تقديم المصلحة على النص.. بين الحقيقة والافتعال
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
بين الحين والآخر يخرج علينا «الحداثيون»، كما يسمون، بآراء جديدة يطلقون عليها اجتهادات، وما هي من الرأي في شيء، ولا من الاجتهاد في قليل أو كثير، يريدون بها تغيير الدين، وتمييع الأحكام، وتحويل الأصول إلى فروع، والثوابت إلى متغيرات، والمحكمات إلى متشابهات، والقطعيات إلى ظنيات؛ في محاولة منهم لتلبية رغبات دفينة في نفوسهم للتخلص من الشريعة ومحكماتها وأحكامها وفرائضها وقطعياتها، مرة بالمناداة بتسوية المرأة بالرجل في الميراث، ومرة بإلغاء الصيام لأنه يعطل الإنتاج، ومرة بأن الحدود قاسية ولم تعد مناسبة للعصر الذي نعيشه، وقد كانت مناسبة للعصر البسيط البدوي الذي نزلت فيه.. إلخ!
والواقع أنه ظهرت في واقعنا الفكري والثقافي ثنائيات جدلية مفتعلة، أقيم بينها تعارض وما هي من التعارض في شيء، استعيرت من بلاد الغرب في العصور الوسطى التي كانت الكنيسة فيها سبباً من أسباب قيام هذا التعارض بما لا يوجد شيء منه مطلقاً عندنا في شريعة الإسلام وتصورات الإسلام.
وذلك مثل: «العقل والنقل»، و»التراث والتجديد»، و»الأصالة والمعاصرة»، و»الحرية والشريعة»، و»المقاصد والنصوص»، و»المصالح والشريعة».. إلخ، والغرض أنه يراد إلهاء العقل المسلم والتشويش عليه بجلب هذه الثنائيات وإلصاق التناقض بها ظناً من المستوردين أنها عندنا مثل ما هي عليه في بيئات أخرى وتصورات أخرى وعصور أخرى.
ومن هذه الثنائيات «المصلحة والنص»، وقد أقام البعض بينهما تعارضاً، وهو تعارض وهمي ومفتعل، ولا وجود له في شريعتنا مطلقاً، وقرروا أنه عند تعارض النص والمصلحة يجب تقديم المصلحة، ولا ندري عن أي مصلحة يتحدثون وبمعيار من، وإن كان معيارها العقل فوفق أي عقل من عقولهم؟
ونسبوا مقولة تقديم المصلحة عند تعارضها مع النص للإمام الطوفي الحنبلي، فهل قال الطوفي هذا فعلاً؟ وما حقيقة قوله؟ وما أدلته؟ وما المنهج الذي يسير عليه في التعامل بين يدي النص والمصلحة؟ وهل يقدم الطوفي النص على المصلحة بإطلاق، ومن أول ظهور للتعارض؟ وهل يختلف هذا عنده في القرآن عن السُّنة، وهل هو في العبادات والمعاملات سواء؟
الحق أننا يجب أن نقرأ للإنسان ما كتبه هو، ولا نقرأ ما تَقوَّلَه عليه غيرُه، وللإجابة عن هذه الأسئلة يجب أن نورد كلام الطوفي نفسه في هذه القضية؛ ليتبين لنا وجه الحق والصدق فيها.
يقول الطوفي: «وإن اجتمع في الحكم كتاب وسُنة؛ فإن اتفقا عمل بهما وأحدُهما بيان للآخر أو مؤكِّد له، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما جمع، وإن لم يمكن فإنه اتَّجهَ نسخ أحدهما بالآخر نسخ به، وإن لم يَتَّجِهْ فهو محل نظر وتفصيل، والأشبه تقديم الكتاب لأنه الأصل الأعظم فلا يترك بفرعه.. هذا تفصيل القول في أحكام العبادات.
أما المعاملات ونحوها فالمتبع فيها مصلحة الناس كما تقرر، فالمصلحة وباقي أدلة الشرع إما أن يتفقا أو يختلفا، فإن اتفقا فبها ونعمت كما اتفق النص والإجماع والمصلحة على إثبات الأحكام الخمسة الكلية الضرورية، وهي قتل القاتل والمرتد وقطع السارق وحد القاذف والشارب ونحو ذلك من الأحكام التي وافقت فيها أدلة الشرع المصلحة، وإن اختلفا فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جُمِعَ، مثل أن يحمل بعضُ الأدلة على بعض الأحكام أو الأحوال دون بعض، على وجه لا يخل بالمصلحة، ولا يُفضي إلى التلاعب بالأدلة أو بعضها، فإن تعذر الجمع بينهما قدمت المصلحة على غيرها لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا ضرر ولا ضرار»، وهو خاص في نفي الضرر المستلزم لرعاية المصلحة فيجب تقديمه، ولأن المصلحة هي المقصود من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل، والمقاصد واجبة التقديم على الوسائل»(1).
فأنت ترى هنا عدة أمور مع الإمام الطوفي من خلال هذا النص الواضح:
1- منهجيته في التعامل مع الكتاب والسُّنة لا سيما في العبادات: موافقة، تعارض، جمع، نسخ، نظر وتفصيل، ثم إذا انتهينا للتعارض بينهما فالأشبه تقديم الكتاب لأنه الأصل الأعظم فلا يقدم عليه فرعه.
2- أن مسألة التعامل مع النص والمصلحة لها منهج كذلك في المعاملات: موافقة، ثم الجمع عند الاختلاف بوجه من وجوه الجمع لا يخل بالمصلحة ولا التلاعب بالأدلة أو بعضها.
3- عند التعارض بعد امتناع محاولات الجمع تُقدَّم المصلحة؛ استناداً لنص وليس مجرد أهواء، وهو «لا ضرر ولا ضرار».
4- أن ميدان هذا التقديم بعد كل هذه الخطوات إن تعذرت هو في «مجال المعاملات»، وليس العبادات أو المقدرات أو القطعيات، وهذا ما يغفُل عنه الكثيرون حين يتحدثون عن هذه القضية عند الطوفي.
5- أن المصلحة هي المقصود من سياسة المكلفين بإثبات الأحكام، وباقي الأدلة كالوسائل، وعند التعارض تقدم المصلحة من باب تقديم المقاصد على الوسائل.
ثم أود أن أشير إلى نقطة مهمة هنا في كلام الطوفي، وهي أن هذا الافتراض المفتعل أو الوهمي بين النص والمصلحة غير موجود في أحكام الشريعة الإسلامية، ولم يستطع الطوفي نفسُه أن يظفر بمثال واحد يبرهن به على هذه الافتراضية؛ وذلك لسبب واضح؛ وهو أن الشريعة بنصوصها مصالح، وأن المصالح الحقيقية هي الشريعة، فما نزلت الشريعة إلا لمصالح العباد، وما جاءت المصالح إلا من الشريعة.
المصلحة غاية الشريعة
بل إن عندنا أصلاً مستقلاً من أصول الفقه وأدلته التي تستقى منها الأحكام الشرعية وتستنبط بها وهو «المصلحة المرسلة»، وقد أخذت بها المذاهب الفقهية قاطبة، بل إنها معمول بها عند عامة الفقهاء قديماً وحديثاً؛ خلافاً لزعم البعض بأن المالكية قد اختصوا به.
كما أن هناك أصولاً وأدلة أخرى تدور حول المصلحة وتحقيقها للناس، مثل الاستحسان الذي عرفوه بعدة تعريفات تدور كلها حول المصلحة، مثل: «الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس»، وقيل: الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام، وقيل: الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة، وقيل: الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة»(2)؛ فتأمل كيف دارت كل هذه التعريفات على مصلحة المكلفين!
والمصلحة لها علاقة بالأدلة جميعاً، بالقرآن والسُّنة والإجماع والقياس وشرع من قبلنا وقول الصحابي وغير ذلك من أدلة وأصول، فلا تخلو هذه الأدلة من إعمال المصلحة فيها لأنها جزء منها، كما لا تخلو من استثمار المصلحة منها لتحقيقها للعباد في الدنيا والآخرة جميعاً.
وحسبنا أن العلماء قديماً وحديثاً قد استفاض عنهم أن الشريعة نزلت لمصالح العباد؛ فها هو العز بن عبدالسلام يقول: «والشريعة كلها مصالح إما تدرأ مفاسد أو تجلب مصالح، فإذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) (البقرة: 104)؛ فتأمل وصيته بعد ندائه، فلا تجد إلا خيراً يحثك عليه، أو شراً يزجرك عنه، أو جمعاً بين الحث والزجر، وقد أبان في كتابه ما في بعض الأحكام من المفاسد حثاً على اجتناب المفاسد، وما في بعض الأحكام من المصالح حثاً على إتيان المصالح»(3).
وقال ابن تيمية: «إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ الرُّسُلَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ، وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ وَرَسُولُهُ فَمَصْلَحَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَفْسَدَتِهِ، وَمَنْفَعَتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى الْمَضَرَّةِ، وَإِنْ كَرِهَتْهُ النُّفُوسُ»(4)، وقد تكررت هذه العبارة في كتب ابن تيمية أكثر من ثلاثين مرة.
وقال تلميذه المحقق ابن القيم: «هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به؛ فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى البعث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها»(5).
وقال إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي: «وضْع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً»(6).
حتى إن الإمام الطوفي نفسه قال عن القرآن: «وبالجملة فما من آية من كتاب الله عزَّ وجلَّ إلا وهي تشتمل على مصلحة، أو مصالح كما بينَّاه في غير هذا الموضع»، وقال عن السُّنة: «وقد بيَّنا اشتمال كل آية منه –أي القرآن- على مصلحة، والبيان –أي السُّنة- على وفق المُبَيَّن»(7).
والحاصل من هذا كله أنه لا يوجد أي تعارض بين نص ومصلحة، ولا بين مقصد ونص، فالشريعة مقاصد ومصالح، والمصالح والمقاصد هي الشريعة، وينشأ التعارض الوهمي بينهما من إحدى جهتين؛ الأولى: فهم النص على غير وجهه، أو أنه نص غير ثابت، أو من الخطأ في تطبيق النص في الواقع، والثانية: تحديد المصلحة وتقديرها، وهل هي مصلحة شرعية أم لا.
وعند التحقيق والتدقيق فسوف نجد أن المصالح والمقاصد جزء من بنية النصوص والشريعة وليست شيئاً خارجاً عن ماهيتها.
__________________________________________________________________________
(1) كتاب التعيين في شرح الأربعين: 329-330. سليمان بن عبدالقوي بن عبدالكريم الطوفي، نجم الدين. تحقيق: أحمد حَاج محمّد عثمان. مؤسسة الريان (بيروت – لبنان)، المكتَبة المكيّة (مكّة – المملكة العربية السعودية). الطبعة: الأولى. 1419هـ/ 1998م.
(2) الوصف المناسب لشرع الحكم: 324. أحمد بن محمود بن عبد الوهاب الشنقيطي. نشر عمادة البحث العلمي، بالجامعة الإسلامية، بالمدينة المنورة. الطبعة الأولى. 1415هـ.
(3) قواعد الأحكام: 1/11. مطبعة الكليات الأزهرية.
(4) الفتاوى الكبرى: 3/14. لابن تيمية. دار الكتب العلمية. الطبعة الأولى. 1408هـ. 1987م.
(5) إعلام الموقعين: 3/11. لابن القيم. تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد. مكتبة الكليات الأزهرية. القاهرة.1414هـ/ 1991م.
(6) الموافقات: 2/9. لأبي إسحاق الشاطبي. تحقيق: مشهور بن حسن آل سلمان. دار ابن عفان. الطبعة الأولى.1417هـ/ 1997م.
(7) التعيين في شرح الأربعين: 243-244.
(المصدر: مجلة المجتمع)