هوليوود تسوّق للنسوية وتزوّر التاريخ.. مسلسل Mrs. America
إعداد تسنيم راجح
في الخامس عشر من شهر أبريل الماضي أطلقت شبكةFX أولى حلقات مسلسل “Mrs. America” الذي يزْعَم أنه مبني على أحداث حقيقية، هذا المسلسل القصير المعروض في تسع حلقات، والمصنوع بأيدي يسارية واضحة المعالم يحكي قصة الصراع الذي دار في السبعينات في الولايات المتحدة الأمريكية بين الحركة النسوية، وبين التيار المحافظ حول قضيّة تحرّر المرأة المتمثّل بتعديل مساواة الحقوق الدستوري (Equal Rights Amendment).
كعادتها؛ فإن هوليوود لا تقدم لنا قصة مجردة بوقائعها التاريخية المسجلة، وإنما لا بد أن تضع لمساتها وإضافاتها الخاصة عليها لتحوّل الحدث إلى رسالة مؤدلجة فيها خيرٌ وشرٌ ومحاكاة للعواطف والغرائز، مما ينتج نهايةً موقفاً محدداً مسبقاً في ذهن المشاهد.
هذه المنظومة الإعلامية الضخمة المموّلة بملايين الدولارات لا تعنيها القيم ولا تهمها الحقائق، إنما تستخدم جلَّ أدواتها في إقناع المشاهد بأفكارها الشيطانية بأخبث الوسائل الممكنة. وحين كانت قصة العمل متعلقة بالنسوية والمحافظة، فلا شك أن هوليوود ستساند النسوية، وستحوِّل في سبيل ذلك أصحاب الموقف المخالف إلى وحوش ورموزٍ للشر أياً كانوا.
أحاول في هذا المقال إيرادَ أبرز أمثلةً على أدلجة المفاهيم وتزوير الحقائق وابتداع التاريخ في المسلسل المذكور ليتضح للقارئ أسلوب هوليوود وصُنَّاع الأفلام بشكل عام في إيصال رسائلهم المخفية عن طريق أعمال تبدو في ظاهرها ترفيهية مجردة.
صراع النسويين والمحافظين
يحكي الفلم قصة حقيقية دارت في سبعينات القرن الماضي حين اقترح ناشطون التعديل الدستوري القائل بالمساواة التامة بين الجنسين في الحقوق والواجبات القانونية، ومنع التمييز الجنسي في أي حق أو واجب في البلاد في إطار حركات تحرير المرأة وتقدمها[1].
بدا التعديل ذو العنوانٍ الجذاب “المساواة” بريئاً وبسيطاً لعامة الشعب، مما جعلهم يدعمونه أول الأمر، لكن عمل التيار المعارض للتعديل بقيادة فيليس شلافلي (التي تبناها اليمين المحافظ، أي: الحزب الجمهوري) كان محورياً في توضيح مآلات المساواة المجحفة ومناقضتها لقيم الأسرة والدين في المجتمع، مما أدى إلى رفض جزء كبير من الشعب للتعديل ومطالبة النواب بمنعه ومن ثم إلغائه تماماً عام 1982[2].
ولكون التعديل بفكرته وغايته يوافق هوى النسوية فقد حملت شعاره ودعت إليه النسويات آنذاك، وتبنّاه اليسار الليبرالي (أي الحزب الديمقراطي)، ورأوا فيه غاية التحرر والحضارة التي تلغي الفوارق بين الرجال والنساء، ومن أهم قادة التيار المشهورين في ذاك الوقت: بيتي فريدان وغلوريا ستاينم وبيلا أبزاغ[3].
فيليس شلافلي (الشخصية الرئيسية في المسلسل) قادت حركة معارضة تعديل المساواة لأنها -على حد تعبيرها- أرادت تنبيه النساء إلى حقيقة الفكر النسوي ومآلات شعاراته الرنانة[4]. فكانت شلافلي ناشطة رائدة في توضيح حقيقة مطالب النسويات اللواتي يردن مساواة المرأة بالرجل مقابل استغنائها عن ميزاتها المكفولة قانونياً كحقها في النفقة الكافية من زوجها، وامتناع التجنيد الإجباري عنها حال الحرب، وحقها في التأمين الاجتماعي من زوجها وغير ذلك الكثير مما خفي على عامة النساء[5].
وقد حققت شلافلي في نشاطها نجاحاً كبيراً. فرغم أنها بدأت حراكها الرافض لتعديل المساواة في مراحل تمريره الأخيرة إلا أنها تمكنت من قلب موقف الشعب لصفها وإلغاء تعديل المساواة انتهاءً ووضع عراقيل أمامه مازالت قائمة حتى اليوم[6].
كانت قدرة شلافلي على كشف خفايا المساواة ومآلات الفكر التيار النسوي وآثار مساعيه على المرأة والعائلة والقيم الأمريكية مؤثرةً في جعل جزء كافٍ من المجتمع يرفض تعديل المساواة. ولأن حراك شلافلي المنطلق من الدين المسيحي والقيم التقليدية كان ناجحاً وعائقاً في وجه تقدم اليسار اللاديني فلا عجب أنهم كرهوها ورأوا فيها الشر المطلق. ويستشف ذلك –على سبيل المثال- من قول آن فريدان لها في أحد المناظرات: “أنت خائنة وعدوة لأبناء جنسك، كم أتمنى أن أربطك على عصاً وأحرقك” [أي: كالساحرات]![7].
ولما كان اليسار يزداد شعبيةً وتأثيراً اليوم، خصوصاً مع بُعد الجيل الجديد عن الدين وانفصاله عن تاريخه القديم والحديث، رأت هوليوود أن تنتج عملاً كاملاً يلمّع صورة النسويات ويشيطن عدوتهن ويعيد كتابة القصة على أنها تراجيديا تاريخية مؤلمة خسر فيها العدل وانتصرت فيها الساحرة الشريرة وأتباعها الجهّال!
تصوير المسلسل للواقع
شلافلي كانت شخصية غريبة بالنسبة للنسويات، فقد رفضت المساواة ودافعت عن حق المرأة بالأمومة والتربية ووصفت الإنجاب بالحاجة الغريزية التي تطلبها معظم النساء، وقالت مرة: “كثيرٌ من النساء يعملن خارج البيت وهن بحاجة للعمل، لكنني أرفض تماماً قول هؤلاء الليبراليات اللواتي يزدرين ربة البيت التي تريد لأمومتها أن تكون مهنتها الوحيدة، هؤلاء يسمين البيت بالسجن الأنيق بينما يصوّرن العمل خارجه على أنه الجنة، في حين أن كثير من النساء يعتبرن البيت أكثر مكان مرضٍ ومريح. أنا أعمل لحفظ حق المرأة في أن تكون الأمومة وظيفتها الدائمة إن شاءت، فأول شيءٍ سيفعله تعديل مساواة الحقوق هو إزالة واجب النفقة عن كاهل الزوج وتقسيمه بالتساوي بين الزوجين”[8].
كما أنها قدّمت صورة ثابتة للمرأة المحافظة الفخورة ببيتها ودينها والقوية في مناظراتها وتأثيرها على الجمهور. لكن المسلسل أظهرها بشكل مختلفٍ تماماً، حيث ظهرت كاذبة وجاهلة وحقودة، مخدوعة وخادعة لكل من حولها، إضافة لامتلاكها أجندات خفية لا علم لأحد بها وبأنها تعامل زوجها وأبناءها الستة بأسوأ الأساليب الجارحة، مع أن كل ذلك لا دليل عليه البتة، بل هو مخالفٌ لما يبدو لقارئ التاريخ الناظر في وثائقه.
في مشهدٍ صادم صنعه الكاتب من خلال دمج ثلاث مواقف حقيقية موثقة ليصور مناظرة شلافلي وزوجها ضد برندا فاستو وزوجها، واستخدم فيه حوارات حقيقية، لكن بقائلين مقلوبين وسياقات مختلفة[9].
ففي لقاء مشترك لفيليس وزوجها في برنامج صباحي، مرّت عبارات حكى فيها الزوجان تفاصيل من حياتهما في سياق المزاح، أخذها الكاتب ووضعها على لسان الزوج في قلب المناظرة الرسمية المحتدمة ليبدو أنه الزوج المحافظ يحرج زوجته أمام الجمهور[10]، بينما زوج النسوية المتحررة يقدّرها ويعاملها بحب واحترام. إضافة لذلك أخذ الكاتب حواراً لفيليس مع النسوية بيتي فريدان[11] تقدم فيه فريدان عدة دعاوى كاذبة، فتحرجها فيليس بمطالبتها بدليل عدة مرات على الهواء، بينما تتهرب فريدان دون جدوى (وهذا كله موثق ومتوفر على يوتيوب)، فأخذ الكاتب هذا الحوار نفسه ووضعه في مشهد مناظرة شلافلي وفاستو مع جعل شلافلي هي الطرف الذي يقدم الدعاوى الكاذبة ويحرج نهايةً من قبل خصمه المطالب بالدليل[12]!
إضافة للتزوير الجلي، فقد اخترعت هوليوود تفاصيل كثيرة زجّتها في قصة المسلسل، فأضافت أحداثًا مختلقة لحياة فيليس الخاصة لتبدو على خلاف مستمر مع زوجها، وترسم في ذهن المشاهد أنها منافقة لا تعيش القيم التي تدعو إليها، كما ابتدع الكاتب خلافاً بينها وبين ابنتها لتبدو عائلتها رافضةً لها، الأمر الذي كتبت عنه الابنة الحقيقية وطالبت إدارة المسلسل بالرجوع عنه دون جدوى. وزيادةً في استغفال المشاهد اخترع الكاتب شخصيةً لا وجود حقيقي لها أسموها أليس مكراي وقرروا أنها صديقة فيليس المقربة التي تبدأ داعمةً لها ثم تتحول تدريجياً لكرهها والحقد عليها حين تكتشف أكاذيبها. وبهذه الطريقة وجد الكاتب شخصاً افتراضياً يقول لفيليس ما يتمنى قوله لها لو كان حياً في ذاك الوقت.
رغم أنني هنا لا أدافع عن شخص فيليس شلافلي، إلا أنها كانت نصيرة للتيار الديني، وفي صراع مساواة الحقوق تصدّت بنجاح للنسويات وأظهرت كذبهنّ، ولذلك كانت عقوبتها أن حوّلتها هوليود إلى رمز البغض والكره الذي لا يذكرنا إلا بساحرات ديزني الشريرات. وفي المقابل، صوّر المسلسل النسويات على أنهن مرحات، سعيدات صادقات ولطيفات، يتبعن قيماً وأهدافاً عظيمة يومنّ بها سواء في الحياة الخاصة أو على المسارح، حتى إن الواحدة من قادتهن لا تكاد تمشي خطوة في الطريق إلا وتوقفها حشود النساء الشاكرات لجهودها العظيمة في سبيل تحررهن[13].
تزوير بلا خجل!
العجيب أننا هنا نتحدث عن كذب وضاح وتزوير جلي وإساءة لأشخاص بذاتهم دون مداراة أو مواراة، مع أن معظم شخصيات العمل مازالت على قيد الحياة، كما أن القصة المروية لا تبعد أكثر من 50 سنة إلى الوراء، لكنّ هوليوود تعوّل على جهل الجيل الجديد وميل الشباب للفكر اليساري وانبهار الفتيات بشعارات النسوية، وكسل الجميع عن النظر في السجلات أو عبر محركات البحث عن التاريخ الصحيح، فأنتجت عملاً كاملاً لا يحمل من الواقع إلا الأسماء، محشوًّا بتسويق النسوية وتحويل كل من لا يوافقها إلى شرٍ محضٍ في جسد إنسان.
ولنا أن نسأل هنا:
لصالح مَن تعمل هذه المنظومة المموّلة بملايين الدولارات، ذات البوابات المضمونة إلى البيوت والعقول؟ مَن الذي يحدد الفكرة والقصة والمعتَقَد الذي تنتجه تلك الأعمال في المشاهدين؟ ولماذا نرى فيها كل يوم مزيداً من الانحلال والكذب في أطرٍ جذابة من الصور والمؤثرات المتقنة؟ ولماذا لا تصلنا أي قصة إلا مرفقةً بذم الدين وربط أي متديّن بالشر المطلق؟
إن هذا البعد الممنهج عن الدين لا يخدم بالفعل إلا غايات الشيطان الذي {لَعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء:118]، والذي مازال يوسوس في بني آدم حتى يصيروا عباداً له من دون الله. وها هي الأجيال تنبذ تدريجياً أياً من بقايا الدين، وتتحوّل لترى في مجرد الانتماء إليه خزياً وعاراً ومعاداة للقيم الإنسانية التي استبدلتها به، وكل ذلك تحقيقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: “لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ ” (رواه مسلم).
لا بدّ في ختام الحديث من التنبيه إلى أن هذا الحديث عن المسلسل لا يسوّغ لي أو للقراء متابعته أو تكثير مشاهداته، فهدفنا تزكية نفوسنا أولاً، ومن ثم تدريبها على نقد ما يقدّم عليها، لا فتح أبوابٍ جديدة عليها من الكذب والوهم. نسأل الله أن يؤتي نفوسنا تقواها وأن يزكيها هو خير من زكاها.
[1] The History of the Equal Rights Amendment. ERA: A History, API.
https://alicepaul.org/era/history/
[2] المصدر السابق
[3] Equal Rights Amendment Passed by Congress, History.
https://www.history.com/this-day-in-history/equal-rights-amendment-passed-by-congress
[4] The Life and Legacy of Phyllis Schlafly, Phyllis Schlafly Eagles.
https://www.phyllisschlafly.com/phyllis/
[5] The Equal Rights Amendment Explained, Alex Cohen and Wilfred U. Codrington III, Bennan Center For Justice, 2020.
https://www.brennancenter.org/our-work/research-reports/equal-rights-amendment-explained
[6] Phyllis Schlafly’s Lasting Legacy in Defeating the E.R.A., Clyde Haberman, The New York Times, 2016.
https://www.nytimes.com/2016/09/12/us/phyllis-schlaflys-lasting-legacy-in-defeating-the-era.html
[7] Phyllis Schlafly Biography (1924-2016), Biography, 2020.
https://www.biography.com/political-figure/phyllis-schlafly
[8] Phyllis Schlafly on the Equal Rights Amendment | Phil Donahue Show 1974, Phyllis Schlafly Eagles. 2019.
https://www.youtube.com/watch?v=EtcSFH1xubA&t=964s
[9] مناظرة شلافلي وفاستو في المسلسل: https://www.youtube.com/watch?v=KDOe_jovXTk
جزء من مناظرة شلافلي وفاستو الحقيقية: https://www.youtube.com/watch?v=KBt5tCGV1sI
[10] لقاء فيليس شلافلي وزوجها: https://www.youtube.com/watch?v=dd0E72ZU5oM&t=7s
[12] انظر الدقيقة 16 و17 من اللقاء المشترك لفيليس شلافلي وبيتي فريدان: https://www.youtube.com/watch?v=WncN6PWEMGo
والدقيقة 1:30 من مناظرة شلافلي وفاستو في المسلسل: https://www.youtube.com/watch?v=KDOe_jovXTk
[13] Mrs. America | Ep. 4: Betty and Gloria Highlight | FX
https://www.youtube.com/watch?v=6u2cBwrKACY
(المصدر: موقع السبيل)