مقالاتمقالات مختارة

دور الخلاف الفقهي في مواجهة التشدد

دور الخلاف الفقهي في مواجهة التشدد

بقلم د. محمد أحمد حسين

الخلاف من طبيعة البشر التي جبلوا عليها؛ لاختلاف عقولهم وأفهامهم، قال تعالى {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين} (هود: 118). واختلف الصحابة في كثير من الأحكام الفقهية، وهم أفضل هذه الأمة، وكذلك اختلف من جاء بعدهم.

ومع التسليم بحقيقة الخلاف الفقهي، إلا أن مقصد الشريعة السمحة النهي عن الاختلاف المذموم الذي يؤدي إلى التنطع والتشدد في الدين.

وموضوع الخلاف الفقهي من الموضوعات الدقيقة والعميقة التي لا يستغني عن الاطلاع عليها عالم متبحّر في أحكام الشريعة الإسلامية، فضلاً عن طلبة العلم الشرعي.

ولقد تقرر عند العلماء والفقهاء أن الاختلاف في الفروع يفيض على الأمة رحمة وتوسعة، ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعاً بذلك، بل يرى الخليفة عمر بن عبدالعزيز، بما أوتي من علم وبصيرة، في اختلاف الصحابة سعة ورحمة، فيقول: «لا يسرني أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا؛ لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن رخصة» (المناوي، فيض القدير 1/209).

أي أنهم باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم، كما أنهم سَنّوا لنا سنّة الاختلاف في القضايا الاجتهادية، وظلوا معها إخوة متحابين.

ومما ينبغي الحرص عليه في مواجهة التشدد وإزالة الجفوة، اتباع المنهج الوسط، الذي يتجلى فيه التوازن والاعتدال، بعيداً عن طريق الغلو والتفريط، وهو الصراط المستقيم، الذي نسأل الله أن يهدينا إليه كل يوم في صلاتنا {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة: 6).

وكذلك من لوازم اتباع المنهج الوسط في الخلاف الفقهي، تجنب التنطع في الدين والأحكام، وهذا التنطع هو الذي أنذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهلاك، فروى عنه ابن مسعود رضي الله عنه قال “هلك المتنطعون” قالها ثلاثاً (مسلم 4/2055، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون)، قال النووي في شرحه: المتنطعون أي المتعمقون، الغالون، المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم (مسلم 16/220).

فتيسير الصحابة والسلف وإنكارهم على المتنطعين، جعلهم يتسامحون في الفروع الجزئية، ولا تضيق صدورهم بالخلاف فيه، بل كانوا ينكرون على من يجعل البحث عن هذه الأمور شغله الشاغل، ولا يرحبون بهذا النوع من السؤال، الذي لا يأتي من ورائه إلا التشدد.

ومما يساعد على التسامح وتبادل العذر فيما اختلف فيه، وعدم التشدد، الاطلاع على اختلاف العلماء؛ ليعرف منه تعدد المذاهب وتنوع المآخذ والمشارب، وأن لكل منهم وجهته وأدلته التي يستند إليها ويعوّل عليها، وكلهم يغترف من بحر الشريعة، وما أوسعه؛ من أجل ذلك أكد العلماء على وجوب العلم باختلاف الفقهاء كوجوب العلم بما أجمعوا عليه، فإن اختلافهم رحمة، واتفاقهم حجة.

وأخيراً إذا أريد للخلاف الفقهي أن يواجه التشدد والتطرف فلا بد من الإخلاص لله عز وجل والتجرد من الأهواء، وأن يكون التجرد للحق وحده، وأن يتحرر المرء من التعصب لآراء الأشخاص، وأقوال المذاهب، وانتحالات الطوائف، فلا يقيّد نفسه بالدليل، فإن لاح له بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذي يعتنقه، أو قول الإمام الذي يعظمه، أو الطائفة التي ينتسب إليها، لقوله تعالى {قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} (النور 54).

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى