مقالاتمقالات مختارة

المؤسّسة الدّينيّة و”الحركة التّصحيحيّة” وبدايات حافظ الأسد

المؤسّسة الدّينيّة و”الحركة التّصحيحيّة” وبدايات حافظ الأسد

بقلم محمد خير موسى

لم يتخيّل السوريّون أنّهم دخلوا في حكمٍ سيدوم أكثر من خمسين سنةً وسيصوغُ سوريا المعاصرة سياسيًا وشعبيًّا ودينيًّا لعقودٍ طويلة ابتداء من السادس عشر من تشرين الثّاني “نوفمبر” من عام 1970م حين أعلن حافظ الأسد الانقلاب على رفقاء دربه في حزب البعث وأطاح بالرّئيس الفعليّ لسوريا صلاح جديد والرّئيس المعلن نور الدّين الأتاسي وزجّ بهما في السّجن.

  • استبشار وترحيب

عقب إعلان حافظ الأسد عن انقلابه الذي أسماه “الحركة التّصحيحيّة” استقبلت الفعاليّات الدّينيّة من العلماء والدّعاة في مختلف المحافظات لا سيما دمشق وحلب المدينتان الأكبر الانقلاب بالتّرحيب والاستبشار وكثيرٍ من الارتياح، وهكذا كان الحال في عموم أوساط الشّعب السّوريّ لا سيما الشّرائح المتديّنة.

وتعودُ أسباب هذا الارتياح الكبير والتّرحيب بانقلاب حافظ الأسد من العلماء والدّعاة إلى أسباب عديدة أهمّها:

أوّلها: كانت الفرحة الكبيرة بالتّخلّص من صلاح جديد وليس فرحًا بحافظ الأسد، فقد وصل التّنكيل بعموم الشّعب السّوري لا سيما الإسلاميين منهم مبلغًا عظيمًا حتّى صار النّاس يردّدون بأنّهم يقبلون بالتّخلّص من صلاح جديد ولو جاء مكانه الشّيطان؛ فاعتقال العشرات من العلماء والدّعاة وفي مقدّمتهم الشّيخ حسن حبنّكة كان في هذا العهد المظلم؛ كما كانت ذاكرة العلماء محمّلة بأثقال الجرائم البعثيّة ومنها المجازر التي حدثت في جامع السّلطان في حماة إثر اقتحامه بالدّبابات عام 1964م، والمجزرة التي حدثت في الجامع الأموي عام 1965م أيضًا إثر اقتحام باحاته بالدّبابات؛  فكان المهم بالنّسبة للعلماء والدّعاة آنذاك أن يتخلّصوا من هذا الاستبداد القائم بأيّ ثمنٍ كان؛ لكنّهم ما حسبوا أنّ الثّمن الذي استبشروا به سيكون كابوسًا لن ينتهي بسهولة.

وما تزال فكرة التّخلّص من المستبدّ أيًّا كان البديل الذي يأتي مهيمنةً على مشاعر وتفكير الكثير من السّوريّين بعد هذه السّنوات الدّامية، على الرّغم من أنّ هذا المنهج في التّعامل كانت له آثارٌ بالغة التّدمير فيما مضى وفيما هو قائمٌ إلى الآن.

الثّاني: مبادرة حافظ الأسد إلى تعيين رئيس سنّي هو أحمد حسن الخطيب في رسالةٍ لنفي الطّائفيّة عنه وقد بقي الخطيبُ رئيسًا انتقاليًّا حتّى عام 1971 حيثُ قدّم استقالته ليغدو حافظ الأسد بعد ذلك رئيسًا معلنًا لسوريا بناءً على استفتاء شعبيّ.

الثّالث: الخطاب التّصالحي الذي أعلنه حافظ الأسد مع عموم شرائح الشّعب السّوريّ ومكوّناته بما فيهم جماعة الإخوان المسلمين والعلماء والدّعاة الذين بدأ باستقبال وفودهم والتّرحيب بهم وتقديم خطابٍ مختلفٍ تمامًا لهم عن المرحلة السّابقة، وكذلك قيامه بزياراتٍ إلى المحافظات المختلفة وكان يحظى بترحيب شعبيّ كبيرٍ وكان العلماء والدّعاة يشاركون في هذه الاستقبالات، وكان الأسد يوليهم اهتمامًا خاصًّا في هذه الزيارات والجولات.

الرّابع: منح مساحة واسعة من الحريّة في العمل الدّعوي

كانت المؤسّسة الدّينيّة بما تمثّله من العلماء والدّعاة من مختلف توجّهاتهم ومدارسهم الفكريّة هي المحرّك الرّئيس للاحتجاجات

والمسجديّ لم تكن موجودة في عهد صلاح جديد، ويمكن القول: إنّ الفترة ما بين أواخر عام 1970م وعام 1973م كانت الفترة الذّهبيّة للعمل المسجديّ لعموم الجماعات والتّوجّهات الدّعويّة والإسلاميّة في سوريا في مرحلة ما بعد “الحركة التّصحيحيّة”.

  • نقطة التّحوّل

غيرَ أنّ شهر العسل بين حافظ الأسد والمؤسّسة الدّينيّة لم يدم طويلًا؛ ففي ربيع عام 1973م عيّن حافظ الأسد لجنةَ صياغةٍ للدّستور وحين رفعت مسودّة الدّستور إلى مجلس الشّعب صدم العلماء والدّعاة بحذف مادةٍ رئيسة من دستور عام 1950م وهي المادّة الثّالثة ونصّها:

” المادة الثالثة:
1. دين رئيس الجمهورية الإسلام.
2. الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع”

وهنا كان التّحرّك ضدّ هذا الدّستور واسعًا وأخذ الحراك صورةً تصاعديّة ابتدأت بالإنكار ووصلت إلى المواجهة الدّمويّة في بعض المحافظات.

كانت المؤسّسة الدّينيّة بما تمثّله من العلماء والدّعاة من مختلف توجّهاتهم ومدارسهم الفكريّة هي المحرّك الرّئيس للاحتجاجات وعموم التّحرّكات في مختلف المحافظات السّوريّة.

وتعاملت عموم العلماء والدّعاة مع حذف هذه المسألة على أنّها حربٌ معلنةٌ على الهويّة الإسلاميّة للدّولة السّوريّة، فهي عندهم ليست مسألةً سياسيّة بل مسالة تمسّ العقيدة والإيمان، كما رأوا في هذا انقلابًا من حافظ الأسد على كلّ الوعود والتّطمينات التي كان يقدّمها لهم في اللقاءات المختلفة.

  • من نماذج المواجهة

اختلفت طبيعة مواجهة المؤسسة الدّينيّة لحذف المادّة الثّالثة من دستور عام 1973م من محافظةٍ لأخرى في الحراك الاحتجاجيّ الذي عرف باسم “أحداث الدّستور”.

كانت الاحتجاجات الأعنف في مدينة حماة حيث خرجت مظاهرات عارمة يقودها الشّيخ سعيد حوّى والّشيخ مروان حديد وهما من أبرز رموز علماء الإخوان المسلمين، وقد تصدّت القوى الأمنيّة بعنفٍ للمظاهرات وقتلت العشرات واعتقلت المئات وأطلق سراح المعتقلين عقب عشرة أشهر من الاحتجاجات إلّا الشّيخ سعيد حوّى الذي بقي في المعتقل خمس سنوات حيث أطلق سراحه عام 1978م، أمّا مروان حديد فقد استطاع التّواري إلى أن اعتقل عام 1975م ليتوفّى في مستشفى سجن المزّة عام 1976م.

أمّا دمشق فقد كان الحراك واسعًا لكن دون مظاهرات، إنّما تجلّى في عقد اجتماعات مكثّفة وواسعة للعلماء والدّعاة، كما قام العلماء بتسطير عريضةٍ احتجاجيّة وقّع عليها عامّة العلماء والدّعاة في دمشق، وقد كان أحد أهمّ الرموز المحرّكة لهذا الحراك الشّيخ حسن حبنّكة الميداني، وقد وقّع على هذه العريضة عموم العلماء في دمشق من مختلف التوجّهات والجماعات حتّى البعيدين عن العمل السياسي منهم.

أمّا حلب فقد كان حراكها عبر إعلان رفض الدّستور على المنابر، وكان أبرز المحرّكين لرفض الدّستور الشّيخ محمد منير حدّاد وهو من تلاميذ الشّيخ محمّد النبهان والشّيخ عبدالله ناصح علوان وهو من رموز جماعة الإخوان المسلمين وكانت خطبهما النّاريّة سببًا في اتّساع الحركة الاحتجاجيّة التي كان التّعبير الأجلى عنها في الكتابة على الجدران وانتشار الشعارات الجداريّة الرّافضة للدّستور.

أمّا حمص فقد كان حراكها متنوّعًا بين بعض المظاهرات التي كان يتقدّمها العلماء والدّعاة وقوبلت بإطلاق الرّصاص الحيّ عليها، وبين الخطب الناريّة التحريضيّة على الدّستور والتي كان يخطبها عموم العلماء من التوجّهات المختلفة ومن أبرز هؤلاء العلماء الذين كان لهم دورٌ في تحريك الشّارع لمواجهة الدّستور الشّيخ محمّد علي مشعل وقد تمّ اعتقاله، والشّيخ محمود سويد الذي قضى لاحقًا في سجون حافظ الأسد، والشّيخ وصفي المسدّي، والشّيخ عدنان السّقّا، والشّيخ ممدوح جنيد، والشّيخ عبد الغفّار الدّروبي.

  • نتائج الاحتجاجات

اضطرّ حافظ الأسد مع تصاعد الاحتجاجات للرّضوخ لهذا الحراك الاحتجاجيّ الذي قاده العلماء في دمشق وحلب وحماة وحمص وأعاد المادة الثّالثة التي حذفها من الدستور

ولكنّ التفافًا ماكرًا حدث على هذه المادة وإفراغًا تامًا لها من مضمونها

موقف المؤسّسة الدّينيّة كان موقفًا متقدّمًا ورياديًا وأثبت قدرته على تحريك الجماهير عند وجود الإرادة الحقيقيّة

من خلال تمرير حافظ الأسد المادّة الثّامنة في الدّستور، ونصّها:

“المادة الثامنة: حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة، ويقود جبهة وطنية تقدمية تعمل على توحيد طاقات جماهير الشعب ووضعها في خدمة أهداف الأمة العربية”

من الملاحظ في هذه الأحداث أمران:

الأوّل: موقف المؤسّسة الدّينيّة كان موقفًا متقدّمًا ورياديًا وأثبت قدرته على تحريك الجماهير عند وجود الإرادة الحقيقيّة لذلك وتماسك صفّ العلماء والدّعاة وتعاضدهم وهذا الموقف المتماسك هو الذي أخضع حافظ الأسد وجعله يضيفُ المادّة الثّالثة من الدّستور التي أوقعَته في ورطة، إذ إنّ عامّة علماء المسلمين من السّنة والشيعة على حدٍّ سواء يعدّون الطائفة العلويّة النصيريّة التي ينتمي لها حافظ الأسد طائفةً غير مسلمة ولا صلةَ لها بدين الإسلام بأيّ شكلٍ من الأشكال.

اضطرّ حافظ الأسد للخروج من هذا المأزق للجوء إلى صديقه المقرّب المرجع الشّيعي الإمام موسى الصّدر ليصدرَ في تموز “يوليو” عام 1973م فتوى تنصّ على اعتبار العلويّين النّصيريين في سوريا ولبنان فرقةً من فرق الشّيعة الجعفريّة الإماميّة الاثني عشريّة.

الثّاني: كان هذا الموقف من المؤسّسة الدينيّة نقطة التّحوّل في منهجيّة حافظ الأسد مع أركان هذه المؤسّسة، فقد التقط الأسد الرّسالة جيّدًا ورسم سياساته النّاظمة للتّعامل مع المؤسسّة الدّينيّة بما يضمن له الاستمرار في السّلطة.

وهكذا ابتدأ عهدٌ جديدٌ بعد انتهاء أحداث دستور عام 1973م مختلفٌ تمامًا عمّا قبله في طبيعة العلاقة بين حافظ الأسد والعلماء والدّعاة في عموم أنحاء سوريا.

(المصدر: سوريا تي في)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى