أسّ الصراع وفلسفة التطبيع
بقلم أحمد الحسين
التطبيعُ هو مصطلحٌ سياسيٌ يشيرُ إلى جعل العلاقات طبيعية بعد فترة خلاف أو قطيعة، وتتنوع أشكاله بدءًا من إقامة المشاريع التجارية، مرورًا بالجهود الثقافية والفنية والإنسانية، وانتهاء بالعسكرية والسياسية.
وعلى هذا فإنّ أيّ مشروع أو نشاط أو مبادرة تُقام للجمع بين مغتصب الأرض وصاحبها في محاولة لتمييع القضية تعدّ شكلًا من أشكال التطبيع. ولفهم دلالات المصطلح يتعيّن علينا القيام بسردٍ تاريخيٍ، نستحضرُ به أسّ الصراع، وأساس القضية. ولعل هذه الدراسة تكون زاد للجيل الصاعد الذي كره الاحتلال فطرةً، وورث عداوته دون الخوض في التأصيل المعرفي له.
البداية من سويسرا عام 1897 عندما عُقد المؤتمر الصهيوني الأول بزعامة ثيودور هرتزل والذي ضم كل الجاليات اليهودية، وكان الهدف منه التخطيط لإنشاء وطن قومي لليهود، ورشّحوا عدة دول منها الأرجنتين وكندا وموزنبيق والكونغو وأوغندا وفلسطين..
إلا أنّ اختيارهم وقع على فلسطين، حيث إنهم ادّعوا أحقيتهم فيها مستشهدين على ذلك بنصوص دينية، وتصورات تاريخية. فاختيارهم لها لم يكن اعتباطيًا، والمسألة متجذّرةٌ ضاربةٌ بجذورها أعماق التاريخ.
الحق الديني لليهود في فلسطين
أما عن حقهم الديني فقد اعتبر اليهود أنفسهم “شعب الله المختار” مستشهدين على ذلك بنصوص قرآنية وتوراتية نذكر منها ما جاء في القرآن الكريم، قال تعالى: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) وقال تعالى: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِين).
لا شك أنّ بني إسرائيل أفضل العالمين في زمانهم حينما كانوا عباد الله الصالحين؛ أما حين ضُربت عليهم الذلة، واللعنة، والصَّغار فإنهم لم يعودوا أفضلهم؛ بل منهم القردة، والخنازير كما ذُكر في مواضع أخرى من كتاب الله.
ولقد كتب الله عليهم دخول الأرض المقدسة، ولكنهم تنكّروا لأمره وعصوه، فكتب عليهم التيه أربعين سنة حتى استُبدلوا جيلًا بعد جيل، وما إن دخل الجيل الذي تربى على أيدي الأنبياء بعد أن نفق الجيل الذي عاش مع إذلال فرعون الأرض المقدسة؛ حتى ظهر الكفر والعناد المتأصل في جذورهم، فعادوا لمخالفة أمر ربهم. وتأتي النصوص القرآنية ناسخة لحكم كتابتها عليهم، حاسمة بانقلابهم على أعقابهم، ومقررة أن الأرض يرثها عباد الله الصالحين دون اعتبارٍ لعرقٍ دون عرقْ، ولا لقومٍ دون قوم.
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ)
الحق التاريخي لليهود في فلسطين
نزل إبراهيم -عليه السلام- وقومه أرض فلسطين وهناك وُلد له إسحاق، وولد لإسحاق يعقوب، الذي هو أبو الأسباط الاثني عشر وإليه ينسب بنو إسرائيل، وبعد استقرارهم في فلسطين فترة من الزمن رحل بهم يوسف -عليه السلام- وهو ابن يعقوب إلى مصر، ثم حلّ بهم ظلم فرعون، فبعث الله فيهم موسى -عليه السلام- وحاول أن يدخل بهم أرض فلسطين، إلا أنهم عصوا في بادئ الأمر فعوقبوا بالتيه.
ثم دخل الجيل الذي تلاه أرض فلسطين بقيادة يوشع بن نون واستقروا فيها ما شاء الله لهم أن يستقروا. وبعد وفاة يوشع بن نون تعاقب الأنبياء والملوك على وراثة حكمهم، ثم بُعث فيهم النبي داوود -عليه السلام- الذي وحد الأسباط وخلفه ابنه سليمان -عليه السلام-، وبوفاة النبي سليمان انقسم بنو إسرائيل إلى مملكتين تغزوهم الممالك ويغزو بعضهم البعض، وهم مع ذلك لا يحيدون عن طبيعتهم في الكفر والجحود وقتل الأنبياء.
حتى سلّط الله عليهم نبوخذ نصر البابلي الذي دمر مملكتهم تمامًا وجعلها أثرًا بعد عين وساقهم كسبايا إلى بابل لتبدأ مرحلة السبي البابلي، ثم شنت الفرس حربًا على البابليين ودخل اليهود في صف الفرس، وبانتصار الفرس واحتلالهم فلسطين سمحوا لليهود بالعودة إليها، ثم جرت حرب أخرى بين الفرس والإغريق بقيادة الإسكندر الأكبر فاستقر لهم الحكم فترة، ثم استقر الحكم للرومان.
وما فتئ اليهود في كل مرحلة يحاولون إنشاء كيان لهم، سواء بالاستعانة بمحتل ضد حاكم حاليٍ، أو بثورة داخلية. حتى كانت المذبحة الفاصلة وهي مذبحة الإمبراطور الروماني “تيتوس” التي قضت على أغلب اليهود، وبعدها مذبحة الإمبراطور “هادريان” التي قضت على بقاياهم، سوى شراذم قليلة اضطرت لإعلان المسيحية دينًا حتى لا تستأصل.
إن الزعم بأحقية اليهود في فلسطين لأنهم وُجدوا في مرحلة من مراحل تاريخها لهو زعم باطل، وإلا لكان من حق كل من مرّ على أرض فلسطين الادعاء بحقهم فيها، ولقد مرّ عليها البابليون والإغريق والفرس والروم ثم مضوا وبقيت فلسطين وشعبها.
اليهود في ظل الحضارة الإسلامية
في عام 637م دخل الجيش الإسلامي إلى فلسطين بعد حصار دام لستة أشهر لتصبح بعدها فلسطين جزءًا من الإمبراطورية الإسلامية. ولم يُنقل عن الجيش الإسلامي حين دخوله فلسطين أنه أرغم أحدًا من اليهود أو المسيحيين على تغيير دينه، بل سمح لهم بممارسة شعائرهم، وحينما عاينوا الإسلام حيًا في قلوب أتباعه، مُتّبعَاً في حياتهم وشؤونهم عامة، تحوّل معظمهم إلى دين الإسلام.
عاش اليهود في ظل الدولة الإسلامية كغيرهم من الأديان والطوائف، تحفظ الدولة لهم حقوقهم مقابل تأديتهم لواجباتٍ معلومةٍ جزية كانت أو خراجًا، حتى أنّ اليهود الذين ذاقوا من ظلم الدول الأخرى رأوا في حضن الدولة الإسلامية مأمنًا لهم، فبعد المذابح الجماعية التي تعرضوا لها في كلٍّ من البرتغال وإسبانيا عام 1490 فرّوا إلى القسطنطينية ليجدوا فيها الأمن والأمان، ورُحِّب بهم أيّما ترحيب، حتى أنهم وجدوا لهم موضع قدم في عالم الصناعات وأهمها الصناعة الحربية.
لم يجد اليهود مأمنهم في دول الشتات التي عاشوا فيها، ربما لطبيعتهم التي طالما حدثنا القرآن عنها من جحود وعناد، فلم تسع لهم صدورهم ولم يعلموا الدواء من ذلك الداء، أما الشريعة الإسلامية فهي تعرف حقّ المعرفة كيف تحتويهم وغيرهم، حتى قال المؤرخ الفرنسي جوستاف لوبون:
إن العالم كله لم يشهد فاتحًا أرحم من العرب.
يعني بذلك المسلمين من أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-.
محطّات تاريخية منذ الفتح الإسلامي وحتى الاحتلال البريطاني لفلسطين
- 637: معركة أجنادين والفتح الإسلامي للقدس.
- 661- 750: الخلفاء الأمويون يحكمون فلسطين من دمشق، وبناء قبة الصخرة.
- 750- 125: الخلفاء العباسيون يحكمون فلسطين من العراق.
- 969- 1071: قدوم السلاجقة للقدس، وإرجاع فلسطين لحكم الخلافة العباسية.
- 1099- 1187: احتلال الصليبيين لفلسطين.
- 1187: تحرير القدس من قبل القائد الأيوبي صلاح الدين، والأيوبيون يحكمون القدس من القاهرة.
- 1260: المماليك يحكمون فلسطين من القاهرة ويهزمون التتار في معركة عين جالوت.
- 1291: تحرير المماليك لآخر المعاقل الصليبية في قيساريا وعكا.
- 1516- 1817: العثمانيون يحكمون فلسطين من إسطنبول.
- 1832- 1840: حاكم مصر محمد علي باشا يحتل فلسطين، ثم تعود للحكم العثماني.
- 1878: تأسيس أول مستوطنة زراعية صهيونية في فلسطين.
- 1882- 1903: الهجرة الصهيونية الأولى والتي شملت 25 ألفًا من أوروبا الشرقية. وفي بداية هذا التاريخ يبدأ البارون روتشيلد في باريس بالدعم المالي للاستيطان اليهودي في فلسطين.
- 1896: الصحفي النمساوي-الهنغاري اليهودي ثيودور هرتزل ينشر كتابًا عنوانه” الدولة اليهودية” يدعو فيه لإنشاء دولة قومية يهودية.
- 1897: انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في باريس، وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية.
- 1904- 1914: الموجة الثانية من المهاجرين الصهاينة والتي يبلغ عددها 40 ألفًا.
- 1917: وعد بلفور، وزير خارجية بريطانيا الذي يتعهد فيه بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين.
- 1918: احتلال فلسطين من قبل القوات البريطانية.
إن أهمية فلسطين الدينية والجغرافية والجيوسياسية جعلت منها مطمعًا للدول عبر تاريخها، وإن هذه الرقعة المباركة تعدّ مقياسًا لنهضة الأمة أو هبوطها عبر النظر في الجهة التي تحكمها.
الموقف العربي من القضية الفلسطينية
هناك العديد من الحيثيات التي جعلت من القضية الفلسطينية قضية دولية لا قضية محلية أو إقليمية، وإلا فلا يخلو إقليم من صراع إقليمي على رقعة جغرافية معيّنة، وأبرز تلك الحيثيات هو موقعها الحسّاس جغرافيًا ودينيًا، فهي في متقاطع قارتين، إضافة إلى عراقتها الدينية، وبعد بداية الصراع العربي الإسرائيلي ازدادت تلك الحيثيات فنذكر منها:
- صراع الثقافات بين طفل الغرب إسرائيل والشرق.
- النزعات الدينية التي بدأت تطفو على السطح، وعودة كل دولة إلى مرجعيتها الدينية.
- مركزية قضية اليهود عند دول الغرب بسبب لوبيّاتها.
- المظلومية اليهودية والتغني بالهولوكوست اليهودي.
واجهت الأنظمة العربية الكيان الصهيوني الوليد، وتصدت له، من منطلقات عديدة، نذكر منها:
- تبني معظم الأنظمة العربية للفكر القومي العربي والتي يفترض بطبيعة الحال تبنيه لقضية تحرير البلدان العربية من المستوطن الأجنبي.
- سيطرة الفكر الشيوعي الماركسي المعادي للرأسمالية على معظم الدول العربية، ومن ضمنها دول الجوار.
- موقف الشعوب المتضامن مع القضية الفلسطينية من منطلقات دينية ووطنية وعرقية. وعدم ترجيح الأنظمة التصادم مع شعوبها آنذاك.
أحداث الصراع العربي الإسرائيلي
حرب فلسطين 1948
في عام 1948 دارت رحى أول وأشمل حرب بين العرب وإسرائيل، حيث شاركت فيها جيوش دول الجوار مع تأييد عربي شامل تمثّل بتشكيلات متطوّعة نُظّموا تحت مسمى جيش الإنقاذ، وبلغ عددهم الآلاف، بالإضافة إلى متطوعين آخرين أبرزهم الإخوان المسلمين. ولكن نتيجة الحرب كانت كارثية إذ أنّ تلك الجيوش الجرارة وتلك المجموعات الغفيرة هزمت أمام جيش وليد مغتصب، ما يعيدنا لقراءة عقيدة القتال آنذاك، وليس محل بحثه هنا.
العدوان الثلاثي على مصر 1956
شنّت كل من إنجلترا وفرنسا وإسرائيل حربًا على مصر في أكتوبر من عام 1956 بسبب قرار الرئيس عبد الناصر في تأميم قناة السويس، ولقد أدت المقاومة المصرية والضغوطات الروسية والأمريكية إلى توقف العدوان.
حرب 5 يونيو (النكسة) 1967
حصلت مخابرات الجيش الإسرائيلي على معلومات تفيد بنيّة الجيش المصري شنّ هجوم على إسرائيل، فاستبقت الأخيرة المشهد، وقصفت الطائرات المصرية العسكرية في حظائرها مما أدى إلى شلل القوات الجوية لدولة مصر، وسُمِح لقوات المشاة في الجيش الإسرائيلي بالتوغل في سيناء، فانسحب الجيش المصري بشكل غيّر منظم بسبب كثافة التغطية الجوية للجيش الإسرائيلي.
أدى هذا الانسحاب غير المنظّم إلى وقوع مقتلة كبيرة، وكانت نتيجة تلك الحرب كارثية تمثلت في احتلال سيناء من مصر، والجولان من سوريا، والضفة الغربية من الأردن. فضاعفت إسرائيل مساحتها في غضون 6 أيام إلى 4 أضعاف، مما يعكس قلة الكفاءة لدى الأنظمة العربية.
حرب أكتوبر 1973
عام 1973 شنّ الجيشان المصري والسوري هجومًا مزدوجًا على الكيان الصهيوني، نتج عنه اختراق خط بارليف العسكري في سيناء، وهو من الخطوط الأساسية والمدعّمة. أما على الجبهة السورية فقد وصلت القوات السورية إلى القنيطرة من الجولان، وكان للملك فيصل ورئيس الجزائر بومدين دورًا بارزًا في تلك الحرب، حيث قطعوا النفط عن أمريكا، وكلّ داعمي الكيان الصهيوني، ثم بدعم الجيشين المصري والسوري بالسلاح والكتائب.
حرب لبنان 2006
بعد اختطاف حزب الله اللبناني لجنديين إسرائيليين دارت الحرب بين الحزب وإسرائيل في صيف 2006 نتج عنها خسائر كبيرة لكلا الطرفين.
اتفاقيات التطبيع
وقّعت العديد من الدول على اتفاقيات تطبيع مع الكيان الصهيوني، في حين أخّرت دولٌ أخرى تلك الخطوة، وحافظت بعضها على موقفها المعادي، هذا التباين في الموقف أدى إلى تمايز تلك الدول عن بعضها البعض، وأدى إعلان التطبيع إلى تباين من نوع آخر بين الشعوب التي ترفض التطبيع والحكومات المعلنة له.
اتفاقية التطبيع المصرية الإسرائيلية
في عام 1978 وقّعت مصر مع العدو الصهيوني أول اتفاقية تطبيع، وأسموها باتفاقية السلام، حيث تمت الاتفاقية تحت رعاية أمريكية في كامب ديفيد. وكان من نتائجها:
- تحييد مصر عن الصراع العربي الإسرائيلي.
- حصول السفن الإسرائيلية على إذن في الملاحة داخل قناة السويس.
- يشمل التطبيع كافة المجالات بين البلدين ومنها تبادل السفارات.
- الانسحاب الإسرائيلي من سيناء.
- بدء مفاوضات مع الأردن لمنح صلاحية حكم ذاتي للضفة والقطاع.
قاطعت الدول العربية مصر بعد توقيع الاتفاقية أحادية الطرف، وكـاحتجاج على تلك الاتفاقية تم نقل مقرّ جامعة الدول العربية إلى تونس، إلى أن تم إعادته إلى مصر بعد مدة.
اتفاقية أوسلو
اعتُبر الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات من المطبعين مع الكيان الصهيوني بعد توقيعه لاتفاقية أوسلو عام 1993، حيث التزمت منظمة التحرير ممثلة بمحمود عباس أمين سر اللجنة التنفيذية بموجب المعاهدة باعترافها بحق إسرائيل بالعيش الآمن في مقابل اعتراف الأخيرة بمنظمة التحرير ممثلًا للشعب الفلسطيني.
اتفاقية التطبيع الأردني الإسرائيلي
تم توقيع الاتفاقية بين الأردن وإسرائيل في عام 1994 بعد حقبة من العلاقات بدأت منذ بداية السبعينات، ومن نتائج تلك الاتفاقية:
- تحييد الأردن عن الصراع العربي الإسرائيلي.
- التطبيع يشمل كافة المجالات ومنها تبادل السفارات.
- حرية الملاحة لكلا الدولتين.
اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي
اتفاقٌ أُعلن بين إسرائيل والإمارات العربية المتحدة في 13 أغسطس 2020، أعلن فيه محمد بن زايد أن الضم الإسرائيلي لمناطق غور الأردن سيتوقف، إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفى ذلك، وأكد على التزامه بوعوده للإسرائيليين بالضم.
اتفاق التطبيع البحريني الإسرائيلي
اتفاقٌ أعلن بين إسرائيل والبحرين في 11 سبتمبر 2020.
الموقف العربي بين الأمس واليوم
ما الذي غيّر الموقف العربي بين الأمس واليوم؟
في الحقيقة إنّ موقف تلك الدول لم يتغيّر بشكل يدعو إلى الاندهاش، وإنما ظهر إلى العلن بعد اختلاف بعض المعطيات التي أجبرت الحكومات آنذاك على معاداة الصهيونية، ومن هذه الاختلافات في المعطيات: رجوح كفة الرأسمالية العالمية والدول التي تتبناها، وهي نفسها الدول التي تدعم إسرائي. وتجرّؤ الحكومات على شعوبها بعد تعرقل الربيع العربي. بالإضافة للسعي لتثبيت الأنظمة في الحكم من خلال التعاون مع إسرائيل، والتقرب من أمريكا بإظهار التطبيع.
ونجاح الغرب إلى حدٍ كبيرٍ في غزوهم الفكري والثقافي للبلدان العربية، والشعور بالتهديد التركي، والتوجس من ازدياد دور تركيا في المنطقة إضافة إلى ترسيخ وجود إسرائيل، حيث أنها تعتبر حلقة الوصل بين الشرق والغرب، هذه معطيات أساسية لاختلاف السياسة بين الأمس واليوم.
كانت هذه أسباب تطبيع الدول العربية بشكل عام، أما عن أسباب إعلان تطبيع دولة الإمارات بشكل خاص فهي:
- محاولة إهداء إنجاز لحليف أبو ظبي رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتينياهو بعد أزمات سياسية واقتصادية وقضائية يتعرض لها في وقته الراهن.
- هدية انتخابية لترامب حتى يستهوي اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.
- تعد الإمارات ومثلها السعودية من الدول التي استثمرت كثيرًا في ترامب، فهي تخشى إن فاز بايدن في الانتخابات من ضغوطات، فأرادت بهذه الخطوة استباق المشهد والاحتماء بإسرائيل.
- الطمع في الحصول على المزيد من الأسلحة الأمريكية.
- اختلاف الأجيال في الإمارات وتعرض الجيل الحالي لكثير من التغريب.
- بعد تمادي نفوذ الإمارات في كثير من الدول، ماليًا واستخباراتيًا وحتى عسكريًا، تسعى الإمارات لحماية نفوذها بهذه الخطوة.
- الحصول على المزيد من المكاسب الأمنية من إسرائيل.
- تهرب الإمارات للأمام بعد مواقفها المعادية في العالم العربي والإسلامي.
لكنّ دعاة التطبيع بطبيعة الحال لا يعلنون تلك الأسباب وإنما يحتجّون ببعض الحجج الواهية، نذكر منها:
- طول زمن الاحتلال قد منحه شرعية الوجود والاستمرار بسبب ولادة أجيال من اليهود لا تعرف لها وطنًا غير إسرائيل.
- مواجهة الخطر الإيراني في المنطقة.
- اعتبار إسرائيل أمرًا واقعًا لا بد من القبول به والتعايش معه والاستفادة منه علميًا واقتصاديًا.
- اعتبار القضية الفلسطينية شأنًا فلسطينيًا لا يُعنى به العرب.
- اعتبار القضية الفلسطينية قضية إنسانية تستوجب وقف نزيف الدم.
- الحصول على حقوق جزئية للشعب الفلسطيني، من مثل: تخفيف الحصار عن غزة، وإيصال المؤن والأدوية، وإيقاف مشاريع الضم.
من يملك قرار وقف التطبيع
تبيّن لنا مما سبق أن الأنظمة العربية وجدت نفسها مضطرة لتبني القضية الفلسطينية، حيث إن القضية الفلسطينية عُدّت من القضايا الرافعة، لذلك نرى الكثير من الدول تتاجر بها، وتتغنى بالمقاومة والنضال في كل مناسبة، ومع أن هنالك الكثير من المبررات التي تكفي لتبني القضية بحق، بل واعتبارها القضية الأساسية، إلا أن الشغل الشاغل لتلك الأنظمة هو بقاءها في الحكم، وليس تبني القضايا العادلة والقيم السامية.
هذا والحال هكذا فالذي يملك قرار وقف التطبيع، ظاهره وباطنه، هم الشعوب الذين آمنوا بالقضية الفلسطينية من منطلق ديني وعرقي ووطني، ولن تغْرِهم المطامع السياسية حتى يبدلّوا موقفهم، أو ينقضوا غزلهم بعد قوة أنكاثًا.
(المصدر: موقع تبيان)