مقالات مختارة

أين الخلل؟

بقلم د. فتحي أبو الورد

كان هذا عنوان المنتدى الفكري الذي أقامته رابطة تلاميذ القرضاوي مساء السبت الماضي لمناقشة كتاب “أين الخلل”؟ في حضور الشيخ القرضاوي والذي ألفه قبل أكثر من ثلاثين عاما، واستدعاه الواقع اليوم استدعاء لمناقشته، وقوفا على نظرة تقييمية موضوعية متجردة شاملة لمسيرة الحركة الإسلامية وتحديد مواطن الخلل، وتعيين سبل النهوض واستشراف المستقبل.

ومن الملفت للنظر أن دراسة الموضوع في الوقت الراهن الذي تحياه الأمة كان موضع اتفاق بين الحضور، إذ هو حديث الساعة، وواجب الوقت، ومعقد أولويات المنظرين والتنفيذيين على حد سواء، كما تعد هذه الوقفة من أولويات الحركة الإسلامية اليوم في ظل النكبات التي أحاطتها والضربات التي لاحقتها، حتى أذهلتها في بعض المواطن وأفقدتها الوحدة والتماسك في بعض المواقع، فكانت مناقشة الموضوع دعوة إلى النقد والتطوير والتقييم والتجديد والمراجعة وتقييم الوسائل والأدوات، وقياس الواقع ورصد التحديات، وليأخذ ذلك من الوقت والتأني والجهد ما يأخذ، فلا يعقل أن ننطلق إلى رسم المستقبل دون دراسات عميقة ورؤية واضحة، وخطوات مرسومة، وأهداف معلومة، في ضوء ما تفرزه عملية التقييم والمراجعة.

وليس بغريب ولا جديد حتى على المستوى الفردي أن يراجع المسلم مسيرته وخطته ليعيد النظر، ويقيم جهده، ويقف على نقاط القوة فيستثمرها، كما يقف على جوانب الإخفاق، ومواطن الضعف والخلل، ويقف على العراقيل والعقبات والتحديات التي تشتت جهده وتعرقل سعيه وتستنفد طاقته دونما طائل، ومن ثم يصوب خطوه نحو الهدف ويمضي قدما تجاه مقصده، وقد ورد في الأثر: “من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان غده شرا من يومه فهو ملعون، ومن لم يتعاهد النقصان من نفسه فهو في نقصان، ومن كان في نقصان فالموت خير له”.

وقد كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري كما جاء في شرح السنة للبغوي: “لا يمنعنك قضاء قضيته، ثم راجعت فيه نفسك، فهديت لرشده أن تنقضه، فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”.

هذا على المستوى الفردي؛ فكيف إذا تعلق الأمر بمستقبل أمة ومصير أوطان، أعتقد أن الأمر أشد وجوبا، وأعظم خطورة.

وتعد معرفة أين الخلل أولى الخطوات في عملية التقييم؛ لتصحيح المسيرة، ولضبط بوصلة السير نحو المستقبل، تماما مثلما يبدأ الطبيب بعمل الفحوص والتحاليل الطبية والأشعات بأنواعها ليتعرف على نوع المرض وتشخيص الحالة ومن ثم يمضي قدما في توصيف العلاج المناسب ملتمسا في ذلك النجاة والعافية.

كما يعد وضوح الرؤية لاختراق آفاق المستقبل فريضة شرعية وضرورة حياتية وعملية وواقعية لضمان السير بصورة واضحة على هدى وبصيرة نحو المستقبل، وذلك يعصم من العشوائية والعفوية والاجتزائية، والخروج من حالة ردود الأفعال إلى حالة صناعة الأفعال، بحيث تجيب الرؤية على أسئلة من نحو: أين أنا؟ وماذا أريد؟ وكيف السبيل؟ ومتى أحقق ذلك؟

وقد عرف الفقه الإسلامي بمدارسه المتعددة هذه المراجعات، وعرف ما أسماه الفقهاء بقاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، وعرف قاعدة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان، فكان للشافعي مذهبان في القديم والجديد، وشاع عنه هذه العبارة: قال في القديم، وقال في الجديد. وقال العلماء في اختلاف الصاحبين –أبى يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني- مع أبى حنيفة: إنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان.

ومما ينقل عن الشيخ ابن أبي زيد القيرواني المالكي، وكان وقع له حائط في داره، وكان يخاف على نفسه من الشيعة؛ فاتخذ كلبا لذلك، فقيل له: إن مالكا لا يتخذ الكلب في الدور لحراسة البيوت والأمتعة!! فقال: لو أدرك مالك زماننا لاتخذ أسدا ضاريا.

والمدارس السياسية والتربوية والإصلاحية سواء مع المدارس الفقهية في ضرورة المراجعة وقراءة الواقع الجديد، والبصر بالزمان، ومن ثم الإفتاء بما يحقق المصلحة الشرعية.

أما مفردات النقد والتقييم والمراجعة، وبنود التطوير وأفكار التجديد فهذا مرجعه إلى أبناء الحركة الإسلامية، من الشباب والشيوخ، ومن الرجل والمرأة، ومن كل وطني غيور يعمل من أجل دينه وأوطانه من المختصين، ومن كل حريص على المساهمة في عملية البناء والنهوض، مع مراعاة التوظيف المناسب للطاقة البشرية، كل حسب مؤهلاته ومواهبه وقدراته، والاستفادة من كل ذي خبرة.

قال الزهري كما جاء في شرح السنة للبغوي: كان مجلس عمر مغتصا من القراء، شبابا كانوا أو كهولا، فربما استشارهم، فيقول: “لا يمنعن أحدكم أن يشير برأيه فإن العلم ليس على قدم السن، ولا على حداثته، ولكن الله يضعه حيث يشاء”.

ومما أختم به حديثي وكان موضع انتباهي أن الشيخ لم يفته وهو يدعو إلى نقد الذات وإلى التجديد والتطوير ومعرفة أين الخلل، لم يفته أن يشير إلى المناخ الذي تعمل فيه الحركة الإسلامية، والضربات التي تلاحقها، حتى إنها لا تكاد تفيق من ضربة إلا وتصيبها أخرى، باعتبار ذلك عنصرا أساسيا من عناصر التقييم الشاملة، والنقد الموضوعي، إنصافا للحركة، وإحقاقا للحق، وشهادة للتاريخ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى