل كل ذلك دأبه، ووجَّه إليه همته، واستعان بالله عز وجل، واستمد منه التوفيق، وكان معظم همه ومرمى قصده الوقوف على الحق والعثور على الصواب، من دون تعصب لمذهب من المذاهب – وجد فيهما ما يطلبه؛ فإنهما الكثير الطيب، والبحر الذي لا ينزف، والنهر الذي يَشرب منه كلُّ وارد عليه العذب الزلال، والمعتصَم الذي يأوي إليه كل خائف؛ فاشدُد يديك على هذا، فإنك إن قبلته بصدر منشرح، وقلب موفَّق، وعقل قد حَلَّت به الهداية – وجدت فيهما كل ما تطلبه من أدلة الأحكام التي تريد الوقوف على دلائلها كائنًا ما كان”[12].

ب – هيمنة النصوص الشرعية على مسالك الاجتهاد:

ومما يتأيد به هذا القول: أنه ما من مسلك من مسالك الاجتهاد المعتبرة إلا واشترط العلماء في صحة الاستدلال به: أن يستند إلى دليل شرعي خاص – كالحال في الإجماع والقياس – أو دليل عام يُستوحَى من مجموع نصوص الشريعة – كالحال في المصلحة المرسلة وغيرها – واشترطوا ألَّا يعود الأخذ بها على نص شرعي بالإبطال؛ حتى قال الشافعي: “إذا صح الحديث فاضربوا بقولي عرض الحائط”[13]. ومِثل ذلك مأثور عن غيره من الأئمة.

وهذه المسالك نفسها، إنما أُقرت واعتبرت بالنصوص الشرعية؛ فمتى عاد الفرع على الأصل بالإبطال، فالفرع أولى بإبطاله من أصله الذي تفرع منه، وهذا لا يقع إلا حيث يكون الأخذ بدليل من تلك الأدلة بغير الوجه الصحيح؛ إذ لا تعارض بين النصوص وما توجبه وتقتضيه؛ ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 82].

فلا تعارض بين نص شرعي وقياس شرعي صحيح، ولا بين نص ومصلحة شرعية صحيحة، ثم إن الله تعالى جل في علاه لم يجعل المردَّ إلى شيء عند الاختلاف إلا لكتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].

ج- فوائد التمسك بالنصوص الشرعية، ومفاسد العدول عنها في تقرير الأحكام:

لقد أدرك العلماء أهمية الارتكاز على النصوص الشرعية في هدايتها إلى الحق والصواب؛ فغدَا المدار في بحوثهم واستنباطاتهم عليها؛ فمنها يَصدُرون وإليها يَرِدُون، كما نبَّهوا إلى مفاسد العدول عنها، فيما ينشأ عنه من كثرة الاختلاف ومجانبة الصواب، الناتجين عن التناقض والتعقيد والاضطراب في الألفاظ المُحْدَثة المستَعاضة عن النصوص الشرعية.

وفي ذلك يقول ابن القيم: “ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه؛ فإنه يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حُكم مضمون له الصواب، متضمِّن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعيَّن ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا على منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خُلوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظًا غير ألفاظ النصوص؛ فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان؛ فتولد مِن هِجرانِ ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله؛ فألفاظ النصوص عصمة وحجة، بريئة من الخطأ والتناقض، والتعقيد والاضطراب، ولمَّا كانت هي عصمةَ عهدةِ الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون، كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهَلُمَّ جرًّا”[14].

أقول: ومن جعل النصوص الشرعية مرآته، واجتهد في معرفتها وطرق دلالاتها على الأحكام، أبصر الحق فيها، واهتدى بها إلى الصواب[15]، حتى إذا لم يجد النص في قضية بعد اجتهاده في طلبه[16] وأخذ بمسالك الاجتهاد الأخرى، كان أقرب إلى معرفة الحق بما تحصل له من دوام مطالعة النصوص والفقه فيها، من معرفة مقاصد الشريعة الصحيحة، ومألوف الشرع ومعهوده، الذي لن يأتي اجتهاده – في غالبه – إلا على وِزانه ووفاقه، كما كان اجتهاد الخلفاء الراشدين، وفقهاء الصحابة والتابعين، والأئمة المهديين، رضوان الله عليهم أجمعين؛ فما أكثر ما اجتهدوا في غياب النص بعد طلبه، ثم يأتي من ينبه إلى ما يدل من النصوص على ما صدر منهم من اجتهادات صائبة موفَّقة، وما اجتهادات عمر رضي الله عنه – التي كان يتنزل الوحي بوفاقها – إلا خير دليل على هذا القول.

خاتمة:

إذا تقرر ما سبق، فإن عدم الظفر بالدليل في النصوص الشرعية – لا يعتبر دليلًا على عدم وجوده فيها؛ إذ قد يدركه بعض العلماء، ولا يدركه بعضهم الآخر؛ لتفاوت قدراتهم في الإحاطة بالنصوص والفهم والاستنباط منها.

يقول ابن القيم: “قد يقصُر فهمُ أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، وعن وجه الدلالة وموقعها، وتفاوتُ الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله – لا يحصيه إلا الله”[17].

وقال أيضًا: “والمقصود: تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ، دون سياقه، ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به، فيفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن، لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم؛ فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به”[18].

أقول: ولا مانع من الاستدلال على الأحكام بمسالك الاجتهاد المعتبرة من قياس ونحوه بعد الاستدلال عليها بالنصوص، كما هو عمل جمهور علماء المسلمين؛ لأن تضافر الأدلة يفيد قوةً للحكم، ويدفع الطعن فيه والاعتراض عليه، ويكسبه قوة وحصانة ومناعة من عوارض الشكوك والشبهات.

إن دعاوى الاجتهاد المعاصرة اليوم لفي أمسِّ الحاجة إلى إيلاء النص الشرعي أهميته؛ تأكيدًا عليه في كل ما جدَّ ويستجد للأمة من اجتهادات، وعملًا على إعداد طلبة العلم في مختلف مراحلهم الدراسية على أساسه، وتشجيعًا للاجتهادات الموفَّقة إلى استنباط أحكامها من نصوص الشريعة بالجوائز والمكافآت، وجعلها محل الصدارة والعناية في المجامع الفقهية والمدارس والجامعات والمؤتمرات والندوات؛ فذلكم المسلك الضامن للسداد في الرأي والرشاد في الاجتهاد، والله الموفق الهادي إلى الصواب.


[1] قواطع الأدلة في الأصول؛ للسمعاني؛ 2/ 84، وانظر: البرهان في أصول الفقه؛ للجويني؛ 2/ 3، وأصول السرخسي 2/ 139.

[2] الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي؛ للحجوي الفاسي؛ 2/ 41.

[3] تفسير القرآن العظيم؛ لابن كثير؛ 1/ 4.

[4] مجموع الفتاوى 10/ 363. انظر كلامًا في تأكيد هذا المعنى: إعلام الموقعين، لابن القيم؛ 1/ 250.

[5] إعلام الموقعين؛ 4/ 130.

[6] نفسه.

[7] مجموع الفتاوى؛ 19/ 280.

[8] نفسه؛ 19/ 280.

[9] إعلام الموقعين؛ 1/ 251.

[10] مجموع الفتاوى؛ 19/ 280-289.

[11] مجموع الفتاوى؛ 28/ 129.

[12] إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول؛ للشوكاني؛ 2/ 224-226.

[13] أسنى المطالب في شرح روض الطالب، زكريا الأنصاري 2/ 363.

[14] إعلام الموقعين؛ 4/ 130.

[15] لأن النصوص الشرعية هي البوصلة الموجهة إلى الاجتهاد الأسلم، والرأي السديد الأقوم، وهو ما أمر الله نبيه بإعلامه للأمة وإبلاغه لها؛ حيث قال له: ﴿ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي ﴾[سبأ: 50].

[16] النص المراد هنا بالاجتهاد في طلبه هو النص القطعي بالوقوف عليه، من غير حاجة إلى اجتهاد في دلالته، وكذلك النص الظني في دلالته، بالاجتهاد في كشف دلالته على أنواع القضايا والحوادث بأوجه الدلالة المعتبرة، وهو مجال واسع من الاجتهاد في إثبات الأحكام بالنصوص الشرعية.

[17] إعلام الموقعين؛ 1/ 250.

[18] نفسه؛ 1/ 267.

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى