مقالات مختارة

اعتبار المآلات في المقالات والمقامات

بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي

يخوض بعض الكتّاب في أحاديث كثيرة، ويتخطوّن حواجز عديدة، انطلاقا من فهم خاطئ لقضية التعامل مع الحق، فيظنون أن كون الشيء حقا يكفي لنشره والحديث فيه، ولا يعتبرون المقام والحال والظروف المحيطة بهم، فيحدثون مفاسد لا يعلم عواقبها إلّا الله تعالى.

وتحضرني هنا قاعدة ذهبية للإمام الشاطبي رحمه الله: ” ليس كل علم يبث وينشر وإن كان حقا، وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، وأخبر عمن تقدمه أنهم كانوا يكرهون ذلك، فتنبه لهذا المعنى، وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها، فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلتها، فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ، فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة لشرعية والعقلية”.

فالشاطبي-رحمه الله- يؤكد على اعتبار المآلات في المقالات، واعتبار المقامات والظروف المحيطة بها، فقد تُصيّر ظروف طارئة، أو أحوال متغيرة الحديث المباح ممنوعا، وقد تحدث أبو إسحاق عن هذا الأمر بتفصيل عند تناوله أقسام الحكم الشرعي، وفصّل ذلك تفصيلا هاما، ليس هذا مقام ذكره، غير أن ما ينبغي ذكره من كلامه، هو دعوته لاعتبار الأحكام الشرعية باعتبار الكل وباعتبار الجزء، وفيه ذكر تقسيما هاما للأحكام الشرعية، وهو النظر إليها باعتبار الكل والجزء، ويقصد بالكل، أي النظر إليها من حيث الزمان والمكان والأحوال والأشخاص بإطلاق، فمن حيث الأشخاص يجب عليه اعتبار كل الأفراد، ومن حيث الزمان فعليه اعتبار كل الأوقات، ومن حيث المكان فعليه اعتبار كل المحلات، وهو ما يعني أن الحكم باعتبار الجزء، قد يكون له نفس الحكم باعتبار الكل، وقد يكون العكس، فيكون للحكم الشرعي باعتبار الجزء صفة مختلفة باعتبار الكل، ولهذا نجده مثلا يفصل في قضايا المباح فيقول : مباح بالجزء حرام بالكل، و قد يكون مباحا بالكل وحراما بالجزء، وهذا مبحث عظيم يجب استحضاره عند الحديث في قضايا الحياة كلها، وليس في الأحكام الفقهية فقط.

كما نبه الإمام ابن حجر رحمه الله إلى هذه القاعدة الذهبية، أي اعتبار المآلات في المقالات، واستدل لها بصنيع كبار علماء الأمّة، فقال: ” وإنَّ كتمان شيء من الدِّين لمصلحة الدين، ولكيلا يكون ذريعة لأهل الفساد أمرٌ ممدوح، ومصلحة يتغيَّونها منذ زمن، وقد ذكر الإمام ابن حجر أيضا أنَّه: “ممن كرِهَ التحدُّث ببعض دون بعض: أحمدُ في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالكٌ في أحاديث الصفات، وأبو يوسفَ في الغرائب، ومِن قبلهم أبو هريرة في الجرابين، وأن المراد ما يقع من الفتن، ونحوه عن حذيفة، وعن الحسن: أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين؛ لأنه اتخذها وسيلةً إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي”

فكل حديث قد يفتح باب فتنة عامة أو خاصة وجب سده، وكل حديث لم يحن وقته وجب كتمه، وكل حديث كان المقام يتطلب الإمساك عن الخوض فيه صار ممنوعا، وقد قيل :” ليس كل ما يُعلَم يقال، ولا كل ما يُقال حضر أهله، ولا كل ما حضر أهله حان وقته ” فالحديث في أي موضوع مربوط إلى حد كبير بفطنة ونباهة المتحدث، ولا يكون المرء عاقلا نبيها حتى يميز بين ذلك.

كما أن من أجلّ قواعد تناول القضايا الحياتية مراعاة الشخص لمقامه، واعتباره لجلسائه، فهل يليق بالرجل أن يتحدث عن فساد أخلاق بعض المسلمين أمام من يريد اعتناق الإسلام؟ وهل يصح أن يتحدث الأب عن أخلاق بعض المعلمين أمام أولاده فيحط من قدر المعلم في قلوبهم؟ فهل يصح أن يتحدث الرجل في حضرة بناته عن مسائل الطهارة الدقيقة؟ هذا لا يليق شرعا وعرفا وعقلا، لما فيه من المضار والمفاسد، وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى إلى مثل هذا فقال: “من العلم مالا يُؤمر به الشخص نوعا أو عينا إما لأنه لا منفعة فيه له؛ لأنه يمنعه عما ينفعه، وقد ينهى عنه إذا كان فيه مضرة له، وذلك أن من العلم مالا يحمله عقل الإنسان فيضر”

و اعتبار المكان والحاضرين مما كان ينبه عليه السلف، فإن كان المقام يدنس شرف وعرض ومقام الشريف، أو أن الوصول إلى المكان المطلوب قد عكرت صفوه منكرات الطريق، وغلبت المفسدة المصلحة، وجب الإمساك عن الذهاب إليه، خاصة إذا وجد البديل، فهذا الإمام مالك كان يكره الذهاب إلى السوق، فلمّا سئل عن ذلك، قال: ” إنّ النّاس لا تعرف أقدارنا” وقالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، لما رأت فساد الزمان : ” لو أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ما أحدث النساء لمنعهنّ المسجد، كما منعت نساء بني إسرائيل” مسلم والبخاري.

و لهذا فإنّ ممارسة الحق محكوم بظروف وأحوال عامّة، لها اعتبارها بالنظر الكلي لنصوص الوحي، واعتبار الجزئيات بالنظر الكلي من أبرز ما استفاض أهل الأصول والمقاصد في الحديث عنه.

فإن فسد المكان أو الزمان أو الأشخاص، تغيرت طريقة التعامل، وانظر إلى الإمام مالك رحمه الله، الذي كان شديدا في أخذ الحديث، وسبب ذلك أنه لما سئل قال: ” كان الأصل في المسلم العدالة فيما سبق، أما اليوم فإنّ الأصل في المسلم التهمة” وهذا نظر مقاصدي بعيد، بنى عليه الإمام مالك عمله في جمع الأحاديث التي أودعها كتاب الموطأ.

إنّ المسلم مطالب باعتبار المكان والزمان والحال والأشخاص عند تناوله حدثا ما، وينظر إلى مقامه، ومقام المخاطبين، وينظر إلى الفائدة والمنفعة، والمفسدة والمضرة، خاصة كانت أم عامّة، والتي قد تنجرّ عن حديثه.

وليكن حريصا على اعتبار هذه القواعد، لتنضبط أحاديثه، وتتحقق المصلحة المنشودة شرعا، وعليه الرجوع إلى سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، ليرى المواضع التي أحجم فيها النبي عليه الصّلاة والسلام عن تنفيذ الواجب، مراعاة للظروف والمتغيرات، التي قد تؤدي إلى مفسدة تفوق مصلحة تطبيقه، ومن ذلك الإحجام عن قتل المنافقين لمصلحة الدعوة، والإمساك عن بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام، مراعاة لمصلحة الدعوة والمخاطبين، وأمثلة ذلك عديدة مفيدة فلتطلب في مظانها للاستفادة والاستزادة.

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى