كيف يفكر فقهاء السياسة الشرعية
تأليف: معتز رمضان العراقي
تحرير: خلود بنت عبد العزيز الحبيب
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وحبيب الحق الهادي إلى سواء السبيل الذي أُرسل بالحجة البالغة والرسالة الساطعة الخاتمة فكَمُل الدين وخُتمت الرسالات بهديه ونهجه وشريعة الله التي بلغها كاملة غير منقوصة وبعد :
فإن العالم اليوم يمر بأحداث وتقلبات يُخبرك مدى تميزها من الغيظ عن شدة تعقيدها وتركيبها والتي تُلقي بظلالها على كافة مظاهر حياتنا اليومية، والعالم الإسلامي وفي القلب منه منطقتنا العربية تكتنفها مظاهر التعقيد والتركيب والتشابك في أحداثها عامة، وبالأخص منها الأحداث السياسية.
والمنطقة كلها على صفيح ساخن تنذر بانفجار محتوم، وقواعد اللعبة السياسية سواء إقليما أو دوليا كل يوم هي في شأن، وما يترتب على المسلمين من جراء هذا لو يعلمون عظيم.
والمسلمون في ظل هذه التغيرات والأحداث الساخنة والصراعات المعقدة الدامية أحد الأطراف المخاطبون بهذه التغيرات والـأحداث، بل هم أهم المخاطبين والمقصودين بها وبالتالي لا يَسَعُهم غير الإجابة عن سؤالات هذا الواقع المعقد، ومن البديهي ولا شك أن المسلمين الموجودين في حلبة هذا الصراع لهم منطلقات وقواعد وأصول ينطلقون منها للإجابة عن تلك التساؤلات، وبالأخص منهم الذين قرروا أن تكون مصدر إجاباتهم عن تلك التساؤلات هي الشريعة الإسلامية أصولا وقواعدا وفروعا يبدؤون منها وينتهون إليها ، يبدؤون منها في التعامل مع الواقع المعقد وكيفية تفكيكه وتحليله ومن ثم الرد على أطروحاته ثم ينتهون إليها في رسم استراتيجياتهم الكلية ومنطلقاتهم الأصلية وخططهم التفصيلية، لرسم الصورة المنشودة التي يجب أن يكون عليها هذا العالم الملتهب حسب رؤيتهم وتصوراتهم .
والحق أن الجزء الأساس في هذه الإجابات ينبغي فيه رد تلك التطورات والتعقيدات والتشابكات الحادثة لأصولها التي يحسن فهم تلك التشابكات من خلالها ومن ثم الحكم عليها حكما صحيحا ، وهذه التطورات ما هي إلا مجموعة من الأقوال والأفعال والتقريرات وكل فعل أو قول أو تقرير له في ميزان الشرع حكم، وهذا المعنى مقرر مقعد من استقراء الشرع من قبل علمائه المحققين وفقهائه المجتهدين ، يقول الإمام الشافعي في رسالته الفريدة “فليستْ تنزلُ بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها ” [i]وهذه الجملة البديعة هي بيت القصيد من هذه المقدمة بل من كافة البحث وقد علق الإمام القرطبي على هذه العبارة العبقرية في تفسيره فقال ” إما دلالة مبينة مشروحة أو مجملة يبينها رسوله الكريم في سنته أو من الإجماع أو من القياس ” أ.ه
من تلك النوازل التي تكلم عنها الإمام الشافعي النوازل السياسية، وما يكتنفها من تعقيدات وتشبيكات يجب أن توضع على ميزان الشرع، ومن باب أولى أن توضع اجتهادات أصحاب التخصص والفن على ميزان الشرع أيضا ، فهذه الاجتهادات ولا شك إما فعل أو قول أو تقرير يجري عليه أحكام الشريعة الغراء، وبالتالي فالنوازل السياسية التي يتعامل معها السياسي أو العسكري أو الأمني وغيرهم يتجاذبها منزعان : منزع هو رأي الشرع في هذه النازلة وتأطيرها تحت أطر الشرع ، ومنزع آخر هو تعامل أهل الاختصاص مع هذه النازلة ورأي الشرع في هذا التعامل، وعلى كل فسؤال أهل الاختصاص في نازلة معينة يعد أحد مقدمات الحكم الشرعي ومنطلقاته البنائية، وفي المجمل فكل ما تحدثنا عنه آنفا هو أحد أجزاء الفقه الإسلامي الشامل بأصوله وفروعه، والفقهاء والمجتهدون الذين يتعاملون مع هذه الأفعال والأحداث ليس لهم إلى إظهار وتبيان حكم الشارع فيها، ولهم في ذلك طرائق ومسالك يتخذونها للوصول لمراد الله عز وجل ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام في هذه النوازل، وهذا ما يسميه الأصوليون بالاجتهاد ، هذه الطرائق والمسالك وكيفية استعمالها للوصول للحكم الشرعي في النازلة هي موضوع بحثنا، والذي سوف نقوم فيه بمحاولة لمقاربة كيف كان *يفكر فقهاء السياسة الشرعية* وكيف كانوا يتعاملون مع النوازل السياسية فنتجاوز الحديث عن ماذا قالوا ؟ إلى الإجابة عن سؤال كيف قالوا ؟ فنترك الأقوال التي يكثر عليها النزاع – ليس تقليلا من شأن أقوال وكلام الفقهاء – ونتجه للغوص فيما وراء الكلام الفقهي إلى طرائق وأسس التفكير الفقهي التي بنى عليها فقهاؤنا الكبار العظام مسالكهم واختياراتهم الشرعية في النوازل والخطوب السياسية، وهو ما يعني في نظري الاستفادة من كم هائل من التراث العظيم الضخم الذي تركه لنا علماؤنا ومجتهدونا ، والباحث ولله الحمد معظم لهذا التراث وأراه أحد أفضل وأهم الأدوات التي من شأن التمكن منها والاستيلاء عليها أن يحدث نقلة نوعية فريدة على مستوى التفكير الفقهي، وعلى مستوى نضج العقلية الفقهية المعاصرة.
مجموع تلك الطرائق والأسس وكليات النظر عند الفقهاء الذين يبحثون في النازلة السياسية هي ما يسمى عند الفقهاء بالملكة الفقهية ، تلك هي الفكرة المركزية التي يبحث عنها هذا البحث *الملكة الفقهية عند فقهاء السياسة الشرعية*، وكيف كانت تلك الملكة عند علمائنا هي الضامن الوحيد لجودة النظر وثقابة الفكر وحسن التعامل مع النوازل والمستجدات السياسية على هدى من الله ونور بعيد عن كل غلو مفرط أو تساهل معيب، وسوف ينتظم بحثي هذا عن الملكة الفقهية بشقيها النظري و العملي وما فيه من تطبيقات عند الفقهاء، الذين لهم باع في قضايا النوازل السياسية قديما فترى مدى خطورة وأهمية هذا المبحث وتلك المعالجات في واقعنا المعاصر.
وسوف أقسم بحثي هذا على بضعة حلقات أتناول فيها الملكة الفقهية من جهة نظر ما هي الملكة؟ وما موقعها من علوم التراث وما قيمتها وثمرتها؟ ثم أسسها وطرائقها ومحاورها التي تنتظم فيها، ثم نتحدث عن تطبيقات الملكة واستخداماتها عند فقهاء السياسة الشرعية فنخرج بعد هذه الحلقات لرسم منهج أو صورة كاملة – فيما يبدو لي – عن منهج هؤلاء الكبار في التعامل مع تلك النوازل عسى أن نقتفي أثرهم ونحذو حذوهم.
الملكة الفقهية وكمال الشريعة المحمدية :
(( ترَكَنا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وسلَّم وما طائرٌ يطيرُ بجَناحَيْهِ إلّا عندَنا منه عِلمٌ ))
إن الشريعة المحمدية التي أتى بها النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم شريعة كاملة لا نقصان فيها، لا يجادل في هذا مسلم صحيح الإسلام، بل ما نعتقده كمسلمين هو ما قرره الصحابي الجليل في الحديث المرفوع، الذي صححه ابن حبان في صحيحه وهو المذكر آنفا.
والنصوص الدالة على كمال هذه الشريعة كثيرة متواترة، فمنها قوله تعالى:﴿ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ ﴾ سورة المائدة: 3.
و منها قوله تعالى:﴿وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِينٗا فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ﴾ آل عمران:85.
وجه الدلالة من هذه الآية أن الله نفى أن يقبل من أحد غير هذا الدين، ولولا أن هذا الدين كامل لما صح النفي، إذ نقصه يقتضي الحاجة إلى تكميله، وتكميله-مع وجود نقص فيه-لا بد أن يكون من غيره، وغيره منفي القبول، فلزم أن يكون كاملا لا نقص فيه.
ومنها قوله تعالى:﴿ا يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا﴾ النساء: 58-59.
وجه الدلالة من هذه الآية أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر من المؤمنين، ثم عقب على ذلك بالأمر برد ما اختلفوا فيه من شيء إلى الله والرسول، فدل على أنه ما من شيء يختلف فيه المسلمون -بما فيه الرعية وولاة أمرهم-إلا وله في هذه الشريعة حكم فصل، ولو كانت هذه الشريعة ناقصة لما صحت هذه الإحالة العامة، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالإحالة إلى مليء، فلا يحال إلى غير مليء، فالشريعة مليئة، أي كاملة.
ومن ذلك وصف كتابه الذي هو المصدر الأول لشريعته بأنه هدى، وأنه يهدي للتي هي أقوم، كما في قوله تعالى:﴿الٓمٓ١ ذَٰلِكَ ٱلۡكِتَٰبُ لَا رَيۡبَۛ فِيهِۛ هُدٗى لِّلۡمُتَّقِينَ٢﴾ البقرة:1-2.
وقوله تعالى:﴿إِنَّ هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ يَهۡدِي لِلَّتِي هِيَ أَقۡوَمُ ﴾ الإسراء: 9.
والنصوص كثيرة متضافرة على تلك الخصيصة المميزة لتلك الرسالة الخاتمة، غير أن البرهنة على أن تلك الخصيصة المميزة للشريعة بنصوصها المتناهية قد يثار حولها شبهة في أنه كيف تقضي تلك النصوص المتناهية على هذه الحوادث والنوازل اللامتناهية، والتي تظهر وتطل علينا في كل مناحي حياتنا وبالأخص منها النوازل والوقائع السياسية المتجددة، والتي لا نجد لها معالجات واضحة ولا تناول في كلام الفقهاء القدماء في مواطن بحث تلك النوازل، والحق الذي نعتقده ونتصور به هذا الأمر أن الله قد وضع القواعد والأصول ورسم المناهج والأسس وأرسل بها محمدا صلى الله عليه وسلم ومن قبله الأنبياء الكرام بالرسالات الحقة من عنده، ثم أورث العلماء المحققين والفقهاء المجتهدين من أمة سيدنا محمد العلم وفتح لهم باب الاجتهاد وحث عليه ورغب فيه فثارت همم الأئمة الكبار والفقهاء العظام إلى استثمار تلك الأسس والقواعد والأصول المبثوثة في شريعته الكاملة الخاتمة في رد النوازل والوقائع لتلك الأصول والقواعد بطرق علمية شرعية غاية في الدقة، فيكشف العلماء بذلك عن مراد الله ومراد رسوله عليه الصلاة والسلام في هذه الوقائع والنوازل، ولقد تقرر لدى علماء الشريعة الغراء أن وظيفة المجتهد الفقيه ليست اختراع حكم شرعي إنما بيانه واظهاره بحسب ما تقتضيه طرائق العلم والاجتهاد، هذا الاجتهاد وذلك الاستثمار لتلك الأسس والقواعد والأصول هو ما يسمى لدى علماء الفقه والأصول بالملكة الفقهية ، فما تلك الملكة وكيف تصورها؟
تعريف الملكة الفقهية :
إن الحديث عن الملكة الفقهية وماهيتها وأهميتها وثمرات تفعيلها يقتضي منا التحدث عن الملكة الفقهية لغة واصطلاحا؛ لنحسن التصور ومن ثم نحسن الحكم عليها فمن المعلوم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
الملكة لغة :
مأخوذة من ملك، وهو كما – قال ابن فارس – أصل صحيح يدل على قوة الشيء وصحة، فيقال : ملك الشيء ملكا : أي حازه وانفرد بالتصرف فيه ، فهو مالك.[ii]
الملكة اصطلاحا :
هي ((صفة راسخة في النفس ))[iii] ، ويقال لها : كيفية أو حالة، فإذا كانت تلك الهيئة سريعة الزوال سميت كيفية أو حالة، أما إذا تكررت تلك الهيئة ومارستها النفس حتي رسخت فيها، وصارت متعذرة الزوال أصبحت ملكة كملكة الحساب وملكة اللغة وملكة الخطابة وملكة الكتابة وغيرها. [iv]
الفقهية لغة :
نسبة إلى الفقه وهو مأخوذ من فقه، وهو يطلق على الفهم والعلم والفطانة .[v]
الفقه اصطلاحا: هو (العلم بالأحكام الشريعة العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية) .[vi]
مما سبق يمكن الخروج بتعريف لمركب *الملكة الفقهية* وهو اصطلاح معاصر لا نجده بهذا التركيب في كتب المتقدمين والتعريف المختار هو (( القدرة الراسخة في النفس ، التي يتمكن صاحبها من معرفة الأحكام الشرعية وتنزيلها على الوقائع ))[vii] .
الملكة الفقهية والمهارات الفقهية :
بعد هذا التعريف الذي خرجنا منه بتصور الملكة الفقهية اصطلاحا ظهر للباحث أن تلك الصفة لكي يمكن ترسيخها في النفس والاعتماد عليها في حسن التعامل مع النوازل لابد لها من متابعة وصقل مهاري حتى يمكن قياس تلك الملكة أو تلك الصفة الراسخة والحكم عليها، هنا يتوجب علينا الحديث عن المهارة الفقهية وعلاقتها بالملكة الفقهية ؟!
الملكة الفقهية استعدادا في الخلقة وتراكم في الخبرة، استعدادا يولد مع الإنسان، ويكون كامنا في ذاته كمون الحبة في باطن الأرض ثم لا يزال ينمو بسقيه بالمعارف والمطالعة ويترقى بالدربة والمران، ويتهذب بالممارسة والتحقيق حتى يصير هيئة راسخة في النفس يتناول بها الفقيه المسائل والوقائع، تأصيلا وتنزيلا، بحذق ويسر.
فالعلاقة بين الملكة الفقهية والمهارة الفقهية علاقة الخاص بالعام والجزء بالكل، فالملكة الفقهية أصل له فروع وجنس له أنواع، أحدها المهارة الفقهية: ولذا تجد من أهل العلم من هو ماهر في مهارة القياس ومنهم من هو ماهر في مهارة التخريج ومنهم من هو مهارة في مهارة الاستنباط إلى غير ذلك من المهارات الفقهية، فإن استجمع كل تلك المهارات أو جلها فهو المتحقق بالملكة الفقهية على تمامها وكمالها [viii].
الملكة الفقهية وأزمة التراث الإسلامي:
تلك الصورة التي اتضح منها بعض الشيء عن الملكة يظهر لها من وجه آخر أهمية كبيرة في فهم التراث الإسلامي ونزع فتيل الأزمة الواضحة في التفكير الإسلامي المعاص، فلقد كان التفكير الإسلامي ولازال في أزمة عراك متوهمة في التعامل مع التراث ونصوصه دون الوصول لصيغة تفاهم بين العقل المعاصر وأدواته وبين ذلك التراث ومصادره، ومنشأ الخلاف من وجهة نظري عدم تحرير محل النزاع وإظهار الفرق بين النص الشرعي المقدس والنص الفقهي الاجتهادي وايضاح حلقة الوصل بينهم والتي هي الملكة الفقهية، ويزعم الباحث أن التفرقة بين النصوص الفقهية الشرعية المقدسة من قرآن وسنة والتمسك بها كنصوص ثابتة مقدسة مصدرها الوحي ثم الانتقال إلى النصوص الفقهية الاجتهادية والنظر فيها وفي طرائق بنائها من حيث التقعيد والتأصيل والربط والتحليل والاستنتاج والسبر والتقسيم للوصول لحكم اجتهادي مبني على نص فقهي مقدس هو أصل لحل تلك الأزمة المتوهمة في التفكير الفقهي الإسلامي، والصراع العبثي الدائر في الحديث عن مدى عجز تراثنا الفقهي في خوض غمار المستجدات الحياتية وبالأخص المستجدات السياسية .
إن ضبط تصور الملكة الفقهية والتعرف على موقعها بين علوم التراث الإسلامي، ومدى عمقها وتجذرها في مصادر التراث الإسلامي هي الضمانة الوحيدة لمعرقة عظمة وبهاء هذا البناء الضخم اليانع الذي تركه لنا الفقهاء والعلماء العظام.
الملكة الفقهية وموقعها بين علوم التراث الإسلامي :
فالمصادر المدرسية للمتون الفقهية ، ومصادر التحرير للمذهب ، ومصادر الأقوال والمرويات ، ومصادر التحقيق والنقد ، وكتب الرد والانتصار، ومصادر الخلاف العالي ، وكتب الفتاوى والنوازل ، وكتب الأقضية ، وكتب التراجم ، ومصادر تجريد المسائل كل ذلك وغيره من المصادر تأتي الملكة الفقهية من بين كل هؤلاء لتكون النهر الجاري الذي تصب فيه كل تلك الكتب والمصادر فيخرج من بين كل تلك المصادر الفقيه المجتهد بكشف مراد الله وحكمه في النازلة عذبا ذلولا سائغا للمكلفين الذين يريدون ابتغاء وجه الله والسير على منهجه وشرعه دون زيغ أو انحراف.
الملكة الفقهية والدرس الفقهي المعاصر:
بيد أن الحديث عن الملكة الفقهية في واقعنا المعاصر والاهتمام بتخريج فقهاء راسخين مصقولي الملكة الفقهية ومتكاملي المهارات الفقهية التي تؤهل هؤلاء الفقهاء للتعامل مع النازلة الفقهية السياسية حديث ذو شجون، ويحتاج لنوع تكامل بين المؤسسات العلمية الأكاديمية والمدرسة العلمية المشيخية في الارتقاء بالدرس الفقهي المعاصر والاهتمام بتطوير الأداء في الدرس الفقهي للوصل لطلبة علم ذي ملكة فقهية أصيلة تنمو وتزداد بحسن الرعاية ودوام العناية بها، وللحديث عن تطوير أداء الدرس الفقهي المعاصر والحصول منه على المراد يحسن بنا الحديث عن ثلاث ملكات رئيسة [ix]وهي باختصار شديد كالتالي :
- ملكة الاستدلال: وفيها يتم تدريب الطالب على ربط الحكم بدليله بواسطة القواعد الأصولية والقدرة على استثمار تلك القواعد لتوليد الفروع أو على الأقل: فهم وجه الارتباط ووجه التوليد، والفقيه المنشود لا يصنع إلا بالمزاوجة بين الفقه والأصول وبين القواعد والقرائن الخاصة.
- ملكة التقعيد والضبط : وفيها يتم تدريب الطالب على رد فروع الفقه الغير منحصرة والتي منها الحوادث والنوازل المستجدة إلى الضوابط الكلية لكل باب من أبواب الفقه لتنتظم تلك الفروع تحت هذه الضوابط الكلية ، وبدون تلك القواعد والضوابط الكلية لا يمكن بأي حال ضبط الفقه والتمرس والتمرن على التعامل مع فروعه الغير متناهية يقول الإمام القرافي (( هذه القواعد مهمة في الفقه ، عظيمة النفع ، وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ويشرف، ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف …، ومن ضبط الفقه بقواعده ، واستغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات، واتحد عنده ما تناقض عن غيره وتناسب، وأجاب الشاسع البعيد وتقارب، وحصل طلبته في أقرب الأزمان ..)) أ.ه[x]
- ملكة التنزيل : وفيها يتمرن الطالب على الواقعة الشخصية والنازلة الفقهية سواء سياسية أو غيرها في قاعة الدرس وفي مجلس الفقه والم يفعل ذلك كان عرضة دائما للخطأ والزلل حينما يطبق وحده ، وملكة التنزيل أحد أبرز مكونات الملكة الفقهية وأكثرها شعورا بثمرة التحقق بتلك الملكة .
تلك أبزر ملكات الدرس الفقهي التي نود أن يكون عليها الدرس الفقهي المعاصر ليتخرج منه من يقدر على التعامل مع النازلة الفقهية السياسية بمقومات وملكات قادرة على جلاء الحكم الشرعي وبيانه .
ثمرات تفعيل الملكة الفقهية وآثار تطبيقها :
أنهي هذه الحلقة من المدخل للتعرف على الملكة ورسم صورة لها بالحديث عن ثمرة الملكة وأهميتها في صقل التعامل مع النوازل السياسية وكيف أنها أهم مقوم من مقومات التعامل مع تلك النوازل
إن الحديث عن الملكة وثمرات تفعيلها وتطبيقها لا يمكن حصره فإنه عسير ، ذاك أن تمام الإحاطة بالملكة الفقهية والاستيلاء عليها وحيازتها على النهج الذي سار عليه الفقهاء المتقدمين يظهر جليا واضحا في حسن التعاطي مع النوازل السياسية تصويرا وتقريرا وتدليلا وتنزيلا ، وللحديث عن ثمرات وفوائد الملكة ينتظم الحديث في محوريين [xi] :
- الملكة الفقهية وأثرها على الفقيه السياسي :
- النضوج العقلي والفكري: ((حسن الملكات في التعليم والصنائع وسائر الأحوال العادية يزيد الإنسان ذكاء في عقله وإضاءة في فكره، بكثرة الملكات الحاصلة في نفسه)).[xii]
- الحذق في الفقه السياسي والتفنن فيه والاستيلاء عليه.
- القدرة على التعامل مع النوازل السياسية واستخراج أحكامها الخفية من الأدلة البعيدة :
(( يعلم العالم من نفسه وصله لرتبة الاجتهاد واستكمال شرائطه ، بأن يعلم أنه أتقن آلات الاجتهاد كل الإتقان ، ووجد له ملكة وقدرة على الاستنباط واستخراج الأحكام الخفية من الأدلة البعيدة )).[xiii]
- فوائد الملكة الفقهية للمجتمع :
- معالجة قضايا العصر ومشكلاته ووقائعه المستجدة وبالأخص السياسية منها :
إن لكل عصر مستجداته ووقائعه التي لا يمكن أن نبحث له عن حكم شرعي في كلام فقهائنا وبالتالي يقتضي منا هذا النظر في البحث والتنقيب عن مراد الله تعالى ومراد رسوله في هذا الوقائع والمستجدات من خلال النصوص الشرعية بالطرائق والمسالك الشرعية والعلمية الدقيقة، التي تضمن لهذا المجتمع سيرا حقيقا على نهج الله ورسوله فيخرج المجتمع من العنت والضيق ولا يفرط في ثوابته وأصوله .
- ترشيد حركة المسلمين وبالأخص في مجال السياسة :
إن الفاعلين من المسلمين الذين خاضوا غمار السياسة ونافحوا عن أصولهم وثوابتهم التي استلهموها من دينهم وعقيدتهم، يتوجب عليهم إعداد فقهاء راسخين وعلماء متمكنين متحققين بالملكة الفقهية التي تؤهلهم من ترشيد تعاملهم مع النوازل السياسية دون إفراط أو تفريط ، فلا غَل ليد هؤلاء الفاعلين في التعامل مع مستجدات الأحداث والوقائع حتى يقوى عليهم أعداء الدين فيشردوا بهم وبمن خلفهم ، ولا اطلاق لأيديهم في التعامل مع تلك النوازل فيجتازوا حدود الشرع وينتهكوا حرمات الله التي ظهروا للدفاع عنها والحفاظ على ثوابتهم التي تخطوها، كل هذا ضمانته هي الملكة الفقهية تأسيسا ورعاية وتنمية.
- تذليل طريق العودة لقيام المجتمع الإسلامي :
المجتمع الإسلامي يتطلع للعودة للإسلام ، وهذه العودة تحتاج إلي فقيه صاحب ملكة فقهية راسخة قادرة على تقنين الفقه الإسلامي ، وتقديم النظريات والنظم الإسلامية التي نفخر ونعتز بها ، لتكون دستورا هاديا ومنقذا للمجتمع مما يعاني منه من تخبط وشقاء في أنظمته وشرائعه وسائر علاقاته في ميادين الحياة المختلفة
تلك هي الحلقة الأولى من حلقات الكشف عن طريقة تفكير فقهاء السياسة الشرعية وكيف أن الملكة الفقهية هي أدق مظهر من مظاهر تفوق العقلي الفقهي الشرعي ودقته في التعامل مع النوازل السياسية الشرعية ، وفي الحلقات القادمة نستكمل الحديث عن محاور الملكة الفقهية وبعض من المهارات التي تستخدم في عملية التعامل مع النوازل السياسية.
– – – – – – – –
[i] كتاب الرسالة ، محمد بن إدريس الشافعي، ج 1/19 ، ت أحمد محمد شاكر ، ط مكتبة الحلبي مصر
[ii] معجم مقاييس اللغة لابن فارس ، 5 /351
[iii] التعريفات للجرجاني ، ص 296
[iv] كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي ، 3/1338 ، التعريفات للجرجاني ص 296
[v] المقدمة لابن خلدون ، ص 490-491
[vi] منهاج الوصول إلى علم الأصول ، للبيضاوي ، ط دار الكتب العلمية ص 54
[vii] الملكة الفقهية حقيقتها وأركانها وشروطها ، عبدالله سليمان القاضي ص 66 ط العبيكان
[viii] مسرد المهارات الفقهية ، مجموعة من العلماء ص 26
[ix] استفدت في هذا المبحث من ورقة الدكتور الفاضل عامر بهجت عن الدرس الفقهي المعاصر في كتاب صناعة التفكير الفقهي
[x] الفروق للقرافي 1/3
[xi] استفدت هذا المبحث من كتاب *تكوين الملكة الفقهية* للدكتور محمد عثمان بشير
[xii] المقدمة لابن خلدون ، ص 378
[xiii] تقرير الاستناد في تفسير الاجتهاد للسيوطي ص 51 نقلا عن الشهرستاني
(المصدر: موقع “أثارة”)