الصُّهيونيَّة المسيحيَّة: محرّك سياسات “ورثة كورش” تجاه العالم الإسلامي – 1 من 6
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
تتَّخذ الحركة الصُّهيونيَّة من إعادة يهود الشَّتات إلى الأرض المقدَّسة وتأسيس مجتمع قومي لهم هناك وإعادة بناء هيكل أورشليم، إيذانًا بقدوم مخلّص بني إسرائيل لتأسيس دولة عالميَّة يسود اليهود من خلالها العالم كلَّه، هدفًا محوريًّا لنشاطاتها منذ نشأتها أواخر القرن التَّاسع عشر. وبذكر مساعي الحركة الصُّهيونيَّة لإطلاق الاستيطان اليهودي لفلسطين، أوَّل ما يتبادر على الأذهان الصُّهيونيَّة اليهوديَّة الَّتي دشَّنها الكاتب والسّياسي اليهودي تيودور هرتزل من مدينة بازل السّويسريَّة في 29 أغسطس من عام 1897م. غير أنَّ جهود الصُّهيونيَّة المسيحيَّة سبقت ذلك التَّاريخ بعقدين من الزَّمان، وتكلَّلت تلك الجهود بعقْد الكاتب والمبشّر الأمريكي وليام بلاكستون مؤتمره الصُّهيوني الأوَّل يومي 24 و25 نوفمبر من عام 1890م في مقر الكنيسة الأسقفيَّة الميثوديَّة الأولى في شيكاغو، داعيًا إلى إثارة قضيَّة يهود الشَّتات والدَّعوة إلى تأسيس دولة تجمعهم في فلسطين. ولأنَّ يسوع النَّاصري لم يذكر مطلقًا في الأناجيل الأربعة المعترف بها، ولو ضمنيًّا، عن تأسيسه دولة عالميَّة عاصمتها القُدس الشَّريف، أو أورشليم وفق المسمَّى اليهودي؛ ولأنَّ الكنيسة الكاثوليكيَّة رفَضت الاعتراف بأحقيَّة اليهود في تأسيس دولتهم المزعومة في فلسطين، كما ورد في نصّ خطاب البابا بيوس العاشر إلى هرتزل في يناير من عام 1904م؛ كان لابدَّ من اللجوء إلى ملَّة مسيحيَّة تعترف بدولة المسيح العالميَّة في آخر الزَّمان، بفعل استناد عقيدتها إلى نبوءات العهد القديم.
تأسَّس مذهب البروتستانتيَّة، المعروف كذلك بمذهب الصُّهيونيَّة المسيحيَّة، نتيجة لحركة إصلاحيَّة قادها يد القسّ الألماني مارتن لوثر في النّصف الأوَّل القرن السَّادس عشر للميلاد، احتجاجًا منه على الممارسات المشيئة للكنيسة الكاثوليكيَّة وانحراف تعاليمها عمَّا جاء به رُسُل المسيح والمبشّرين الأوائل؛ ومن هنا نالت حركة اسمها (Protestantism)، الَّذي يعني الاحتجاجيَّة. اعتقد لوثر أنَّ الإصلاح الكنسي يكمن في العودة إلى أصول عقيدة أهل الكتاب، وتحديدًا إلى تعاليم العهد القديم؛ ولذلك أطلق على مقاله الأوَّل “المسيح وُلد يهوديًّا” (1523م). غير أنَّ لوثر ذاته اعترف لاحقًا بما تعرَّض له من خداع على يد اليهود، وتراجَع عن دعوته السَّابقة إلى تبجيلهم وتحقير الأمم الأخرى مقارنةً بهم، كما جاء في مقاله “عن اليهود وأكاذيبهم” (1543م)، الَّذي وصَف اليهود فيه بأنَّهم “أبناء زنى، ليسوا شعب الله المختار…”.
باختصار، تتناول الدراسة بالتفصيل كيف أسهمت عقيدة مهاجرين، شبَّهوا هجرتهم إلى العالم الجديد وعبورهم المحيط الأطلسي إليه، بخروج بني إسرائيل من مصر وعبورهم البحر الأحمر إلى الأرض المقدَّسة، في تشكيل السياسة الأمريكيَّة تجاه العالم الإسلامي، وبخاصَّة ما يُعرف بـ ‘‘الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي‘‘، في ضوء ما يتناوله الدكتور فؤاد شعبان، في كتابه من أجل صهيون: التراث اليهودي-المسيحي في الثقافة الأمريكيَّة (2003م). تشير الدراسة إلى أنَّ من أسباب التأييد الأمريكي غير المشروط لإسرائيل، اعتبار أنَّ لكلِّ رئيس أمريكي دور مقدَّر ومحتوم يفضي في النهاية إلى تأسيس ‘‘مملكة الربِّ’’، وتهيئة العالم لاستقبال المخلِّص، بوصف الرئيس الأمريكي على مرِّ الأزمنة ‘‘وريث كورش’’، ملك الفرس الذي أعاد بني إسرائيل من السبي البابلي إلى الأرض المقدَّسة، وأسهم في بناء هيكلهم الثاني، وفق تسمية المؤرِّخ اليهودي بول تشارلز مركلي، في كتابه American Presidents, Religion, and Israel: The Heirs of Cyrus-الرؤساء الأمريكيون والدين وإسرائيل: ورثة كورش (2004).
دور الصهيونيَّة المسيحيَّة في إثارة العداء تجاه الإسلام
يَعتبر الدكتور فؤاد شعبان، أستاذ دراسات الأدب والتَّرجمة في جامعة البترا الأردنيَّة، أنَّ التراث اليهودي-المسيحي مارَس تأثيرًا كبيرًا على الثقافة الأمريكيَّة، منذ الحملات الاستيطانيَّة البريطانيَّة الأولي على أمريكا الشماليَّة. كما يشير شعبان في كتابه من أجل صهيون: التراث اليهودي-المسيحي في الثقافة الأمريكيَّة (2003)، يتبلور التأثير اليهودي-المسيحي، أو لتقل البروتستانتي، على الثقافة الأمريكيَّة في بداية تكوُّنها، في تشبيه المهاجرين الأوائل، وغالبيتهم من الطهوريُّين، أو البيوريتانيِّين، وهم ينتمون إلى جماعة مسيحيَّة بروتستانتيَّة متشدِّدة، هجرتهم إلى أمريكا بخروج بني إسرائيل من مصر إلى أرض كنعان. وعمد هؤلاء المهاجرون الأوائل إلى استخدام أسماء لمدنهم استمدُّوها من الكتاب المقدَّس. ويعتقد شعبان أنَّ الاستناد إلى تعاليم الكتاب المقدَّس ونبوءاته لم يزل يؤثِّر على الثقافة الأمريكيَّة، “ومازال هذا الفكر اليهودي-المسيحي يعمل بصورة جليَّة في سلوك الأمريكيين ومواقفهم في العالم العربي والنزاع العربي-الإسرائيلي حتَّى اليوم” (ص13).
يحصر شعبان تركيزه في هذه الدراسة المفصَّلة على ثلاثة تجليَّات لتأثير الفكر اليهودي-المسيحي على الثقافة الأمريكيَّة: الاعتقاد بأنَّ أمريكا اصطفاها الربُّ على الأمم جميعها لتحقيق هدف سامٍ يخدم البشريَّة؛ والإيمان بوجود حتميَّة تاريخيَّة ترتبط بخطَّة للدهر، تبدأ بخلق الإنسان الأوَّل وتنتهي بحلول مملكة الربِّ عند ظهور المخلِّص؛ والاعتقاد في مملكة الربِّ في نهاية الزمان مرتبط جغرافيًّا بالأرض المقدَّسة، على اعتبار أنَّها محلُّ مملكة الربِّ، وتمنح الحتميَّة التاريخيَّة لأمريكا دورًا بارزًا في تهيئة العالم لتأسيس تلك المملكة بالإعداد أوَّلًا لمجيء المخلِّص، وهو المجيء الثاني للمسيح يسوع بن يوسف والأوَّل للمسيَّا بن داود. ويشير شعبان إلى أنَّ المسيحيَّة الصهيونيَّة، أو الأصوليَّة، أو اليمينيَّة المتطرِّفة، هي التي جاءت بمصادر التأثير الديني المتشدِّد المعادي للإسلام ومعتنقيه، مضيفًا نقطتين في غاية الأهميَّة: لا تشترك كافَّة الفرق المنبثقة عن البروتستانتيَّة الأفكار المتطرِّفة للمسيحيَّة الصهيونيَّة؛ الإيمان بدولة عالميَّة في آخر الزمان تدين بدين واحد، ويقودها قائد ربَّاني يوجد في العديد من الديانات، وليس في المسيحيَّة الصهيونيَّة وحدها، ولكن هناك نزعة عدائيَّة تنطوي عليها عقائد بعض تلك الديانات، من بينها المسيحيَّة الصهيونيَّة، تجاه الأمم الأخرى، بحيث تكون إبادتها حتميَّة من أجل حلول مملكة الربِّ.
تعنى هذه الدراسة في المقام الأوَّل بتحليل تأثير المعتقدات المستمدَّة من الكتاب المقدَّس على السلوك السياسي لليمين المسيحي، في محاولة لسدِّ الفراغ البحثي في مجال دراسة “الميول والنزعات الإرهابيَّة في التطرُّف المسيحي واليهودي”، في مواجهة الجهود الغربيَّة المتواصلة منذ عقود لدراسة ما أُطلق عليه “الإسلام الأصولي” و “الإسلام الشمولي” و “الإرهاب الإسلامي”، لتُستغلُّ تلك المفاهيم في تشويه صورة الإسلام وبثِّ الكراهية تجاه معتنقيه، فيما يُعرف بالإسلاموفوبيا (ص17).
كريستوفر كولومبوس: أوَّل من رسم دور أمريكا في تأسيس مملكة الربِّ على الأرض المقدَّسة
يشير المؤرِّخ دلنو ويست في مقاله “Columbus and His World-كولومبوس وعالَمه”، إلى أنَّ من بين ما نُسب إلى كريستوفر كولومبوس من أوصاف أنَّه كان يهوديًّا، وعضوًا في رهبنة القديس فرانسيس، وعضوًا كذلك في المحفل الماسوني. عُرف عن كولومبوس بسالته في ركوب البحر، وافتخاره بأنَّه جاب العالم من أجل تنفيذ مشروع استمدَّ فكرته من نبوءات الكتاب المقدَّس، أطلق عليه “مشروع الهند العظيم”، يتلخَّص في الانطلاق في حملة إلى ممالك الشرق، في إعادة للحملات الصليبيَّة. ولإغرائهم بمساعدته بمنحه التمويل اللازم لمشروعه، قدَّم كولومبوس لملوك الأرض وعودًا بمنافع ماديَّة وسياسيَّة سيحصلون عليها في حال تنفيذ مشروعه. ويشير شعبان إلى أنَّ هدف كولومبوس لم يكن منفعة ماديَّة لنفسه، بل كان تأسيس “مملكة الله على جبل صهيون” بعد “استعادة” الأرض المقدَّسة، بعد ما أسماه “حرب الحياة أو الموت على مملكة مُحمَّد” (ص25).
وجد كولومبوس الدعم من ملكي إسبانيا، فرناندو وإيزابيلَّا، ويعتبر شعبان أنَّ رسالته إليهما بعد عودته من رحلته الاستكشافيَّة الأولى، وهي بتاريخ 15 فبراير 1492 ميلاديًّا، بمثابة “وثيقة رسميَّة تمثِّل البرنامج الأيديولوجي للأوروبيِّين في حملاتهم الاستكشافيَّة الاستعماريَّة والتبشيريَّ؛ أمَّا عن أهم أهداف حملة كولومبوس فهي “غزو العالم وهداية البشريَّة إلى المسيحيَّة، واستعادة الأراضي المقدَّسة، والإعداد لإنشاء مملكة الإله على جبل صهيون في موقع الهيكل” (ص26). ينقل شعبان عن كتاب الأمَّة الأمريكيَّة (1981) اعتقاد كولومبوس بأنَّه كان بمثابة رسول لهداية العالم إلى المسيحيَّة واستعادة الأرض المقدَّسة من المسلمين. كان كولومبوس يؤمن بأنَّ اسمه-كريستوفر-لم يُختر له اعتباطًا، بل لتهيئته لحمل رسالة نشر المسيحيَّة؛ فقد كان يكتب اسمه باستخدام التعبير “كريستوفرنز”، والتي تعني باللاتينيَّة “حامل المسيح”، كما أنَّ الاسم “كولومبوس” يعني اليمامة، التي ترمز إلى روح القُدُس، كما تصوِّره كطائر يحمل المسيح على جناحيه. اتَّخذ كولومبوس لنفسه مهمَّة المبشِّر العالمي لنشر المسيحيَّة في كلِّ مكان وطأته قدماه.
أبحرت سفينة كولومبوس، سانتا ماريَّا، من ميناء بالوس الإسباني، بتاريخ 3 أغسطس 1492 ميلاديًّا، بصحبة مجموعة من السف الإسبانيَّة. لم يكن كولومبوس متسلِّحًا بالمؤن والعتاد والبحَّارة المهرة والمعرفة النافذة في علوم الجغرافيا والفلك فقط، إنَّما، وقبل كلِّ ما سبق، بإيمان راسخ بـ “الخريطة الرَّوحيَّة التي زوَّدته بها قراءاته للكتاب المقدَّس” (ص29). على ذلك، اعتبر شعبان كولومبوس في طليعة المبشِّرين الغربيين، وكأنَّما سبق بحملته الاستكشافيَّة أواخر القرن الخامس عشر، حملات التبشير بالإنجيل التي انطلقت في القرن التاسع عشر، والتي كانت حركة الإصلاح الديني التي قادها القس الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر مرجعها الأساسي. المفارقة أنَّ كولومبوس مات عام 1506، عشر سنوات قبل إعلان لوثر مواده الاحتجاجيَّة على الكنيسة الكاثوليكيَّة. وينقل شعبان عن فرديناند، ابن كولومبوس، قوله عنه “كان متشدِّدًا متطرِّفًا في حماسه الديني لدرجة تجعلك تظنَّه منتميًا إلى حركة أو مذهب ديني متطرِّف”، مما يعني أنَّ جهود كولومبوس لم تكن بدافع من مطامع دنيويَّة، إنَّما بوازع ديني خالص (ص31).
تجدر الإشارة إلى أنَّ كولومبوس لم يخلِّف سوى مؤلَّف واحد تحت عنوان Libro de la Profecias-كتاب النبوءات، وقد كشف فيه عن سعيه إلى تحقيق نبوءات الكتاب المقدَّس، وبخاصَّة ما جاء في رؤيا يوحنَّا اللاهوتي، وسفر اشعياء. ويتعجَّب شعبان من عدم ترجمة هذا الكتاب إلى الإنجليزيَّة إلَّا في السنوات الأخيرة، كما لم يُعنَ الباحثون بالتركيز على الجانب الديني في تكوين كولومبوس الذهني، الذي دفعه إلى قطع رحلاته تبشيريَّة الطابع، لنشر المسيحيَّة قبل السيطرة على الأراضي التي دخلها.
ينقل الدكتور بهاء الأمير، المتخصِّص النابه في الدراسات اليهوديَّة وتاريخ الحركات السريَّة، في كتابه اليهود والحركات السريَّة في الكشوف الجغرافيَّة وشركة الهند الشرقيَّة البريطانيَّة (2019)، عن مارجريتا زامورا، أستاذ التاريخ وآداب الإسبانيَّة والبرتغاليَّة في جامعة وسكنسن الأمريكيَّة، تناوُلها في كتابها Reading Columbus-قراءة كولومبوس (1993)، رسالة لتعود لكولومبوس، أرسلها إلى فرناندو وإيزابيلا، يعدهما فيها بسعيه الدؤوب لجمع الأموال اللازمة لتجهيز جيش تحرير أورشليم. يقول كولومبوس، كما ينقل الأمير ” في خلال سبع سنوات من الآن، سأكون قادراً على أن أوفر لجلالتكما نفقـات خمسـة آلاف فــارس، وخمســين ألــف جنــدي مشــاة، مــن أجــل شــن الحــرب واســتعادة أورشــليم/القدس…وفـي خـلال خمـس سـنوات أخرى، سأكون قادرًا على تجهيز خمسة آلاف فارس وخمسـين ألـف جنـدي آخـرين، وبـذلك يكـون تحت إمرتكما عشرة آلاف فارس ومائة ألف جندي، يمكن بها أخذ بلاد الهند كلها” (ص124).
يعلِّق الأمير على ما ورد في تلك الرسالة بأنَّ الحملة التي أطلقها كولومبوس تحت ستار الكشف الجغرافي والتجارة استهدفت في واقع الأمر جمع الأموال لإعداد جيش يزحف إلى العالم الإسلامي؛ “من أجل إعادة بناء هيكل بني إسرائيل في غلاف المسيحيَّة” (ص125). الطريف في الأمر أنَّ كولومبوس قد اعتقد أنَّه هو المخلِّص المنتظَر، المفترض أن يظهر قبيل نهاية العالم لتأسيس مملكة عالميَّة في القُدس. عن رسالة وردت في كتاب رسائل كريستوفر كولومبوس النادرة (1810)، للمؤرِّخ الإيطالي جاكوبو موريللي، وجَّهها كولومبوس إلى ملكي إسبانيا، بتاريخ 7 يوليو من عام 1503 ميلاديًّا، ترجمتها إلى الإنجليزيَّة كارول ديلاني، في كتابها Columbus and the Quest for Jerusalem: How Religion Drove the Voyages that Led to America-كولومبوس والبحث عن أورشليم: كيف قاد الدين الرحلات التي أدَّت إلى اكتشاف أمريكا (2011)، ينقل الأمير عن كولومبوس قوله “ســتُبنى أورشــليم/القدس وجبــل صــهيون بيــد مســيحي… كما قال الرب على لسان نبيه في المزمور الرابع عشر، وقد اخبرني الأب يـواخيم…أنه سيخرج من إسبانيا” (ص126).
كما سبقت الإشارة، عبَّر كولومبوس في كتابه الوحيد Libro de la Profecias-كتاب النبوءات، عن اعتقاده في مطلع القرن السادس عشر، بأنَّ غالبيَّة نبوءات آخر الزمان تحقَّقت، ولم يبقَ إلَّا القليل، مستدلًّا بما جاء في سفر اشعياء “وَأَجْعَلُ فِيهِمْ آيَةً، وَأُرْسِلُ مِنْهُمْ نَاجِينَ إِلَى الأُمَمِ، إِلَى تَرْشِيشَ وَفُولَ وَلُودَ النَّازِعِينَ فِي الْقَوْسِ، إِلَى تُوبَالَ وَيَاوَانَ، إِلَى الْجَزَائِرِ الْبَعِيدَةِ الَّتِي لَمْ تَسْمَعْ خَبَرِي وَلاَ رَأَتْ مَجْدِي، فَيُخْبِرُونَ بِمَجْدِي بَيْنَ الأُمَمِ. وَيُحْضِرُونَ كُلَّ إِخْوَتِكُمْ مِنْ كُلِّ الأُمَمِ، تَقْدِمَةً لِلرَّبِّ، عَلَى خَيْل وَبِمَرْكَبَاتٍ وَبِهَوَادِجَ وَبِغَال وَهُجُنٍ إِلَى جَبَلِ قُدْسِي أُورُشَلِيمَ، قَالَ الرَّبُّ، كَمَا يُحْضِرُ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْدِمَةً فِي إِنَاءٍ طَاهِرٍ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ. وَأَتَّخِذُ أَيْضًا مِنْهُمْ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ، قَالَ الرَّبُّ” (اشعياء: إصحاح 66: آيات 19-21). يثير الأمير في كتابه آنف الذِّكر (2019)، إلى مفارقة تسترعي الانتباه، وهي إشارة كولومبوس في إحدى رسائله إلى ملكي إسبانيا، إلى النبي اشعياء بأنَّه كان “مبشِّرًا…كرَّس كلَّ جهوده من أجل…دعوة جميع الشعوب إلى عقيدتنا الكاثوليكيَّة المقدَّسة“، نقلًا عن الأمير (ص128).
الطريف هو أنَّ النبي اشعياء هو أحد أربعة من أنبياء بني إسرائيل، اقتيدوا إلى مملكة نبوخذ نصَّر، زمن السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد. صحيح أنَّ سفر اشعياء يُنعت بـ “الإنجيل الخامس” لكثرة نبوءاته عن مخلِّص بني إسرائيل، لكنَّ هذا لا يعني أنَّ تبشير بقدوم المخلِّص تأسيس للكاثوليكيَّة التي ظهرت بعد ذلك ما يقرب من الألف عام. المفارقة الأكبر أنَّ الكاثوليكيَّة ليس من عقائدها إعداد العالم لاستقبال المخلِّص آخر الزمان، حتَّى أنَّ البابا بيوس الرابع يناير من عام 1904 قد أعلن في خطاب، وجَّهه إلى تيودور هرتزل-مؤسس الحركة الصهيونيَّة-عن عدم تأييده إقامة دولة يهوديَّة في فلسطين؛ والسبب هو كُفر اليهود بألوهيَّة يسوع الناصري ونبوَّته.
يلخِّص الأمير حقيقة مساعي كولومبوس بقوله أنَّها لا تمتُّ للكنيستين الأرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة بصلة، إنَّما تنفيذ لنبوءات الصهيونيَّة المسيحيَّة، أو لتقل هي “عقيدة الحركـات السـريَّة التـي تسـعى لبثِّهـا فـي أذهـان الشـعوب المسـيحيَّة فـي كـلِّ العصـور” (ص132). ويخبر الأمير عن حبر الماسونيَّة الأعظم في القرن التاسع عشر، ألبرت بايك، ما جاء في كتابه Morals and Dogmas of the Ancient and Accepted Scottish Rite of Freemasonry-عقيدة الطقس الإسكتلندي القديم وآدابه (1871) قوله “الغرض الظاهر لفرسان الهيكل كان حماية الحجَّاج المسيحيِّين القادمين للأماكن المقدَّسة، ولكن غرضهم السرِّي كان إعادة بناء هيكل سليمان كما وصفه النبي حزقيال في نبوءته، وحين يُبنى هيكل سليمان باسم الكاثوليكيَّة سيصبح عاصمة الكون”، نقلًا عن الأمير (ص133).
علاقة اليهود بحملات كولومبوس الكشفيَّة
يفرد الأمير في كتابه آنف الذِّكر (2019) قسمًا يفصِّل طبيعة الأهداف التي شكَّلت ذهنيَّة كريستوفر كولومبوس، والتي تنبع من عقيدته الحقيقيَّة، وهي اليهوديَّة، على أغلب الظنَّ. يدلِّل الأمير على أصول كولومبوس اليهوديَّة، بما يتَّفق مع رأي المؤرِّخ دلنو ويست في مقاله “Columbus and His World-كولومبوس وعالَمه” عن انتماء المستكشف الشهير إلى الماسونيَّة، التي انضمَّ إليها بدافع من عقيدته اليهوديَّة. يوضح الأمير أنَّ اليهود لاقوا منذ أواخر القرن الرابع عشر، وحتَّى سقوط آخر حصن للمسلمين في الأندلس عام 1492 ميلاديًّا، حينما خُيَّر اليهود بين اعتناق المسيحيَّة أو الخروج من مملكة إسبانيا الموحَّدة، بارتباط فرناندو ملك أراغون، بإيزابيلَّا ملكة قشتالة. اضطرَّت مجموعات من اليهود إلى التظاهر باعتناق اليهوديَّة، وعُرف هؤلاء بالمارانو، وهم من فئة اليهود الخفيِّين، وعن هؤلاء يقول الأمير (ص140):
يسوق الأمير الكثير من الأدلَّة على وقوف اليهود سرًّا وراء مشروع كولومبوس الكشفي، ومن بين تلك الأدلَّة ما ورد في كتاب The Jews and Modern Capitalism-اليهود والرأسماليَّة الحديثة (1911) لأستاذ الاقتصاد الألماني فيرنر سومبارت، الذي ينقل عنه قوله “اكتشاف أمريكا مرتبط باليهود بطريقة غير عاديَّة…وكولومبوس ومَن كان معه كانوا مجرَّد منفِّذين لمشروع إسرائيلي…فقد تمكَّن اليهود أبراهام زاكاتو، أستاذ الرياضيَّات في جامعة سلمنكا، سنة 1473م، من إتمام خرائطه وجداوله الفلكيَّة، وقد ترجم هذه الجداول إلى اللاتينيَّة والإسبانيَّة يهوديٌّ آخر، هو خوسيه فكيوهو…وهذه الجداول هي التي اعتمد عليها كولومبوس في رحلته، وتمويل رحلة كولومبوس الأولى جاء من اليهود” (ص141). يسوق الأمير دليلًا آخر من كتاب أحدث، ومصدر أجدر بالثقة، حيث ينقل عن كتاب A History of the Marranos-تاريخ المارانوس (1975)، قول مؤلِّفه المؤرِّخ اليهودي سيسيل روث قوله “حملة كولومبوس عام 1492م لاستكشاف المحيط، كانت في حقيقتها مشروعًا يهوديًّا، أو بالأخرى مشروع المارانو، وهو ما يجعلنا نعتقد أنَّ كولومبوس نفسه كان من أسرة يهوديَّة تحوَّلت إلى المسيحيَّة…أمَّا عن شركائه في المشروع، فهم من اليهود يقينًا” (ص142). يوضح روث أنَّ مموِّل الحملة الكشفيَّة، فلويس دي سانتانجيل، ومعاون كولومبوس جابرييل سانشيز، وراعي الحملة ألفونسو دي لا كباليريا، وأعضاء الحملة، ألفونسو دي لا كالي، ورودريجو سانشيز، ومستري برنال، والجراح ماركو، ولويس دي توريز، كلُّهم من اليهود.
(المصدر: رسالة بوست)