مشكلة “الإرهاب” كما لا يريد أن يفهمها الغرب
يعود الحديث مجدداً عن “الإرهاب” الذي يلصقونه بالإسلام بعد غياب استمر لبعض الوقت ساد خلاله الحديث عن التهديدات السيبرانية، وصعود الشعبوية، والتهديدات البيولوجية والفيروسية على وقع جائحة كورونا، والتهديدات الجيوسياسية في بعض المناطق الساخنة.
يعود من جديد تصدر الحديث عن “الإرهاب” في المجال التداولي العام العالمي وتحديداً في الغرب والعالم الإسلامي، خصوصاً مع حدة التوتر التي ارتفعت مؤخراً جراء الرسوم المسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، والعمليات التي وقعت كرد فعل عليها من قبل البعض وتمثلت بعملية قتل معلم فرنسي جاهر بهذه الرسوم في غرفته الصفية، أو عملية الطعن التي جرت قبل عدة أيام أمام إحدى الكنائس في مدينة نيس الفرنسية، ورود الفعل المضادة التي كان منها طعن سيدتين مسلمتين قرب برج إيفيل في باريس.
يعود الحديث مجدداً عن “الإرهاب” الذي يلصقونه بالإسلام بعد غياب استمر لبعض الوقت ساد خلاله الحديث عن التهديدات السيبرانية، وصعود الشعبوية، والتهديدات البيولوجية والفيروسية على وقع جائحة كورونا، والتهديدات الجيوسياسية في بعض المناطق الساخنة مثل شرق المتوسط، والقوقاز، هذا فضلاً عن قضايا التطبيع، والتصعيد على إيران وغيرها، والحرب الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين.
مساءلة هذه العودة المفاجئة لا تعني أبداً نكران أن مشكلة “الإرهاب” والتطرف هي مشكلة حقيقية لا تواجه المجتمعات الغربية فقط، بل والمجتمعات العربية والإسلامية، وباقي المجتمعات كافة. وإذا كانت هذه العودة بهذا الوقت تثير تساؤلات كثيرة، غير أن الأمر الجوهري الذي يجب النظر إليه هو ليس في توصيف الحالة، بل إعادة النبش في جذورها، من أجل تفكيكها، وبالتالي إعادة بنائها وفق تصورات حقيقية وصحيحة تؤدي بالأخير إلى الحد منها أو حتى القضاء عليها كلياً.
وبما أن ظاهرة الإرهاب والتطرف من الظواهر المركبة التي تشترك عدة عوامل متداخلة سياسياً واجتماعياً وفكرياً في إنتاجها إلا أنه من حيث المبدأ يكمن الحديث أن نشوء التطرف أو “الإرهاب” في العقدين الأخيرين نجم عن التدخلات والاستفزازات الغربية للعالمين العربي والإسلامي، وعن انسداد الأفق السياسي الداخلي والمجتمعي في المجتمعات العربية والإسلامية. وبطبيعة الحال، كان هذان العاملان يتداخلان ويغذي أحدهما الآخر في كثير من المحطات.
لقد كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول على الولايات المتحدة عاملاً مفصلياً في العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي، على إثرها شنت الحرب الكونية على الإرهاب، والتي كانت كل من أفغانستان والعراق أهدافها الأولى وراح ضحيتها عشرات الآلاف من الأرواح البريئة.
لقد كان واحد من أبرز التبريرات التي ساقتها القاعدة لشن هذه الهجمات آنذاك هو وجود القوات الأجنبية في الجزيرة العربية. وقد جرت عمليات سابقة ضد القوات الأمريكية في الخليج مطالبة هذه القوات بالخروج. هذه القوات التي جاءت تحت ذريعة تحرير الكويت من الغزو العراقي عام 1991 بقيت في قواعد كثيرة منتشرة في دول الخليج كافة، وقد شكل هذا الوجود في وعي الكثير من قطاعات الجماعات الإسلامية احتلالاً، ويتناقض مع واحدة من أبرز مسلماتهم الدينية ألا وهي ضرورة خلو جزيرة العرب من الوجود المسيحي، فكيف إذا كان هذا الوجود مسيحياً عسكرياً؟!
وفي ذروة الحرب على الإرهاب، قامت صحيفة يولاندس بوستن الدنماركية عام 2005 بنشر صور مسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام، وبعد أقل من أسبوعين أي في 10 يناير/كانون الثاني 2006 قامت الصحيفة النرويجية Magazinet، والصحيفة الألمانية دي فيلت، والصحيفة الفرنسية France Soir وصحف أخرى في أوروبا بإعادة نشر تلك الصور الكاريكاتورية، الأمر الذي ظهر وكأنه حملة ممنهجة ومنظمة تهدف إلى النيل من أقدس شخصية إسلامية على الإطلاق، مبررين ذلك بحرية التعبير، أو حرية الصحافة. وقد جلبت هذه الصور ردوداً ساخطة على امتداد العالم الإسلامي، ودفعت الكثيرين إلى القيام بعمليات كما يسمونها “إرهابية” انتقامية، استثمرها الإعلام الغربي للترويج للإرهاب “الإسلامي” على أنه خطر حضاري، وتصوير المسلمين كهمجيين وبرابرة يعبرون عن آرائهم بالعنف والإرهاب، بينما الغرب الحضاري يعبر عن آرائه بالكلمة والصورة.
وفي عام 2015 عادت مجلة “شارلي إيبدو” الفرنسية المثيرة للجدل إلى نشر صورة كاريكاتورية مسيئة للرسول أيضاً، الأمر الذي استفز مشاعر المسلمين للغاية، ودفع بعضهم إلى القيام بهجوم مسلح على مبنى المجلة برشاشات خفيفة أدت إلى مقتل أربعة من صحافييها وراسمي الكاريكاتور فيها من ضمنهم “تشارب” و “كابو”، بالإضافة إلى شرطي فرنسي تبين لاحقاً أنه مسلم ويدعى أحمد.
هذه الاستفزازات جاءت بعد، وترافقت مع، ترسخ قناعة عند قطاعات عريضة من الشارعين العربي والإسلامي أن الغرب الذي يدعي الديمقراطية وحقوق الإنسان غير معني إطلاقاً بالديمقراطية وحقوق الإنسان في المنطقة العربية والإسلامية في ظل دعمه للأنظمة الدكتاتورية التي تلبي مصالحه، وفي ظل دعمه لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة كشعب واقع تحت الاحتلال.
لقد جاءت رسومات مجلة “شارلي إيبدو” بعد الصمت الغربي المطبق عن الانقلاب العسكري الذي أطاح بأول تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر عام 2013، وجاء بحكم عسكري مجدداً مارس أبشع المجازر في حق الأبرياء في واقعة رابعة وغيرها، هذا فضلاً عن تقاعس الغرب عن التدخل الإنساني لحماية المدنيين في سوريا الذين تعرضوا للإبادة جراء القصف الوحشي الذي مارسه نظام الأسد وداعموه الإيرانيون والروس، والقائمة تطول.
أما السبب الثاني لنشوء ظاهرة “الإرهاب” وتمددها فيعود إلى الانغلاق السياسي والمجتمعي ليس في المجتمعات الإسلامية والعربية وحسب بل وفي المجتمعات الغربية أيضاً، وذلك جراء فشل مشاريع الاندماج من ناحية، وانتشار الإسلاموفوبيا من جهة أخرى. وقد كان ملفتاً أنه ومع ازدياد العمليات “الارهابية” ضد المسلمين في أوروبا والغرب عموماً مع صعود تيارات اليمين المتطرف، كحادثة المسجدين في نيوزيلندا، فإن السلطات هناك لم تتحرك لتجريم الإسلاموفوبيا، وإعادة النظر في سياسات الاندماج لديها، بل عادت إلى الخطاب التقليدي في إلقاء اللوم على المسلمين، وكأن عدم الاندماج هو مكون طبيعي بنيوي في شخصية المهاجر وليس نتاج فشل السياسات المتبعة. وهنا ليس مستغرباً أن يخرج أحد مسؤولي دولة الإمارات وزير الدولة للشؤون الخارجية وهو أنور قرقاش ليشارك الغرب وجهة نظره، ويلقي باللائمة على المسلمين في فشلهم في الاندماج.
أما في المجتمعات الإسلامية، والعربية على وجه التحديد، فإن ضياع الأمل في التحول الديمقراطي على إثر فشل الربيع العربي، وتحول الكثير من الأقطار العربية إلى ساحات مواجهة عسكرية بالوكالة بين القوى الكبرى مثل سوريا وليبيا واليمن، وغياب التنمية، وانتشار الفقر والبطالة، وغياب الأمن، أدت كلها مجتمعة إلى إحداث هشاشة واضحة في بنية هذه المجتمعات، وهو ما أوقع سكانها، خصوصاً فئة الشباب منهم، فريسة سهلة للاستغلال والاستثمار في الحروب الدائرة، أو للمهربين وتجار الهجرات.
أمام هذا الواقع البئيس يصبح من غير المستغرب أن يتوجه بعض الشباب إلى التطرف، ويبرروا لأنفسهم القيام بعمليات “إرهابية”. فلنا أن نتخيل أن حواضرنا العربية كبغداد وبيروت تغيب عنها الكهرباء لما يقرب من 18 ساعة، بينما القاهرة والرياض تغرقان مع كل سقوط للمطر في فصل الشتاء، بينما اليمن يقع فريسة للمجاعة والأمراض، في حين تئن تونس تحت وضع اقتصادي صعب بينما تراوح تجربتها الديمقراطية مكانها بسبب حالة الاستقطاب الداخلي، بينما يحاكم وربما يقطع من يجرؤ على رفع صوته وانتقاد حكام الخليج محمد بن سلمان أو محمد بن زايد، وما حادثة خاشقجي وأحمد منصور، الناشط الإماراتي، عنا ببعيد.
(المصدر: تي آر تي TRT العربية)