مقالاتمقالات مختارة

علل المتون بين الرواية والغواية (رداً على شبهات رد الأحاديث)

علل المتون بين الرواية والغواية (رداً على شبهات رد الأحاديث)

بقلم ياسر عريف أبو ميز

لم تزل السنة تتعرض لطعون وشبهات، ولم يزل أهل الباطل ومن في قلوبهم زيغ يتعرضون للسنة بالطعن والتشكيك، ولهم في ترويج باطلهم هذا مسالك شتى ومذاهب متنوعة، ولم يزل الله تعالى يغرس غرسًا عدولًا يستعملهم لدينه، ينفون تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهيأ لهذه الأمة جهابذة ورجالًا في القديم والحديث حفظوا السنة وصانوها من عبث العابثين ومن افتراءات المغرضين، فبيَّنوا الحق من الباطل والصحيح من السقيم، وذادوا عن حياض السنة المطهرة وفندوا وردوا على شبهات أولئك الطاعنين بالحجة والبرهان.

فليحذر المسلم الشحيح بدينه هذه المزالق، وتلك المسالك؛ فإن الولوج إلى هذه المضايق والدخول في تلك اللجج ركوبٌ للمخاطر ومجازفة بالأديان، وليحذر مسالك القوم في طعنهم فإنها مزلة أقدام ومضلة أفهام.

فإن الطعن في السنة طعن في القرآن وما طعنوا في رواة الأحاديث وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليصلوا إلى الطعن في السنة، وما طعنوا في السنة إلا ليصلوا إلى القرآن وإنهم ليُسِّرون حَسوًا في ارتغاء.

فالسنة وحي كما قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٣، ٤]، فدل ذلك على أن السنة وحي، وجعل – سبحانه – الهوى مقابل الوحي، فمن لم يتبع الهدى فإنه من أهل الأهواء: {فَإن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، مخالف للهدي متبع للشيطان، مجانب للصراط المستقيم، ناكب عنه: {وَإنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 73 وَإنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون: 73، 74].

والسنة بيان للقرآن، تفصيل لمجمل، تقييد لمطلق، تخصيص لعام، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: ٤٤]، وكان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن[1]، والسُّنَّةِ تُفَسِّرُ الْقُرْآنَ[2].

وعن المقدام بن مَعْدِيكَرِبَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»[3]، وفي رواية: «إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمَا يَعْدِلُهُ»[4]، وفي رواية أخرى: «أَلَا وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِثْلُ مَا حَرَّمَ اللهُ»[5].

وفيه: الأمر بلزوم السنة… وأنها في لزوم قبولها ووجوب العمل بها تتنزل منزلة كتاب الله، فإنه ما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. قال الشافعي رضي الله عنه: وفي هذا تثبيت الخبر عن رسول صلى الله عليه وسلم وإعلامهم أنه لازم لهم وإن لم يجدوا له نصًّا محكمًا في كتاب الله[6].

قال العراقي رحمه الله: ووصف السنة بالإنزال صحيح، فقد كان الوحي ينزل بها كما ينزل بالقرآن… وقد قال الشافعي رضي الله عنه: السنة وحي يتلى[7].

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم من حكم الله تعالى إلا ما علمه الله… ويأتيه جبريل عليه السلام بالسنن، كما كان يأتيه بالقرآن[8]. فالله تعالى قال: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإنَّا لَهُ لَـحَافِظُونَ} [الحجر٩]، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم من قرآن أو سنة[9].

فأهل الرواية: {عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة٥] ونور وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم، وأهل الغواية: عن الهدى معرضون وعن الصراط ناكبون {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ} [النور40][10].

لكن قومًا ضنت بهم أنفسهم وضنوا بها أن يحملوها على الحق فلم يهتدوا بهدى الله، ولم يستضيئوا بنوره، وأتبعوا أنفسهم هواها، أعيتهم هذه السنن أن يهتدوا بها أو يستضيئوا بها فعادوها وردوها بزعم مخالفتها للقرآن أو لعقولهم، واعتدوا بآرائهم وتخرصاتهم وظنونهم وأوهامهم. صدق فيهم قول عمر رضي الله عنه: ألا إن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فأفتوا برأيهم فضلوا وأضلوا[11].

فإذا تقرر ذلك وما سبق بيانه من أهمية السنة النبوية ومكانتها في الدين، فإن الله تعالى قد تولى حفظها، وهيأ لها قومًا وقفوا أعمارهم لخدمة الحديث رواية ودراية، فرحلوا إلى الأمصار وجابوا البلاد والديار، وعبروا الفيافي والقفار، فحفظ الله تعالى بهم السنن وأقام بهم الدين، فرحمة الله عليهم أجمعين، حتى إن أحدهم ليرحل شهرًا ليتثبت من رواية حديث واحد.

قال البخاري رحمه الله: باب الخروج في طلب العلم ورحل جابر بن عبدالله مسيرة شهر إلى عبدالله بن أنيس في حديث واحد[12].

وقال المعلمي رحمه الله: كان أحدهم يقضي الشهر والشهرين يتنقل في البلدان يتتبع رواية حديث واحد… ومن تتبع كتب التراجم وكتب العلل بان له من جدهم واجتهادهم ما يحير العقول[13].

فنشأت علوم الحديث التي تعتني بأحكام الرواية والدراية، ويدرى بها أحوال المتن والإسناد، وكان لعلم العلل ونقد الأحاديث القدح المعلى من هذه العلوم وكان به من العجائب ما يبهر أولي الألباب، ودليل على حفظ الله، لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأصبح علم الحديث مفخرة من مفاخر المسلمين.

قال العلامة المعلمي[14] رحمه الله: قد هيأ الله تبارك وتعالى لنا سلف صدق حفظوا لنا جميع ما نحتاج إليه من الأخبار… وتتبعوا أحوال الرواة التي تساعد على نقد أخبارهم وحفظوها لنا في جملة ما حفظوا… وعمدوا إلى الأخبار فانتقدوها وفحصوها وخلصوا لنا منها ما ضمنوه كتب الصحيح، وتفقدوا الأخبار التي ظاهرها الصحة وقد عرفوا بسعة علمهم ودقة فهمهم ما يدفعها عن الصحة فشرحوا عللها وبينوا خللها وضمنوها كتب العلل… فبحق قال المستشرق المحقق مرجليوت: ليفتخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم[15].

وكانت عناية المحدثين والأئمة النقاد بالإسناد والمتن معًا وأولوا المتن عناية خاصة، وهذا واضح بيِّنٌ من تصرفاتهم وأحكامهم على بعض ألفاظ المتن بالشذوذ والعلة.

قال بعض أهل الأهواء من أذناب المستشرقين: «على أنه (يعني علم الحديث) بهذه المكانة الجليلة والمنزلة الرفيعة، فإن العلماء والأدباء لم يولوه ما يستحق من العناية والدرس، وتركوا أمره لمن يسمون رجال الحديث يتداولونه فيما بينهم… معقولًا أو غير معقول، إذ وقفوا بعلمهم عند ما يتصل بالسند فحسب، أما المعنى فلا يعنيهم من أمره شيء»[16].

ورد عليه شبهته العلامة محمد عبدالرزاق حمزة إمام الحرم المكي فقال: «إذا كان في غرائب الأحاديث وشواذها وموضوعها ما لا يوافق العقل ولا يثبته العلم – كما في كثير من كتب التفسير – فلا يضر ذلك صحيح الأحاديث، وما ثبت عند أهله الذين وقفوا حياتهم عليه… أما الصحيح فإن عليه ولله الحمد أنوار النبوة وبلاغة سيد من نطق بالضاد، والحَكَمُ العدلُ في ذلك ذوق العلماء الراسخين من الأئمة الفضلاء والأدباء المتمكنين، لا ذوق أبي رية وأمثاله»[17].

وقال العلامة المعلمي رحمه الله: هؤلاء كلهم ممن سماهم (أبو رية) «رجال الحديث» ومنهم عامة المشهورين عند الأمة بالعلم والإمامة من السلف، أولئك كلهم ليسوا عند أبي رية علماء، لأنهم لم يكونوا يخوضون في غوامض المعقول، بل يفرون منها وينهون عنها ويعدونها زيفًا وضلالًا وخروجًا عن الصراط المستقيم، وقنعوا بعقل العامة!

وأقول: مهما تكن حالهم فقد كانوا عقلاء العقل الذي ارتضاه الله لأصحاب رسوله ورضيهم سبحانه لمعرفته ولفهم كتابه، ورضي ذلك منهم… ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟ أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث، فالمتثبتون إذا سمعوا خبرًا تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته[18].

وقال الإمام مسلم رحمه الله: الجاهل ينكر العلم لتركيب الجهل فيه وضد العلم هو الجهل فكل ضد نافٍ لضده دافع له لا محالة، فلا يهولنك استنكار الجهال وكثرة الرعاع لما خُص به قوم وحرموه فإن اعتداد العلم دائر إلى معدنه والجهل واقف على أهله[19].

ولقد كان الأئمة النقاد رحمهم الله شديدي التحري في الرواية والنقد وقبول الأحاديث وردها، فقال المعلمي رحمه الله: يقولون للخبر الذي تمتنع صحته أو تبعد: منكر أو باطل، وتجد ذلك كثيرًا في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات، والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثًا حديثًا، فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطًا، نعم ليس كل من حكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتًا، ولكن العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك، هذا وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث أن منها أحاديث تثقل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقة للعقل المعتد به في الدين، مستكملة شرائط الصحة الأخرى، وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثقلت هي أيضًا على المتكلمين، وقد علموا أن النبي كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جدًا أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات[20].

فكانوا حريصين أشد الحرص على تنقية الأحاديث وعلى معرفة عللها، وأصبح علم العلل علمًا قائمًا برأسه، وقد ذكر الحاكم: أن معرفة علل الحديث علم برأسه غير معرفة السقيم والجرح والتعديل[21].

وقال عبدالرحمن بن مهدي: لأن أعرف علة حديث واحد أحب إلي من أن أستفيد عشرة أحاديث، وقال: معرفةُ الحديثِ إلهامٌ[22].

لذلك فإن علم العلل من الأهمية بمكان وهو عزيز جدًا لم يتقنه إلا القلائل، ويزيد هذا العلم أهمية أنه من أشد العلوم غموضًا، فلا يدركه إلا من رزق سعة الرواية، وكان مع ذلك حاد الذهن ثاقب الفهم دقيق النظر واسع المران[23].

قال أحمد بن صالح: معرفة الحديث بمنزلة الذهب والشبه فإن الجوهر إنما يعرفه أهله، وليس للبصير فيه حجة[24].

لذلك فإن وجود العارفين في فن العلل بين العلماء عزيز، وأهله المحققون به أفراد يسيرة من بين الحفاظ وأهل الحديث، وخص الله بمعرفة هذه الأخبار نفرًا يسيرًا من كثير ممن يدعي علم الحديث[25].

ومعرفة العلل من أجل أنواع علم الحديث[26]، وأدقها وأشرفها، وإنما يضطلع بذلك أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب، وهي عبارة عن أسباب خفية غامضة قادحة فيه، فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها[27].

قال أبو حاتم: جرى بيني وبين أبي زرعة يومًا تمييز الحديث ومعرفته فجعل يذكر أحاديث ويذكر عللها، وكذلك كنت أذكر أحاديث خطأ وعللها وخطأ الشيوخ، فقال لي يا أبا حاتم قل من يفهم هذا، ما أعز هذا… وجرى عنده – أبو حاتم – معرفة الحديث، فقال: الذي كان يحسن هذا، يعني أبا زرعة، وما بقي بمصر ولا بالعراق أحد يحسن[28].

فعلم العلل دقيق المنزع وعر المسلك، ولهذا قيض الله له هؤلاء الجهابذة ممن أوقفوا أعمارهم عليه كما قال الرشيد لأحد الوضاعين: فأين أنت يا عدو الله من أبي إسحاق الفزاري، وابن المبارك ينخلانها، فيخرجانها حرفًا حرفًا[29].

وكانوا رحمهم الله تعالى حراسًا أمناء وحفظة صالحين على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرفونه فإن له نورًا ووضحًا كوضح النهار ويعرفون ما يخرج من مشكاة النبوة من غيره، فإن للحديث ضوءًا كضوء النهار تعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره[30].

وهذه مقارنة بين أئمة الرواية، وأئمة الغواية في العناية بالمتون والألفاظ وأمثلة لذلك:

قال البخاري رحمه الله بعد أن روى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن أمتي أمة مرحومة، جعل عذابها بأيديها في الدنيا». قال: والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة، وأن قومًا يعذبون، ثم يخرجون، أكثر وأبين وأشهر[31]، فانظر إلى دقة الفهم والمعرفة في تعليل الأحاديث.

وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يهلك أمتي هذا الحي من قريش»… قال: «لو أن الناس اعتزلوهم». قال الإمام أحمد لولده: اضرب على هذا الحديث فإنه خلاف الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يعني قوله: «اسمعوا وأطيعوا واصبروا»[32]، فالأحاديث تأمر بالصبر وليس الاعتزال.

وكذلك ما روي عن عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة، قال الدارقطني: وليست هذه اللفظة محفوظة وهي: «وسنة نبينا»[33].

كذلك ما وقع في صحيح البخاري من بعض الألفاظ التي هي غلط من الرواة ولا ريب، قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما الجنة فيبقى فيها فضل، فينشئ الله لها خلقًا». هكذا روي في الصحاح من غير وجه، ووقع في بعض طرق البخاري غلط قال فيه: «وأما النار فيبقى فيها فضل»، والبخاري رواه في سائر المواضع على الصواب ليبين غلط هذا الراوي، كما جرت عادته بمثل ذلك إذا وقع من بعض الرواة غلط في لفظ، ذكر ألفاظ سائر الرواة التي يعلم بها الصواب، وما علمت وقع فيه غلط إلا وقد بين فيه الصواب[34].

وكذلك حديث وائل بن حجر رضي الله عنه في تحريك الأصبع في التشهد والصحيح الإشارة بالأصبع. فهذا الحديث بهذا السند ظاهره الصحة، ولكن لفظة تحريك الأصبع شاذة، والذي شذ بهذه اللفظة هو الثقة الثبت زائدة بن قدامة[35].

ومنها: حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للمستحاضة: «دعي الصلاة أيام أقرائك». قال أحمد: كل من روى هذا عن عائشة فقد أخطأ، لأن عائشة تقول: الأقراء الأطهار، لا الحيض[36].

قال ابن القيم رحمه الله: ومن ذلك أحاديث الحناء وفضله والثناء عليه وفيه جزء لا يصح منه شيء وأجود ما فيه حديث الترمذي: «أربع من سنن المرسلين السواك والطيب والحناء والنكاح»، وسمعت شيخنا أبا الحجاج المزي يقول: هذا غلط من بعض الرواة وإنما هو الختان بالنون… فرواها بعضهم الحناء وبعضهم الحياء وإنما هو الختان[37].

وبهذا يتبين أن علم الحديث ليس تلقينًا وإنما هو علم يحدثه الله في القلب أشبه الأشياء بعلم الحديث معرفة الصرف ونقد الدنانير… وكذلك تمييز الحديث فإنه علم يخلقه الله تعالى في القلوب بعد طول الممارسة له والاعتناء به[38].

أما أن يأتي غمْرٌ متكئٌ على أريكته مسترخٍ في فضائيته وقد صبغ وجهه بالمساحيق كالغانيات وفرغ قلبه من خشية الله ولم يوقر نبيه ولم يهب الخوض في الوحي – حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم – ولا يستطع أن ينطق أسماء الرواة نطقًا صحيحًا، ويذكر أن علم الحديث علم تافه ويستطيع أي إنسان أن يتعلمه في شهر أو شهرين، ولم يدرِ المغرور أن العلوم عامة ونقد الأحاديث خاصة لا تنال براحة الجسد فإن تعطِ العلم كلك يعطك بعضه، لكن من فرغ قلبه من خشية الله وأتبع النفس هواها سهل عليه الطعن في الأحاديث، وعارضها برأيه بزعم أنها تخالف جهالات خيمت على عقله وسخافات وأوهام سماها معقولات، كما يسمي أهل الفسق الخمر «مشروبات روحية»، وحسبوا أنهم على شيء، وهم إنما يرددون ترهات المعتزلة، وهلاوس الجهمية، واجتروا أحقاد المستشرقين والحداثيين.

 فنقد الأحاديث علم له أهله ورجاله:

خلق الله للمعالي رجالًا

ورجالًا لقصعة وثريد

فهؤلاء العلماء النقاد قد طافوا البلاد وسمعوا الأحاديث، فأحمد بن حنبل رحل من بغداد إلى صنعاء اليمن ليسمع من عبدالرزاق، والبخاري رحل من بخارى إلى بغداد والشام والحجاز ومصر، وما الطعن في الإمام البخاري إلا للطعن في صحيحه وإنّ جرح شهود الشرع جرح للمشهود به[39]، وهؤلاء النقاد شهد لهم القاصي والداني بالفهم والمعرفة، فأهل الحديث من مفاخر الدنيا، قال العالم الألماني «أشبره نكر»: إن الدنيا لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين فقد درِّس بفضل علم الرجال الذي أوجدوه حياة نصف مليون رجل[40].

أسأل الله أن ينير بصائرنا وأن يشرح صدورنا للحق، اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسِّكنا بالإسلام حتى نلقاك. اللهم صل على محمد وآله وصحبه والحمد لله رب العالمين.

:: مجلة البيان العدد  341 مـحـرّم  1437هـ، أكتوبر – نوفمبر  2015م.


[1] انظر: سنن الدارمي (1/ 474) ( 608) .

[2] انظر: «الكفاية في علم الرواية» للخطيب (ص: 12).

[3] انظر: مسند أحمد (28/ 410) ( 17174)، سنن أبي داود (4604).

[4] انظر: «شرح معاني الآثار» للطحاوي (4/ 209).

[5] انظر: مسند أحمد (4/132) (17326) ، الترمذي (2664) .

[6] انظر: «الشافي في شرح مسند الشافعي» لابن الأثير (5/ 551).

[8] انظر: «تأويل مختلف الحديث» (ص: 245-246).

[9] انظر: «الإحكام» لابن حزم (1/ 121).

[10] انظر: «جامع البيان» لابن جرير (22/ 7-8).

[11] انظر: «الفقيه والمتفقه» للخطيب (1/ 453).

[12] انظر: صحيح البخاري (1/ 26)، والقصة أخرجها أحمد في «مسنده» (25/ 431)(16042)، والبخاري في «الأدب المفرد»(970).

[13] انظر: الأنوار الكاشفة (ص: 90).

[14] العلامة المعلمي رحمه الله من كبار النقاد في هذا العصر وكتابه «التنكيل» من مفاخر المسلمين وكتابه الآخر «الأنوار الكاشفة» مفخرة عظيمة وكلا الكتابين رد على أهل الأهواء في الطعن على الأحاديث، فلا يخدعن طالب العلم عامة والمتخصصون في الحديث خاصة عن هذين الكتابين وإدمان النظر فيهما.

[15] انظر: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (1/ 1-2) .

[16] انظر: «أضواء على السنة المحمدية» محمود أبو رية (ص: 7).

[17] انظر: «ظلمات أبي رية» محمد عبدالرزاق حمزة (ص: 7).

[18] انظر: «الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص: 7-8).

[19] انظر: «التمييز» لمسلم (ص: 169).

[20] انظر: «الأنوار الكاشفة» (ص: 9).

[21] انظر: «معرفة علوم الحديث» (ص:112).

[22] انظر: «علل الحديث» لابن أبي حاتم (1/ 388).

[23] انظر: «أثر علل الحديث في اختلاف الفقهاء» (ص: 45)

[24] انظر: «الجرح والتعديل» (2/96).

[25] انظر: «شرح علل الترمذي» لابن رجب (1/339-340).

[26] انظر: «الجامع لأخلاق الراوي» للخطيب (2/ 294).

[27] انظر: «مقدمة ابن الصلاح» (ص: 90).

[28] انظر: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (1/ 356).

[29] انظر: «تاريخ دمشق» لابن عساكر (7/ 127).

[30] انظر: «الزهد» لأحمد بن حنبل (ص: 274) ح(1986).

[31] انظر: «التاريخ الكبير» (1/ 37، 38).

[32] انظر: «مسند أحمد» (3/ 1755) ( 8120).

[33] انظر: «علل الدارقطني» (2/ 140) ( 164).

[34] انظر: «منهاج السنة النبوية» (5/ 101-102).

[35] انظر: «أحاديث معلة ظاهرها الصحة» (ص: 389).

[36] انظر: «شرح علل الترمذي» (1/ 159).

[37] انظر: «المنار المنيف» (ص: 131) ( 295).

[38] انظر: «الجامع لأخلاق الراوي» للخطيب (2/ 255).

[39] انظر: «تصنيف الناس» بكر أبو زيد (ص: 44).

[40] انظر: «موقف العقل والعلم» مصطفى صبري (4/ 59).

(المصدر: مجلة البيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى