إعداد : الشيخ د. سالم الشيخي
من نافلة القول الحديث عن كون هذه الأمة قد أُصيبت في قلبها إصابةً مؤلمة، يوم تم الاعتداء على أرض نهاية الإسراء وبداية المعراج، أرض النبوات، أرض المسجد الأقصى المبارك.
وكانت بداية “الشرعنة” لهذا الظلم عندما أرسل وزير الخارجية البريطاني آرثر جيمس بلفور في شهر نوفمبر عام 1917 ميلادية رسالة إلى أحد أبرز القيادات اليهودية البريطانية آنذاك، وهو اللورد روتشيلد، يعد فيها اليهود بإقامة دولة لهم على أرض فلسطين تحت شعار: (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، ومُكّن المعتدي من الاستمرار في مخططاته، إلى أن أُعطي هذا الاعتداء شرعية “من لا يملك لمن لا يستحق”، بقرار “تقسيم” لأرض فلسطين يقضي للظالم الغاصب بامتلاك ما استطاع غصبه من هذه الأرض المباركة، وتمّ ذلك في عام 1947م بقرار دولي لم يُبن على أي أساس قانوني؛ إذ لا يوجد –تحت أديم السماء- قانون يقر الظالم على ظلمه، والمغتصب على اغتصابه لأرض الغير.
ثم جاءت منظومة الخيانة المركبة في نفاق دولي ومكر استعماري وتخاذل عربي، فكانت ظلمات بعضها فوق بعض… ووقعت المصيبة الكبرى في عام 1948م، وسارت الأوضاع بعد ذلك إلى الواقع الأليم الذي نعيشه اليوم، ويصطلي بناره أهلنا في فلسطين.
إن هذه النكبة الفاجعة التي اصطلح على تسميتها بالقضية الفلسطينية، -وأحب أن أُسميها بقضية المسلمين في فلسطين، لما لدلالة كل تسمية من أثر على الواقع والمستقبل- لم يعرف التاريخ قضية أخذت من الزخم الإعلامي مثل ما أخذته هي، ولا نالت من البحث العلمي مع كثرة المتابعة والاهتمام من العالم أجمع مثلما نالته هي.
وفي الوقت ذاته لم تتعرض قضية للتزوير والتضليل والتآمر والاستثمار والكيد… مثلما تعرضت له هذه القضية، هذا مع اتخاذها مرتكزاً لنفاق دولي وإقليمي وعربي ومحلي…!!
وقد تم هذا التزوير والتضليل عبر محاور كثيرة، ومستويات متعددة، نطرح بعضها من خلال هذه الأسئلة:
- هل هذه القضية قضية احتلال أم أنها قضية صراع بين أصحاب أرض واحدة؟
- هل هي قضية خاصة بأهل تلك البقعة أم أنها قضية “شرق أوسطية” يؤول حلها لدول كبرى تتحكم في حاضرها ومستقبلها؟
- هل هي قضية الفلسطينيين، أم أنها قضية العرب و المسلمين أجمعين؟
- هل مقاومة من يقاوم الظالم المحتل لأرضه إرهاب ممنوع أم أنه جهاد ودفع مشروع؟
إلى غير ذلك من الأسئلة المطروحة والمحسومة الإجابة عند صانعيها.
في ظل كل هذه المعطيات نحتاج على الدوام أن نبين التصور الإسلامي تجاه هذه القضية، حتى تظل الأحكام الشرعية والتصورات الإسلامية هي المرجعية الحاكمة، والقوة الدافعة لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، ونصرة المظلوم، وقمع الظالم وردّه.
وقد استوفى علماء هذه الأمة منذ أن وقعت جريمة الاحتلال بيان هذه الثوابت، ولم يتخاذلوا -ولله الحمد والمنة- عن أداء دورهم، عند تخاذل حكامهم؛ فكانوا -على حد تعبير الجويني رحمه الله-: “فإذا شغر الزمان من الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة واستقلال وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد”.[غياث الأمم: ص 252] .
فما الحكام إلاََّ نواب عن الأمة في حفظ الدين وسياسة الدنيا، فإذا عجزوا وتقاعسوا عاد الأمر إلى أولي الأمر من العلماء رعاة الأمة وحفّاظ الشريعة، ولذا فالناظر في فتاوى العلماء منذ أن بدأ الاحتلال البريطاني، مروراً بفترة الانتداب إلى يومنا هذا، يرى أن الدعوة إلى التمسك بالثوابت، وعدم التنازل عن الأرض والمقدسات واضحة جلية، بل كادت لذيوعها تُعدّ من المعلوم من الدين بالضرورة.
ولذلك فإننا نريد -على الدوام- من علمائنا ودعاتنا أن يذكِّروا بالثوابت الشرعية والتصورات الإسلامية المتعلقة بهذه القضية، نريد للجميع أن يتصدوا للذين يريدون إبعاد الحل الإسلامي لقضية المسلمين في فلسطين عن الحلول المطروحة على الساحة السياسية اليوم، ويواجهوا الذين يريدون له في أحسن أحواله أن يُجمد في ثلاجة التاريخ، على اعتباره -كما يزعمون- يخالف المنطق ويستحيل تطبيقه، ويفتقد الإِمكانات الواقعية في ظل عولمة النفاق الذي تعيشه المنطقة اليوم والعالم أجمع.
وخلاصة نصوص الشرع الصحيحة الصريحة وفتاوى العلماء الجماعية والفردية تعود لإقرار وتثبيت هذه القضايا:
- حرمة التنازل عن شبر واحد من أرض المسلمين في فلسطين لصالح العدو الغاصب.
- شرعية المقاومة للدفاع عن هذه الأرض، بل ووجوبها.
- وجوب نصرة المسلمين لإخوانهم في فلسطين.
- وجوب السعي لإعادة المهجرين من فلسطين وحرمة التنازل عن حق العودة.
- بذل الوسع في تخليص أسرى المسلمين في فلسطين من أيدي المحتل.
ومع وضوح هذه الثوابت الشرعية إِلاَّ أنني أحببتُ أن أُذكّر بأصلين اثنين، من لم يفقهما فلا يمكنه أن يتصور الحل الإسلامي الذي يدعو العلماء والدعاة إليه، وهما أصلان أضعهما بين يدي طائفتين من الناس.
الطائفة الأولى: وهم الذين تمسكوا بفتاوى العلماء، وبذلوا أرواحهم وأموالهم في سبيل الدفاع عن أرضهم.
الطائفة الثانية: الذين نكصوا على أعقابهم، وخالفوا ما أجمع عليه علماؤهم، واعترفوا للظالم بحق لا يملكون التفريط فيه.
الأصل الأول: سنة الحراك التاريخي
فالله تبارك وتعالى خلق هذا الوجود، وجعل له بحكمته سنناً تحكم حركة البشرية عبر الزمان والمكان، وهذه السنن أو القوانين لا يمكن أن تتغير أو تتبدل كما قال تعالى:( لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ)، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
وعندما يقع الظلم والاعتداء والبغي على أهل الإسلام، وتشتد المحنة، ويعظم الكرب،- كما هو الحال في فلسطين – فعليهم أن يتذكروا أن دوام الحال من المحال، وأن دوام الظلم مخالف لسنن الله في الوجود، وأن حالة تصور وقوف حركة التاريخ عند نقطة معينة دون أن تتزعزع أو تتحرك – وهي الحالة التي يسميها البعض بظاهرة تصنيم التاريخ – هي حالة مرفوضة شرعاً وعقلاً وتاريخاً.
إن هذا الظلم الذي امتلك أصحابه الأسباب، وقد أخضعوا لسلطانهم الرقاب، سيدفع بأصحاب الحق المغتصب أن يرجعوا إلى أنفسهم عند اشتداد المحن عليهم، وسيكون أمامهم حينها خياران لا ثالث لهما:
الخيار الأول:- أن يتكيفوا مع واقع الظلم، ويرضوا به باسم العجز وفقد المقدرة على رفعه أحياناً، وباسم العقلانية والواقعية أحياناً أخرى، وعند وقوع هذا التكيف المذموم تستجيب نفوس المظلومين لتندمج مع الواقع الظالم، وتصبح جزءًا منه، وهي الحالة التي سمّاها الإسلام بالركون إلى الباطل، أو الفتنة، (وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً)، وهي حالة ممنوعة شرعاً وعقلاً ومنطقاً وتاريخاً، ولقد نزل قوله تعالى: (وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً)، عندما اشتد الأمر على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأُغلقت أمامه الأبواب، – خاصة بعد حادثة الطائف – نزل القرآن محذراً من هذه الحالة؛ إذ لا يقبل دين العزة حالة الركون والاستجابة للواقع الظالم، فضلاً عن مباركته وإعطائه الشرعية المزعومة، ورحم الله سيد قطب؛ إذ يقول عند هذه الآية: “وإن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عند ما سلم به أول مرة ؛لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء”.
وعليه فخلاصة هذا الخيار تتلخص في المعادلة الآتية:
استجابة لضغوط الظلمة < رضى وقبول بالظلم< إعطاء المشروعية للظالم < أن يصبح المظلوم جزءاً من منظومة الظالم = ركون.
فمتى استجاب المظلوم لضغوط الواقع من حوله، ورضي الاستكانة للظلم والقبول به، ثم أقر للظالم بمشروعية ظلمه، واعترف له بحقه في الاغتصاب والاعتداء، فإنه سوف ينتهي إلى حالة يصبح فيها جزءاً من منظومة الظالم بل وأداة من أدواته، وقد كان المطلوب أن يصمد المظلوم، ويصبر في مجابهة الطغيان سيراً على سنة الله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)، ومن طلب شاهداً على هذا التحول في سلوك المظلوم من الاستجابة إلى ضغوط الواقع، إلى الصيرورة كجزء من منظومة الظالم، فلن يعدم مئات النماذج في التاريخ، وفي الواقع المعاصر، وبخاصة ما نراه في مسيرة دعاة الاستسلام الذين ابتلي بهم الواقع الفلسطيني والإسلامي اليوم، والذين يصدق في أتباعهم ومنظريهم ما قاله تعالى حكاية عن فرعون وقومه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ).
وعليه فما نسمعه اليوم ممن يتشدق بالواقعية -أي الرضى والتسليم بالواقع – وجعل هذا الواقع مصدراً لأخذ الحقوق على قاعدة “خذ وطالب”، وقاعدة التدرج في أخذ الحقوق حتى تحولت الحقوق إلى فتاتٍ يُستجدى على مائدة اللئام إنما هو صورة من الركون إلى الظلمة والاستسلام للواقع المهين.
الخيار الثاني: أن يفرق المسلم بين قدرته على رفع الظلم والاضطهاد، وبين إقرار الظالم على ظلمه؛ فقد نعجز عن رفع الظلم، ولكننا لن نعجز – بإذن الله- عن رفض الإقرار بالظلم والعدوان والطغيان. نعم قد نعجز عن قول الحق ونصرة المظلوم، ولكننا لا يمكن أن نقول باطلاً أو ننصر ظالماً؛ فبصيص الرفض للظلم والطغيان لا تخبو جذوته مهما كان ضعيفاً وضئيلاً، وسيظل يذكي روح الأمل في النصر، ولعل مجنون ليلى فطن لهذا المعنى في قوله:
لئن تمنعوا ليلى وتحموا حريمَها عليّ فلن تحموا عليّ القوافيا
وهذا الخيار المبارك لن يتحقق في مثل هذه الظروف الصعبة، إلاّ بدوام التذكير بالثوابت الإسلامية لحل قضيتنا في فلسطين، والاستمرار في طرح التصورات الإسلامية المتعلقة بهذه القضية.
وخلاصة القول إن الخيار الأول يجعل من الواقعية الموهومة مصدراً للحل، وأن الخيار الثاني يجعل من الثوابت الإسلامية مصدراً لحل قضية المسلمين في فلسطين.
الأصل الثاني: سنة التدافع والمدافعة
فمن سنن الله في الكون والوجود والحياة سنة المدافعة والتدافع التي نؤمن بها، ونجعلها أصلاً عقدياً نؤسس عليه تصورنا لحل قضيتنا في فلسطين؛ فالحياة تقوم على ثنائيات متغالبة يدفع بعضها بعضاً، فالخير يدفع الشر، والحق يدفع الباطل، والعدل يدفع الظلم، وإعمار الأرض يدفع خرابها، والحرية تدفع الاستعباد، والكرامة تدفع المهانة، والعزة تدفع الذلة، والعلم يدفع الجهل، إلى غير ذلك من الثنائيات التي لا حصر لها.
هذه السنة ماضية وأهل الحق أمامها في اختبار شديد وبلاء عظيم، فإن هم سعوا إلى التناغم مع سنة الله في كونه، تحققت لهم العزة والكرامة، وتحقق لهم التمكين في الأرض وعمّ الحق والخير والعدل بين الناس أجمعين، وإن هم سكتوا عن دفع الشر بالخير، والظلم بالعدل، والباطل بالحق عمّ عندها الفساد والظلم والباطل؛ إذ ما انتشر باطل إلاّ بسكوت أهل الحق عليه.
(وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).
فعلينا أن نوقن أن التقاعس والتخاذل عن المدافعة مآله الاعتداء على أهل الحق قتلاً وظلماً وتشريداً، ومن أجل ذلك وجب على المسلمين أن يقاوموا الظلم والشر والفساد والطغيان إذا وقع عليهم؛ ليحفظ الله بذلك دينهم، وأنفسهم، وأهلهم، ودماءهم، وأعراضهم، وأرضهم، وأموالهم.
بل خيرية هذه الأمة لن تنالها إلاّ بإحيائها لأمر الله الشرعي، المتوافق مع سنةِ الله الكونية بمقاومة المنكر وإحلال المعروف محله.
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ).
(وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ).
ومن هنا فلا خيار أمام أهل الإسلام، إذا تعرضوا للظلم والطغيان، إلاّ أن يقاوموه، جرياً على سنة التدافع، ولن يكتمل إسلامهم دون ذلك، ولا كرامة لهم إلاّ بذلك، وما الواقع الذي يعيشه المسلمون اليوم إلاّ نتيجة واضحة لغفلتهم عن هذه السنة الربانية والفريضة الإلهية.
وفي الختام فقد أردت أن أضع بين يدي كل مظلوم هذه الأصول، حتى لا يزيغ عن طريق الحق، ويتبع سبيل الذين لا يعلمون، والله هو الهادي إلى الصراط المستقيم.