مقالاتمقالات مختارة

نتفليكس.. ما وراء المشهد

نتفليكس.. ما وراء المشهد

بقلم إبراهيم الهاشمي / تحرير عبير العتيبي

“هذا هو المستقبل، البث المتدفق هو المستقبل”[1] بهذه الكلمات وصف بو ويلمون – الكاتب الرئيسي في مسلسل هوس آوف كادز- مستقبل عرض الأفلام والمسلسلات خلال الفترة القادمة، في إشارةٍ إلى عصرٍ جديد ونوعي يحمل في طياته تحوَّلاً جذريًا في التلفاز ورؤيتنا له. تصريح ويلمون جاء في سياق دعم شبكة نتفليكس في خطوتها الجريئة عام 2012 في بث حلقات مسلسله عن طريق الشَّبكة العنكبوتية مرة واحدة. هذا التحوُّل الذي اعتُبر آنذاك مجازفة ومغامرة خطيرة قد تُنهي مستقبل استمرارية المسلسل، لكن يبدو أن صُنَّاع القرارفي نتفليكس كان لهم حسابات أخرى. حساباتٌ كانت أُسسها ودعائمها سمات عصرنا الذي نعيشه: السرعة والرغبة في الوصول للحظة اللذة التي بدورها” تُفقد العادات التي تواكب الحياة كل نفع ومعنى”.[2]

ففي عام 2006 وفي خطوة لتغيير نمطها إلى شبكة تُقدم خدمة الفيديو حسب الطلب، أعلنت نتفليكس عن” مسابقة لخلق خوارزميات من شأنها أن تُحسِّن دقة التوقعات في مدى استمتاع شخصٍ ما في مشاهدة فيلم بناء على تفضيلاته”.[3] معللةً بذلك “بتغير مزاج المشاهد ورغبته في الاختيار اللَّحظي وربما مشاهدة عدة أفلام في وقت واحد”[4] وما يوفره هذا الاختيار من تفاعل بين المشاهد وبينها، ثم الارتكاز على هذا التفاعل والعمل على الخوارزميات والتعمق فيها وذلك لتحسين جودة التوقعات في ما قد يُعجب المشاهد مستقبلًا ومن ثم زيادة تعلقه بالعلامة التجارية وما يوفره هذا كقاعدة لتسويق اجتماعي للشبكة عبر آليتي التخصيص والمشاركة[5] كمقدمة وتهيئة لتوسيع رقعة المستهلكين والخروج إلى العالمية.

ما سبق يشير بوضوح على مدى قراءة نتفليكس لدور الإعلام المعاصر بهيئته الجديدة في مرحلة رأسمالية ما بعد الحداثة التي وصلت فيها الفردانية ذروتها، فأصبح لا يُنظر للأمر إلا من منظورٍ واحد وهو الاستهلاك اللَّحظي الذي ينشأ من حالة الانبهار والسرعة في تغيير الملذات كلما حانت نهايتها وانتهت صلاحيتها الزمنية؛ بل وصار يتجاوز الاستهلاك حالة الانبهار كونه أضحى سمةً فريدةً في التعبير عن المخاوف من المستقبل المحفوف بالمخاطر بطريقة الاستغراق في الراهنية. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على أثر التقنية على حياتنا واختياراتنا لدرجة التحكم وذلك بفضل المعرفة المستخلصة من هذه الخورازميات حيث بِتنا نتكلم عن” نمط علاقة جديدة للإنسان الحديث

مع عالمه المحيط”[6]؛ علاقةً يتحول فيها إلى “مادة خام ومخزن ومستودع وموضع تسري عليه نفس قوانين الاستعمال والاستخدام الخاصة بالأشياء”[7]. وعليه، جرى إعادة تعريف الإنسان من كائنٍ له هدف ومعنى من وجوده إلى مجرد سلعة تُعتبر رأس مال للرأٍسمالية في رؤيتها المعاصرة للاستهلاك؛ وهو ما أدّى بدوره إلى اعتبار المرحلة الحالية من قبل مُفكرين غربيين كأمثال جيفري نيولون[8] إنعطافةً وقفزةً نوعية ومسارًا جديدًا داخل ما بعد الحداثة؛ مرحلةٌ يُفضل أن يسميها بـ “بعد ما بعد الحداثة” لشدَّة ما تشهده من تفاقمٍ في مشاكل ما بعد الحداثة التي أحد أبرز ملامحها هو: تطويع الأساليب والتلاعب فيها حتى يتم السيطرة والتوجيه من قبل صنَّاع القرار لصالح زيادة تغوّل الرأسمالية وتحكمها السياسي – الاقتصادي مما زاد صعوبة – بحسب نيولون- في إيجاد صياغة بديلة للرأسمالية. وبناء على ذلك، عمل الإعلام المعاصر – نتفليكس الوجه الرئيس له – على ربط أسلوب المستهلك مع الهوية الفردية ربطاً جوهريًّا لا انفكاك عن بعضهما البعض.[9]

هذا التحوُّل في مفهوم الاستهلاك نتج عنه تغيير في نظرتنا لأنفسنا وللمرتكزات القيمية التي نحملها وطبيعة العلاقات المؤطرة لها وطريقة تشكلها وما يستتبع ذلك “من الميول الادراكية.. والتحيزات والافتراضات الصَّريحة والمضمرة عن العالم وطرق التَّعامل معها روؤى السعادة وطرق تحقيقها “[10]؛ وهو ما ولَّد حالة الشعور في بحث كيفية استثارة الملذات مرةً تلو المرة والاستعداد لمغامرات وتجارب حسية جديدة. مغامراتٌ وتجارب تَفرض عل المتابع أن يستحدث كل فترة هويته وطريقة عيشه وإلا يفقد حضوره وكينونته ومن ثمَّ تواجده على هذه البسيطة؛ “فالصعود والسقوط يجريان بسرعة مثل إلقاء حجر النرد بإنذار بسيط أو من دون إنذار”[11]. وهذا الاستحداث يكون عبر مواكبة ما استجد من صيحات الموضة فكريًّا وثقافيًّا وجَسديًّا حتى لو كان ذلك يخالف فطرة الإنسان وما جُبِل عليه. وحتى يضعف أثر الرادع عند المشاهد. عمِل الإعلام الجديد في الأونة الأخيرة وبشكلٍ مكثَّف على كسر المحرمات والدخول في مناطق كانت إلى وقتٍ قريب محظورة وفشل الإعلام التقليدي – التلفاز على شكله القديم – في توجيه أو على أقل تقدير جعل المشاهد يتقبلها. من هذه المناطق وأكثرها حضورًا – حتى تحولت إلى ظاهرة يصعب عدم ملاحظتها؛ المشاهد الكثيفة لحالة الشذوذ في المسلسلات والأفلام وبرامج الواقع. ولكسر هذه المحرَّمة جرى العمل على أكثر من طريقة لترويض المتابع منها:

– زيادة تلقي المشاهد وعبر عدة أطر منها الرئيسية والثانوية على تكثيف مشاهد الشذوذ داخل المسلسلات وتحديدًا ذات الجماهيرية الواسعة لما لها من سطوة وحضور عند المشاهد ( في  أحد المسلسلات الشهيرة  وفي آخر الفصلين منه جرى استحداث دور المتحول الجنسي وجعله طبيبًا متقبلاًّ من زملاءه الذين يعملون معه ومن ضمن هذا الطاقم زميلة مسلمة محجبة!).

– اختيار عدد من المشاهير وتحويلهم إلى نماذج في الشذوذ وأنهم يعيشون حياة سعيدة مع أبناءهم- عبر برامج تلفزيون الواقع Reality TV Shows- الذين تقبلوا هذا الأمر.

هذه الوتيرة ازدادت بطبيعة الحال مع نتفليكس، ففي دراسةٍ[12] أجريت نهاية 2018 من مؤسسة غلاد GLAAD – وهي مؤسسة بحثية تُعنى بمتابعة حضور الشذوذ ( بفروعه الخمسة LGBTQ) على شاشة التلفاز- تم الإشارة لنتفليكس كأكثر شبكةٍ توفر مواد وأعمال الدراما فيها حضورًا للشاذين وذلك في فترة 2017- 2018؛ بل وفاقت بحسب التقرير مثيلاتها من خدمات البث كأمازون وهولو AMAZON & HULU، مضيفةً بأن الشبكة تتوسَّع في زيادة رقعة المواد الأصلية لها وتخصيص جزءٍ مهم منها لتمثيل هذا التيار، كما تقع هذه الزيادة أيضًا في نطاق عدد الشخصيات المتواجدة في هذه المواد، فقد ارتفعت النسبة إلى الضعف مقارنةً بالسنة الماضية.[13] هذا الاحتفاء لا زال مستمرًا إلى وقتنا هذا، فقد نشرت المؤسسة ذاتها في شهر مايو الفائت خبرًا على موقعها تستعرض فرحها بالشبكة بكونها ستعرض بدءًا من شهر مايو أهم عملين لهذا التيار.[14] هذه الخطوات وما سيتبعها من تطورات ستزداد بطبيعة الحال قوةً في المرحلة القادمة وذلك لدفع مزيد من الميوعة الاجتماعية في مناهضة هذا التيار والتأثير على الرأي العام وتبعًا لذلك يتم كسب أرضية جديدة لصالح الشواذ في السياسات والقوانين العامة.

إن ما ذكر أعلاه يفرض علينا التعمق في دراسة الأنماط الجديدة والمستحدثة في كل فترة للإعلام المعاصر لزيادة التوعية ومعرفة طرق نفاذهم لأدمغة الجيل الجديد المتأثر والداخل في حالة استلاب كلي نتيجة سطوة الصورة ومؤثراتها والذي يعيش لأسباب متعددة – وفي أكثر من اتجاه- حالة متقدمة من كسر الحواجز تزداد كثافتها يومًا بعد يوم.

 


[1] تصريح بو ويلمون جاء في تقرير لموقع The Hollywood Reporter

[2] زيجموند باومان، الحداثة السائلة.

[3] how netflix uses analytics

[4] netflix recommendations beyond the 5 stars part

[5] From Netflix Streaming to Netflix and Chill: The (Dis)Connected Body of Serial Binge-Viewer

[6] محمد سبيلا، الحداثة وما بعد الحداثة، ص 56.

[7] المرجع نفسه.

[8] ?Can Literature be Equipment for Post-Postmodern Living

[9] Is this TVIV? On Netflix, TVIII and binge-watching

[10] زيجمونت باومان، الحياة السائلة، ص 116.

[11] المرجع تفسه، ص 118.

[12] https://glaad.org/files/WWAT/WWAT_GLAAD_2017-2018.pdf

[13] https://glaad.org/files/WWAT/WWAT_GLAAD_2018-2019.pdf

[14] LGBTQ originals ‘The Half of It’ and ‘Hollywood’ debut on Netflix on Friday

(المصدر: موقع أثارة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى