مقالاتمقالات مختارة

جرائم القتل ثأرًا أو دفاعًا عن الشرف

جرائم القتل ثأرًا أو دفاعًا عن الشرف

بقلم د. تيسير التميمي

وعودة إلى «اتفاقية سيداو» وإلى ما يتفرع عنها من مواضيع، وأبرزها محاولة المصادقة على مشروع قانون حماية الأسرة وفرضه في فلسطين، وتأتي هذه المحاولات بدعاوى كثيرة منها انتشار جرائم قتل النساء على خلفية الشرف، لذا أرى أهمية بيان رأي الشرع في هذه الجريمة النكراء كونها تنسب جهلاً أو عمداً إلى الإسلام، مع العلم أنها من عادات الجاهلية، فالقاتل فيها يظن أنه بارتكابها يُطهر نفسه وأهله من العار والمذمة، ولا يدري أنه يزيد الفضيحة وينشر العار ويرتكب جريمة أخطر هي سفك الدم الحرام فاستحق القصاص لاعتدائه على نفس معصومة لم تقم البينة على زوال عصمتها، ولأنه تولى إنزال العقوبة بنفسه افتياتاً على الشرع وأحكامه وعلى ولي الأمر وسلطانه.

فمن المعلوم في دين الإسلام الحنيف بالضرورة أن النفس الإنسانية معصومة بعصمة الله لها، وأن حفظها من الضروريات الخمس الواجب رعايتها وصيانتها، وأن الاعتداء عليها بالإزهاق جرم عظيم، قال تعالى {… مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً…} المائدة 32، لذا فقد شدد الله سبحانه العقوبة عليها فشرع القصاص، وهو معاقبة الجاني بمثل ما فعل، الجاني وحده وليس أي بريء آخر من عائلته أو حمولته أو عشيرته، ولهذا غلَّظ الله سبحانه العقوبة الأخروية عليها، قال تعالى {… وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} النساء 93.

ومن المعلوم في دين الإسلام الحنيف بالضرورة أيضاً أن الزنا فسق ومن كبائر الذنوب ومن أفظع الجرائم التي تطيح بالأخلاق الرفيعة للمجتمع وتهبط بقيمه السامية ومُثُله العليا، حذرنا منه ربنا عز وجل في آيات كثيرة منها {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} الإسراء 32، وهذا التعبير أبلغ من أن يقول ولا تزنوا فإن معناه لا تدنوا من الزنا، وحذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة منها (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) رواه البخاري.

يثبت الزنا إما بالبينة وإما بالإقرار، فالبينة هي أربعة شهود يشهدون شهادة صريحة واضحة لا لبس فيها تتفق بالتفاصيل الدقيقة للجريمة، فإن لم يفعل الشهود ذلك بأن اضطربت واختلفت شهاداتهم أو نقص عددهم عن الأربعة طبق عليهم حد القذف بسبب إساءتهم لسمعة المشهود عليه (ذكراً او أنثى) قال تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} النور 4، وأما الإقرار فهو أن يعترف المتهم أو المبادر على نفسه أربع مرات متفرقات أمام القاضي بفعل الزنا، وعلى القاضي في كل مرة أن يلقنه الرجوع عن إقراره كما فعل صلى الله عليه وسلم مع ماعز الذي بادر بالاعتراف بارتكابه الزنا دون اتهام من أحد.

ويلزم من سماع الشهادة والإقرار وجود قضاة ومحاكمات وإجراءات وأحكام عادلة، وهذا من أهم حقوق الإنسان في ديننا الحنيف، فإثبات الجرائم والحدود وتنفيذها من سلطات القاضي وليست من سلطات الأفراد حتى وإن كانوا من أقرب الناس للزناة، ولهذا لا يجوز لأحد من الناس إقامة هذا الحد بنفسه في حالة ثبوته على المتهم (ذكراً او أنثى)، بل يجب الرجوع فيه إلى الحاكم أو من ينوب عنه سواء في إجراءات الإثبات القضائي وفي إجراءات التنفيذ، لأنه تماماً مثل أخذ القانون باليد في الحقوق سيؤدي حتماً إلى الظلم والبغي ونشر الفوضى وانعدام الأمان في المجتمع، فمسألة تنفيذ العقوبات إذن من اختصاص الإمام وليس من اختصاص الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب أو غيرها. لأن الحدّ حق الله تعالى ومشروع لصالح الجماعة ومفوض إلى ولي الأمر، ولأن الحدّ يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه من الحيف والزيادة على الواجب فوجب تركه له يقيمه إن شاء بنفسه أو بواسطة نائبه.

فلو ثبتت جريمة الزنا على البكر وهو الذي لم يسبق له الزواج (ذكراً أو أنثى) حسب شروط الشرع فالعقوبة هنا ليست القتل بل الجلد، قال تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ…} النور 2، أما لو ثبتت على المحصن وهو الذي سبق له الزواج (ذكراً أو أنثى) حسب شروط الشرع فالعقوبة هنا أيضاً ليست القتل بل الرجم حتى الموت، روى جابر رضي الله عنه (أن رجلاً من أسلم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فقال إنه قد زنى فأعرض عنه، فتنحى لشقه الذي أعرض فشهد على نفسه أربع شهادات، فدعاه فقال: هل بك جنون؟ هل أحصنت؟ قال نعم فأمر به أن يرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة جمز حتى أدرك بالحرة فقتل) رواه البخاري.

وفي هاتين الحالتين فالعقوبة المشروعة لا تكون إلا بقرار القاضي، وتنفيذها يكون من اختصاص ولي الأمر الذي بيده السلطة التنفيذية، ومن يعتدي على هذا الزاني (ذكراً أو أنثى) بقتله فقد وقع في جريمة إزهاق النفس بغير وجه حق وخالف أحكام القرآن الكريم والسنة النبوية.

في كثير من حالات القتل على خلفية شرف العائلة تكون الفتاة فيها بريئة عفيفة، فقد تقتل لهدف آخر لا صلة له بالزنا، وقد تقتل لمجرد الشك في تصرفاتها ولا يكون زناها قد ثبت فعلاً، وهذا بهتان عظيم وظلم كبير، فالأحكام الشرعية والعقوبات في الإسلام تبنى على اليقين وغلبة الظن المبني على الأدلة الواضحة، ولا تبنى على الشك والوهم، فالزنا لا يقام حده حتى يثبت يقيناً، أما الشك في سلوك الشخص أو الاشتباه به فلا يعتبر حجة على قيامه بالزنا، قال صلى الله عليه وسلم (لو كنت راجما أحداً بغير بينة لرجمت فلانة فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها) رواه ابن ماجه، بل على العكس من ذلك، فالشك يفسر لصالح المتهم في القانون، والأصل براءة الإنسان إلا إذا قام الدليل الواضح على خلاف الأصل، والبراءة هي اليقين واليقين لا يزول بالشك.

ومعلوم أن الحدود تُدرأ بالشبهات، قال صلى الله عليه وسلم (ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة) رواه الترمذي، بل حتى في حالة ثبوتها يقيناً فالستر على من وقع في هذه الفاحشة أولى من معاقبته، فهذا أدعى أن يتوب ويصلح عمله قبل الموت وخير من فضحه وقتله، وقد أعرض النبي صلى الله عليه وسلم عن ماعز رضى الله عنه بعد أن اعترف بالزنا وتركه حتى عاد مراراً فأقام عليه الحد.

إن جرائم الشرف من أبشع الجرائم التي تنتشر في المجتمعات اليوم بكل الاعتبارات والمقاييس، فقيام الرجل بقتل قريبته أو غيرها بدعوى حماية الشرف وصيانة العرض هو فعل محرم شرعاً وجريمة يجب أن يحاسب القاتل عليها، فالقرابة أو الشك ليست عذراً محلاً ولا مخففاً للعقوبة أو مسقطاً لها،

وفي حالة الخيانة الزوجية حيث لا بينات ولا شهود فالحكم الشرعي هو الملاعنة بين الزوجين، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما (أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبِي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرِك، فقال: يا رسول اللَّه إِذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل يقول: البينة وإِلا حد في ظهرِك، فقال هلال: والذي بعثك بِالحق إني لصادق فلينزلن الله ما يبرىء ظهري من الحد، فنزل جبرِيل عليه الصلاة والسلام وأنزل عليه -أي على الرسول صلى الله عليه وسلم- {والذين يرمون أزواجهم} فقرأ حتى بلغ {إِن كان من الصادقين} فانصرف النبِي صلى اللَّه عليه وسلم فأرسل إليها، فجاء هلال فشهد والنبي صلى اللَّه عليه وسلم يقول (إِن الله يعلم أَن أَحدكما كاذب فهل منكما تائب)؟ ثم قامت فشهدت، فلما كان عند الخامسة وقفوها وقالوا إِنها موجبة، قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت…) رواه البخاري

أما قتل الزوجة فهو موجب للقصاص بشروطه على الزوج القاتل، من المعلوم أن من يرى الفاحشة في أهله فغالباً ما يثور غضبه، لكن الشارع سبحانه وتعالى شلَّ جوارحه عن أن يَقْتُلَها، فمن قتلها دفاعاً عن شرفه فقد غلبته العصبية الجاهلية وخالف أوامر ربه، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال {… أتى رجلٌ رسولَ الله ﷺ فسأله فقال: لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً فتكلم جلدتموه، أو قتل قتلتموه أو سكتَ سكتَ على غيظ، فقال (اللهم افتح، وجعل يدعو) فنزلت آية اللعان {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} رواه مسلم، ثم ألا يمكن أن يكون زوجها قد قتلها لدافع آخر فاتهمها لينجو بفعلته؟

إن ما نراه اليوم من جرائم ضد النساء ليست صادرة عن مجتمع ذكوري كما يروّج لذلك ولغيره من المصطلحات والمفاهيم الجديدة الغريبة، إنما هي خروج على تعاليم ديننا وأحكامه وأوامره ونواهيه، ولا يكون الحل أبداً بفرض القوانين المخالفة لشرع ربنا سبحانه وتعالى على مجتمعنا بصورة إجبارية ورغماً عن مواطنيه، ففي 19\5\2014م صدر مرسوم رئاسي بإلغاء العذر المخفف في قانون العقوبات النافذ في فلسطين لمن أقدم على قتل امرأة بدواعي الدفاع عن الشرف، ونص المرسوم على أن [يستفيد من العذر المخفف فاعل الجريمة الذي أقدم عليها بصورة غضب شديد ناتج عن عمل غير محق على جانب من الخطورة أتاه المجني عليه، ولا يستفيد فاعل الجريمة من هذا العذر المخفف إذا وقع الفعل على أنثى بدواعي الشرف]، فهل انتهت هذه الجرائم من المجتمع؟ إن الإحصائيات الرسمية تشير إلى أنها ما زالت موجودة، بل هي في تزايد.

إن الحل الوحيد هو تصويب كثير من المفاهيم الخاطئة السائدة في المجتمع بما يخص قضايا المرأة ومكانتها في ديننا الحنيف، الحل هو نشر الثقافة الفكرية الصحيحة المستمدة من أسس ومبادئ شريعتنا الربانية السمحة، الحل الوحيد هو مواءمة القوانين النافذة والنصوص التشريعية مع أحكام الشريعة الإسلامية، الحل الوحيد هو رفع الظلم الفعلي عن كل الفئات الضعيفة في المجتمع ومحاربة الظلم وكشف الغطاء عن الخارجين على القانون والشرع.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى