مقالاتمقالات مختارة

الأمراء العلماء.. المنصور يترجم لأرسطو ويأمر مالكا بجمع الموطأ وصلاح الدين يروي الحديث وسلطان مغولي “يقنن” الفقه بالهند

الأمراء العلماء.. المنصور يترجم لأرسطو ويأمر مالكا بجمع الموطأ وصلاح الدين يروي الحديث وسلطان مغولي “يقنن” الفقه بالهند

بقلم أحمد مولود أكاه

تعدّ المعلومات والسِّيَر الذاتية الخاصة بالزعماء والقادة مثار اهتمام عام، كما تتصل اتصالا وثيقا بطبيعة أنظمة الحكم وسياساتها؛ واليوم نستعرض لونا خاصا من هذه المعلومات والسِّيَر، عِمادُه رصد البُعد العلمي للعديد من السلاطين الذين عرفتهم مسيرة الحكم طوال التاريخ الإسلامي، وذلك استبصارا بأنماط من التفاصيل ذات الدور الحضاري، ومتابعة لأوجه معيّنة من الصورة التاريخية لأنظمتنا السلطانية، وسياحة في تراث ثقافي ثريّ وفسيح.

نفتح من خلال هذه المادة زاوية خاصة نتسوّر منها قصور الخلافة وندخل ميادين الحُكم، لنعاين كيف جمع عدد من الخلفاء والحكام والسلاطين المسلمين بين كرسي العالم وعرش السلطان، وبين القلم والصولجان، وبين عمامة الفقه وتاج الإمارة؛ فكان ذلك حلقة ذهبية في منظومة الحكم الإسلامي التي تعجّ بصور القادة الذين ورَّثوا فتاواهم وأسانيد رواياتهم للأحاديث، وقادوا مشاريع علمية وحضارية ضخمة هي الأولى من نوعها، كمبادرة تدوين الحديث النبوي والفقه وآداب العرب، ومشاريع إقامة مراصد فلكية وقياس محيط الأرض، وإنشاء أكبر جامعة في القرون الوسطى.

وبين يدي الاستعراض لمسيرة السلطة في الحضارة الإسلامية في شقها المتصل بطبقة الأمراء العلماء الذين مثّلوا فئة خاصة في سلاسل سلاطين الإسلام المتعاقبة؛ لا يخفى أن التنظير الفقهي الإسلامي لم يزل -منذ وقت باكر- يشير إلى جعل “شرط العلم” من محدِّدات الأهلية لولاية الحُكم، وهو ما لخصه عبد القاهر البغدادي (ت 429هـ/1037م) -في كتابه ‘الفَرْق بين الفِرَق‘- بقوله إن العلماء “أوجبوا من العلم له (= الخليفة) مقدار ما يصير به من أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية”.

غير أننا نُدرك أن الهمّ العلمي مسارُ حياة يتطلب من ذويه تفرغا واهتماما، تماما مثلما أن الحُكْم ممارسة تدبيرية يقتضي خوضُ غمارها الاتصالَ بالدروب المؤدية لإتقان إدارة شؤون الحُكم، ومن هنا قد تزداد الفجوة بين الهمّيْن في المسعى الشخصي الواحد أو تتقارب بما يشكل حالة لافتة، وهو ما نجده في فئة “الأمراء العلماء” التي جمعت بين وظيفتيْ العِلْم والحُكْم، بما كان يُنْشِئ أحيانا تزاحما -بل وصراعا- داخل شخصية “السلطان العالم”، فيعرّضه ذلك لامتحان عسير جدا على صعيد قِيَم العلم ومقتضيات الحُكم!

إننا -في هذه الإضاءة- لا ننطلق من مبتدأ تاريخ الإسلام، إذ إن المكانة العلمية لخلفاء النبي صلى الله عليه وسلم مما عُلِم تاريخيا بالضرورة، كما أننا لم نتوخَّ الاستيعابَ لأن هذه الظاهرة الفريدة تستعصي على الإحاطة والحصر؛ ولكننا آثرنا انتقاء عشرين نموذجا معبّرا عنها من مشاهير سلاطين حضارة الإسلام، خمسة منهم كانوا المؤسِّسين الفعليين لدولها المركزية الكبرى في القرون السبعة الأولى من تاريخها، وجميعُهم يمثلون بامتياز -عرقيا وطائفيا وجغرافياً وزمانيا- هذه الحضارة العظيمة، وتلك الظاهرة الثقافية التي تثير لدينا مفارقات عديدة ونحن نستحضر المستوى التعليمي والثقافي لغالبية حكام المسلمين اليوم!!
اقتران مبكر
انفجر ينبوع العلم في بلاد الإسلام باكرا فانكبَّ أبناء مجتمعاتها على مجاليْ الرواية والدراية لمحتوى الوحييْن، ممزوجا ذلك بمشكاة الثقافة العربية وما تعتّق فيها من الشعر والأدب، فأنتج ذلك حركة علمية زاخرة وواقعا معرفيا ظلَّ متاحا للكلّ أن يأخذ منه بنصيب، وفي هذه الأجواء ظهرت أولى الطلائع -مما بعد عهد الصحابةـ للسلاطين الذين أحرزوا عِلما ونالوا حُكما.

في بدايات تجوالنا في بلاطات الدول الإسلامية المتعاقبة شرقا وغربا؛ نبدأ تطوافنا ببلاط الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/705م) الذي امتلك صيتا تاريخيا ساهمت روافعُ العلم في تشييده وإعلاء منسوبه، إذ اتفقت كتب التراجم والتاريخ على التنويه بمنزلته العلمية التي نالها من تلمذته على كبار علماء الصحابة؛ فقد ذكر ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- أنه “روى الحديث عن [صحابة مثل].. أبي سعيد الخدري (ت 74هـ/694م)، وأبي هريرة (ت 59هـ/680م)، وابن عمر (ت 73هـ/693م)..، وروى عنه [هو] جماعةٌ”.

وإذا كانت مدة حكمه -طوال 21 عاما- حفلت بثورات مسلحة عاتية استغرق إخمادُها اهتمامَه؛ فإن التميز المعرفي ظل ملمحا مهما في تجربته قبل توليه الحكم وبعده. ويتجلى هذا البعد في صورة عبد الملك لدى نظرائه من العلماء؛ إذ كانوا يعدّونه منافسا قويا في ضروب العلم، ومن ذلك ما رواه ابن كثير عن الإمام الشَّعبي (ت 103هـ/724م) من قوله: “ما جالست أحدا إلا وجدتُ لي الفضلَ عليه إلا عبد الملك بن مروان، فإنني ما ذاكرته حديثا إلا زادني فيه ولا شعرا إلا زادني فيه”!

ووفقا للحافظ ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) في ‘تاريخ دمشق‘؛ فقد شهد نافع مولى ابن عمر (ت 117هـ/736م) بحقه قائلا: “لقد رأيتُ المدينة ما فيها شابٌّ أشدُّ تشميراً ولا أفقه ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان”، ونقل عن الأصمعي (ت 216هـ/831م) إشادةً من الحسن البصري (ت 110هـ/728م) بخُطبة ألقاها عبد الملك فقال عنها: “لو كان كلام يُكتب بماء الذهب لكان هذا الكلام”!  ولعل من أعظم الدلالات على سموّ مكانته الفقهية أن الإمام مالك بن أنس (ت 179هـ/796م) أورد -في ‘الموطأ‘- عددا من آرائه الفقهية بجانب فتاوى كبار الصحابة والتابعين.

ومثلما حافظ عبد الملك على المواءمة بين الهم العلمي وشؤون الحكم؛ فإن ابن أخيه الخليفة عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) ظلّ أحد أرباب العلم، رغم مسار المناصب الذي سلكه منذ تعيينه واليا على المدينة والطائف، ثم عمله وزيرا ومستشارا في بلاط الخليفة، حتى إذا وصل إلى عهد الخلافة كان جمْعُه العلمَ مع السياسة العادلة بوابتَه إلى خلود اسمه في التاريخي، بوصفه “خامس الخلفاء الراشدين” و”معلم العلماء”.

فقد نعته الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘سير أعلام النبلاء‘- بأنه “العلامة الحافظ.. كان من أئمة الاجتهاد…، جيدَ السياسة حريصا على العدل بكل ممكن، وافرَ العلم فقيهَ النفس..، وعُدَّ عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين والعلماء العاملين”! ونقل ابن كثير عن التابعي مجاهد بن جَبْر (ت 104هـ/723م) قوله: “أتينا عمر نعلُّمه فما خرجنا من عنده حتى تعلمنا منه”!!

وخلص الإمام ميمون بن مهران (ت 117هـ/735م) إلى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان “معلم العلماء”؛ حسب ابن سعد (ت 230هـ/845م) في ‘الطبقات الكبرى‘. وهذا تقييم يتلاقى مع مكانته العلمية العالية التي يُسْفر عنها إيراد الإمام مالك للعشرات من أقضيته وفتاواه في ‘الموطأ‘.

توازن لافت
ويطوي التاريخ صفحات الخلافة الأموية بخلفائها العلماء، لكن نظراءهم من الحكّام المهتمين بالعلم واصلوا الظهور في دولة العباسيين التي أطاحت بهم؛ فها هو خليفتها الثاني المنصور (ت 136هـ/775م) يولّي وجهَه صوب مناهل معرفة زمانه قبل تقلُّده السلطة، فقد ذكر ابن كثير أن المنصور “كان في شبابه يطلب العلم من مظانِّه والحديث والفقه، فنال من ذلك جانبا جيدا وطَرَفاً صالحا”، ويذكر الصولي (ت 335هـ/946م) -في ‘تاريخ الخلفاء‘- أن المنصور “كان أعلم الناس في زمانه بالحديث والأنساب “!

أما الذهبي -في ‘السِّيَر‘- فقد لخص لنا بدقة صفات المنصور الدالة على جمعه بين المعرفة والإمارة؛ فقال إنه كانت “تخالطه أبَّهة الملك بِـزِيّ النُّساك..، وكان فحلَ بني العباس هيبةً وشجاعة، ورأيا وحزما ودهاءً وجبروتا، وكان جمَّاعا للمال حريصا..، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم. أباد جماعة كبارا حتى توطد له الملك ودانت له الأمم..، وكان حاكما على ممالك الإسلام بأسرها سوى جزيرة الأندلس”!!

وقد شكّلت الصورة العلمية للحكام نافذة تواصل بين السلطة الحاكمة والعديد من الجماعات والأفراد داخل الدولة، وترَك هذا التواصلُ أثره على المشهد العام والسياسات الرسمية والمجال العلمي، فالقاضي عياض (ت 544هـ/1149م) يفيدنا -في ‘ترتيب المدارك‘- بأن “أبا جعفر المنصور قال لمالك [بن أنس] ضَعْ للناس كتابا أحْمِلُهم عليه، فكلّمه مالك في ذلك؛ فقال (المنصور): ضَعْهُ فما أحد أعلم منك”! فكان ذلك -في إحدى الروايات- سبب تأليفه كتاب ‘الموطأ‘.

ويبدو أن المنصور أراد أن يكون متوازنا في سياساته التعليمية، فاهتمّ بامتلاك كتب العلوم وجمَع التراجمة وكلَّفهم بنقلها إلى العربية؛ فكان بذلك -كما يقول الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘- “هو أول خليفة تُرجِمت له الكتب السريانية والأعجمية ككتاب ‘كليلة ودمنة‘، وكتاب أرسطاطاليس (= الفيلسوف أَرِسْطُو ت 322ق.م) في المنطق، وإقليدس (ت 265ق.م) وكُتُب اليونان؛ فنظر الناس فيها وتعلقوا بها، فلما رأى ذلك محمد بن إسحق (صاحب ‘السيرة النبوية‘ ت 151هـ/768م) جمع المغازي والسِّيَر”. كما يخبرنا السيوطي (ت 911هـ/1506م) كذلك -في ‘تاريخ الخلفاء‘- بأن المنصور هو “أول خليفة قرّب المنجّمين وعمل بأحكام النجوم”.

ولم تكن جهود الترجمة تلك لتستمر بنجاحها المتعاظم دون أن يُنشأ لها إطار علمي مؤسسي يحضنها ويمدها بأسباب النمو والبقاء؛ وهنا تلاقينا البذرة الأولى لمشروع “بيت الحكمة”؛ ذي الإشعاع الحضاري البرّاق والذي قام على جمع أسفار المعارف والثقافات. فقد كان الخليفة العباسي المنصور -بحكم خلفيته العلمية- من المهتمين بجمع نفائس الكتب وصحائف المرويات، وكانت له ضمن مقتنياته الشخصية دفاتر وصحفٌ يقيّد فيها الفوائد العلمية، يخبرنا عنها الإمام الطبري بقوله: “وكان له سَفَطٌ (= وعاء من قَصَب) فيه دفاتر علمه، وعليه قفلٌ لا يأمن على فتحه ومفتاحه أحدا”!!

اغترابٌ مؤسِّس
وتزامنا مع الحضور العلمي والسلطاني للخليفة المنصور؛ كان هناك في بلاد الأندلس منافسه الأمير الأموي عبد الرحمن الداخل (ت 172هـ/788م)، مقدِّما نموذجا ضمن قائمة الأمراء ذوي العلم الذين اضطلعوا بأعباء تأسيس دول عظيمة في تاريخ الإسلام، على غرار جده عبد الملك بن مروان والمنصور العباسي.

فلمْ يكن سليلُ الخلافة الأموية -يوم طوّح مغرِّباً- مجردَ أرستقراطي تقلبت به الظروف، وعكست الأيامُ ظهرَ المِجَنِّ لأسرته التي كانت تتزعم قيادة العالم الإسلامي؛ وإنما كان نفْحا أدبيا منصهرا بتجربة الاغتراب التي عاشها، وهو ما يشير إلى انتمائه الثقافي الذي ترجَمه في قالب إبداعي شعري ذائع في مرويات الأدب العربي، فقد روى ابن عميرة الضبي الأندلسي (ت 599هـ/1203م) -في ‘بُغْية المُلْـتمِس‘- أن “مِن شعره يتشوق إلى معاهده بالشام” قوله:
أيها الراكبُ المُيَمِّمُ أرضــــي ** أقْرِ مِن بعضيَ السلامَ لبعضي
إن جسمي كما علمتَ بأرضٍ ** وفـــؤادي وساكِـــــنِيه بأرض!

غير أن الشهادة الأهم للمكانة العلمية للأمير الداخل تضمنتها كتب التراجم؛ إذ قال الذهبي في ‘السِّير‘: “كان عبد الرحمن من أهل العلم”، هذا مع استحضار حداثة سِنَّه -وهو في الخامسة والعشرين- حين أمسك بزمام حكم الأندلس على النحو الذي شرحه غريمُه السياسي المنصور العباسي حين بلغه تملُّكُه فيها؛ فقال وفقا للذهبي: “ذاك صقر قريش! دخل المغرب وقد قُـتِل قومُه، فلم يزل يضرب العدنانيةَ بالقحطانية حتى مَلَكَ”!!

وإذا كان لافتا أن ظاهرة الحكام العلماء حافظت أحيانا على الانتقال من الملوك إلى أولياء عهودهم؛ فإننا واجدون نماذج مبكرة لذلك في العصر الأول للدولة العباسية، وأولها شخصية الخليفة المهدي العباسي (ت 169هـ/786م) الذي يحكي الذهبي أنه “لما اشتدّ [عُودُه] ولَّاه أبوه [المنصور] مملكة طبرستان وقد قرأ العلم وتأدَّب وتميَّز”!

ومن نتائج تميز المهدي الأدبي ما يرويه شيخ المؤرخين الطبري (ت 310هـ/922م) عن إمام الأدب المفضَّل الضبي (ت بعد 171هـ/788م)؛ مِن أن الخليفة المهدي قال له: “اجمع لي الأمثال مما سمعتَها من البَدْو وما صح عندك، قال: فكتبت له الأمثال وحروب العرب”. وذلك فضلا عن العلاقة بين كتابه ‘المفضَّليات‘ والمهدي التي تضيء البعدَ الأدبي في تكوين هذا الخليفة، وتُبرز علاقةَ بعض الشخصيات الثقافية ودوائر الحكم.

كما كانت الأسبقية إلى مجال تأليف الكتب للرد على المخالفين أحد عناوين التأثير الثقافي والعلمي للخلفاء العلماء، وقد تم تسجيلها أيضا للمهدي العباسي؛ حيث أورد السيوطي أن “أول من أمر بتصنيف الكتب في الرد على المخالفين [هو] المهدي”، وبهذا الإجراء دشّن هذا الخليفة العباسي -أمام المؤلفين- دربا عريضا يصعب أن يخلو في آن من المرتادين!

أسانيد سلطانية
عندما وصل الخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ/799م) إلى سدة الحكم، بعد أن صار من العلم بمكان وصفه ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- بقوله إن الرشيد “نال علما كثيرا”؛ شهد القطاع الثقافي في الدولة مزيدا من النهوض تجسد في المشروع العلمي الذائع الصيت: “بيت الحكمة” الذي تعود بذرته الأولى إلى أيام جده المنصور كما رأينا. ولكن بتسلم الرشيد مقاليد السلطة ازداد منسوب الاهتمام بالكتب فجُمعت في خزانة، ووُضع المشروع على مدارج الإقلاع منطلقا إلى آفاق ظلت تتوسع باستمرار حتى عهد الخليفة المتوكل (ت 247هـ/861م).

ويُفهم مما أورده النديم (ت 384هـ/973م) -في ‘الفِهْرِستْ‘- أن “بيت الحكمة” لم يكن موجودا قبل الرشيد، إذ قال في ذكره لأخبار علّان الشُّعوبي الورّاق (ت بعد 218هـ/833م) إنه كان “مُنقطِعا إلى البرامكة وينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون (ت 218هـ/833م) والبرامكة”. ولذلك يقول محمد كرد عليّ (ت 1373هـ/1953م) -في ‘خطط الشام‘- إنه “لم يُعرف قبل عهد الرشيد والمأمون أن الكتب جُمعت في خزانة وسُميت دار الحكمة أو بيت المعرفة، وكانت تلك الدار أشبه بجامعة” تضم بين جنباتها أفانين الفنون وثمار المعارف.

وقد روى الرشيد الحديث عن مالك بن أنس؛ بل إن السيوطي يقول إنه “رحل بولديْه الأمين (ت 198هـ/813م) والمأمون لسماع الموطأ على مالك..، وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد في خزانة المصريين (= مكتبة الفاطميين)” بالقاهرة. وكان يروي الأحاديث في خطبه بسندها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما استمرت في عهده صفة منافسة الخليفة للعلماء في المعارف والآداب.

إذ ينقل الطبري أن أبا سعيد بن مسلم (ت 200هـ/815م) قال “كان فهم الرشيد فوق فهم العلماء”!!  وكان في مجال الأدب والشعر خصوصا ذا رسوخ؛ فقد نقل الأصفهاني (ت 356هـ/967م) -في كتابه ‘الأغاني‘- أن الرشيد كان “يحفظ شعر ذي الرمة (ت 117هـ/735م) حفظَ الصبا (= حفظا راسخا)، ويُعجِبه ويُؤْثِره”.

ومن التجليات ذات الصلة بدور المكوِّن العلمي لدى السلاطين، في صعود بعض الأسماء العلمية، وأخذها دورا بارزا في الدولة؛ ما حصل للقاضي أبي يوسف (ت 182هـ/798م) مع الرشيد، إذ نقرأ فيه شهادة الذهبي بشأن علمه ومكانته عنده: “قلتُ: بلغ أبو يوسف من رئاسة العلم ما لا مزيدَ عليه، وكان الرشيد يبالغ في إجلاله”! ولذلك جعَله أولَ من تولى منصب قاضي القضاة في تاريخ الإسلام.

ويحدثنا أبو يوسف -في كتابه ‘الخراج‘- عن سياق تأليفه إياه ليصبح فاتحة كُتُب هذا الفن، الذي يعالج موضوعا حيويا في تسيير الحُكم وهو قواعد المالية العامة للدولة مواردَ ونفقاتٍ؛ فيقول: “إن أمير المؤمنين [هارون].. سألني أن أضع له كتابا جامعا يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي (= ضريبة الجزية)”.

تنشئة خاصة
وبشكل عام؛ لم تكن تلك بواكيرَ المشاريعِ الوثيقة الصلة بالوجدان العلمي لهذه الطبقة من السلاطين، فبداية هذا النهج -الموسوم بانعكاس الخلفية العلمية للسلطان في مجال السياسات والمؤسسات- ترجع إلى زمنٍ أسبق حين ظهر أولُ مشروع لتدوين الحديث النبوي، فكان “أول من دوّن الحديثَ [الإمام التابعي] ابنُ شهاب الزهري (ت 124هـ/743م) على رأس المئة (= 100هـ/719م) بأمرِ عمرَ بن عبد العزيز، ثم كثُر التدوين ثم التصنيف”؛ وفقا للحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) في ‘فتح الباري‘.

تَمثَّل الرشيدُ إذن العلمَ ففسح له في سياساته حين تولى القيادة دعما واهتماما، ومن مظاهر ذلك ما حدَّث به ابن قتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/898م) من أن الرشيد “كتب إلى الأمصار كلها وإلى أمراء الأجناد: أما بعد، فانظروا من التزم الأذان عندكم فاكتبوه في ألف [دينار] من العطاء (= الراتب)، ومن جمع القرآن وأقبل على طلب العلم وعَمرَ مجالس العلم ومقاصد الأدب فاكتبوه في ألفيْ دينار من العطاء، ومن جمع القرآن وروى الحديث وتفقه في العلم واستبحر فاكتبوه في أربعة آلاف دينار (= اليوم 700 ألف دولار تقريبا) من العطاء”.

وفي غمرة المعطيات التي تفصح بجلاء عن التكوين العلمي للخلفاء ذوي العلم، يكون الحديث عن الآلية التي كانت وراء نجوميّتهم المعرفية أمرا من صميم السياق، وهنا يحتل الحديث عمن عُرفوا بفئة ‘المُؤَدِّبين‘ جُلَّ المساحة، خاصة إذا تعلق الأمر بالأمراء الذين نشؤوا داخل القصور في أكناف آبائهم من الخلفاء، حيث كان للمؤدبين -من طراز أئمة اللغة: الكسائي (ت 189هـ/805م) والمفضّل الضَّبي وقُطْرب (ت 206هـ/821م) والفَرّاء (ت 207هـ/823م)- الدورُ الأكبر في صناعة ورَفْد الجانب العلمي لعدد من الخلفاء والسلاطين.

وقد أورد مصطفى الرافعي (ت 1356هـ/1937م) -في ‘تاريخ آداب العرب‘- أن معبد بن خالد الجهني (ت 80هـ/699م) والإمام الشَّعبي كانا يعلِّمان أولاد عبد الملك بن مروان، وأضاف: “هما أقدم المؤدِّبين فيما وقفنا عليه”. وأما عن أوليتهم بالغرب الإسلامي؛ فيفيدنا الفيروزآبادي (ت 817هـ/1416م) -في كتابه ‘البُلْغَة‘- بأن “جُودي بن عثمان النحوي (العَبْسِي ت 198هـ/814م).. [هو] أول من أدَّب أولاد أمراء الأندلس”.

ونبقى في القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ لنجد أنه بالتوازي مع سعي الداخل الأموي لتوطيد سلطان مملكته بالأندلس؛ كانت منطقةُ الغرب الإسلامي -على الضفة الجنوبية- تشهد مخاض انبثاق أول دولة تتأسس على الفقه السياسي الإباضي، الذي يجعل المؤهِّل العلمي شرطا في المرشحين لقيادة الدولة.

وهو الأمر الذي كان متحققا في الأمير الشاب عبد الرحمن بن رُسْتُم الفارسي (ت 171هـ/888م) المؤسس الفعلي للدولة الرستمية سنة 141هـ/759م؛ ويحدثنا عن ذلك المؤرخ الإباضي أبو العباس الشماخي اليَفْرني (ت 928هـ/1522م) -في ‘كتاب السِّيَر‘- بقوله: “فاتفق رأيُهم (= رؤساء الإباضية) على عبد الرحمن لفضله وكونه من حمَلة العلم”.
مشاريع رائدة
وفي القرن الثالث/التاسع الميلادي؛ لم يكد قطار الانشغال بالمعرفة والهم العلمي لدى الحكام يستوي على سكّته في الحضارة الإسلامية حتى اصطدم بمطبات عقَدية وفكرية في عهد الخليفة العباسي المأمون، وتمثل ذلك في المحنة المرتبطة بمسألة “القول بخَلْق القرآن” التي كانت في مظهرها -ذي الصلة بموضوعنا- انعكاسا لنمط من الفكر والثقافة، انشغل به هذا الخليفة وتَشَرّبه وأراد فرضه على رعيته؛ فأنتج ذلك تلك قضية التي احتلت موقعا كبيرا في الذهنية الإسلامية وعُرفت تاريخيا بـ”المحنة”.

عَكَسَ الانشغالُ الرسمي بالفلسفة والنفاذ عبرها إلى الميدان العلمي والثقافي الصبغةَ الخاصة بالحالة العلمية الموسوعية لدى المأمون، الذي يذكر ابن كثير أنه “حفظ القرآن الكريم” و”روى الحديث” عن العلماء، ويكثف الذهبيُّ وصْفَ تكوينه المعرفي بقوله إنه “قرأ العلم والأدب والأخبار والعقليات وعلوم الأوائل (= الفلسفات)، وأمر بتعريب كتبهم وبالغَ..، وكان.. يُجِلُّ أهلَ الكلام ويتناظرون في مجلسه”؛ وبهذا الميول الأخير انفجرت أزمة “المحنة”.

على أن سلبيات هذه الحادثة ينبغي ألا تحجب عنا أهمية دور المأمون الريادي في تطوير مخزون مكتبة “بيت الحكمة” من مصنفات العلوم الطبيعية والهندسية، ومشاريعه التأسيسية الخاصة بالرصد الفلكي وقياس محيط الأرض؛ فقد أورد المؤرخ الفلكي ابن الدَّواداري (ت بعد 736هـ/1335م) -في ‘كنوز الغرر‘- أنه في سنة 214هـ/229م “أمَرَ المأمونُ [الفلكيين] أن يتولوا الرصد بمدينة الشماسية من بلاد دمشق، فوقفوا على زمن سنة الشمس الرصدية ومقدار مَيْلها، وخروج مركزها وموضوع أوْجها، وعرفوا مع ذلك بعض أحوال الكواكب من السيارة والثابتة..، فقيّدوا ما انتهوْا إليه وسمَّوْه ‘الرصد المأموني‘؛ فكانت أرصاد هؤلاء أول أرصاد.. في مملكة الإسلام”!!

وفي أندلس منتصف القرن الرابع/العاشر الميلادي؛ تضمنت تجربة خليفتها “حكيم الأندلس” ما يصلح لأن يكون نموذجا من الجوانب الإيجابية لتجربة المأمون العباسي المشرقية الجامعة بين عمق المعرفة وجدارة الإدارة، إذ كان الخليفة الأموي المستنصر بالله الحَكَم بن عبد الرحمن الناصر (ت 366هـ/975م) أحد الذين انتموا إلى العِلم باستحقاق وأداروا دفّة الحُكم باقتدار. ويعرّفنا مؤرخ الثقافة الأندلسية المقَّري (ت 1041هـ/1632م) -في ‘نفْح الطِّيب‘- بالمكانة العلمية السامية للخليفة المستنصر في اللحظة التي أمسك فيها بمقاليد السلطة في الأندلس؛ فقال إنه “استوْسع علمُه ودَقَّ نظرُه وجَمَّتْ استفادتُه”.

وقبل المقري بقرون؛ تحدث ابن الأبّار القضاعي (ت 658هـ/1206م) -في ‘التكملة‘- عن ضخامة مكتبة المستنصر التي كانت مَعينا معرفيا للأندلسيين، فقال في ترجمته لـ”تليدٍ الفتى” الصَّقْلبي (ت بعد 400هـ/1010م) إنه “مولى الحكم المستنصر بالله وصاحب خزانته العلمية، قال أبو محمد ابن حزم (ت 456هـ/1065م): أخبرني تليد الفتى.. وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان (= الأمويين) أن عدة الفهارس -التي فيها تسمية الكتب- أربع وأربعون فِهْرِسَة، في كل فِهْرِسَة عشرون ورقة، ليس فيها إلا ذكْر الدواوين (= المؤلَّفات) فقط”!!

وأورد القضاعي أسماء نحو عشرة من وَرَّاقي ونُسّاخ هذه المكتبة، ثم أشاد بسعة علم المستنصر قائلا إنه “قلّما نجد له كتابا ولا ديوانا من خزائنه (= مكتبته) إلا وله فيه قراءةٌ ونَظَرٌ، من أي فن كان يقرؤه ويكتب فيه بخطه -إما في أوله أو في آخره أو في تضاعيفه- نَسَبَ المؤلفِ ومَوْلِدَه ووفاته والتعريف به، ويذكر أنساب الرواة له، ويأتي من ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لكثرة مطالعته وعنايته بهذا الشأن”!

تعميم للتعليم
ثم يعرض القضاعي لمصداقية المستنصر العلمية لدى علماء الأندلس؛ فيقول إنه “كان موثوقا به ومأمونا عليه [حتى] صار كلُّ ما كَتَبَه حُجّةً عند شيوخ الأندلسيين وأئمتهم، ينقلونه من خطّه ويحاضرون به..، وقد اجتمع لي جزءٌ مما وُجِدَ بخط الحَكَم، ووجدتُ أنه يشتمل على فوائد جمة في أنواع شتى”!! وحسْبُك من عِلْم هذا السلطان أن الإمام ابن حزم يعزو إليه ويعتمد عليه، فيقول في مواضع عديدة من كتابه ‘الجمهرة‘: “كتبتُه من خطّ الحَكَم المستنصر”!

وقد انعكس هذا الانشغال العلمي في السياسات التعليمية للمستنصر فسعى لتوفير التعليم مجّانا للطبقات الفقيرة؛ إذ يذكر ابن عِذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) -في البيان المُغْرِب‘- أن “من مُستحسَنات أفعاله وطيبات أعماله: اتخاذُه المؤدِّبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين القرآن حوالي المسجد الجامع وبكل رَبَضٍ (= ناحية) من أرباض قرطبة؛ وأجرى عليهم المرتبات وعهد إليهم في الاجتهاد والنصح ابتغاء وجه الله العظيم. وعدد هذه المكاتب سبعة وعشرون مكتبا، منها حوالي المسجد الجامع ثلاثة”.

وفي مصر الفاطمية؛ لم تخلُ الضفة الأخرى للمتوسط من تجليات شاهدة بالأثر العلمي لبعض قادة دولها الذين جمعوا بين الحكم والعلم، إذ لم يكن التفكير في تصاريف الحكم اليومية هو كلّ ما يشغلهم، وإنما كان الهم العلمي أيضا حاضرا فنتجت عن ذلك جهود مهمة حقق بعضها سبقا في مجاله، مثل فكرة “القلم الخازن للحبر” التي توصّل إليها سلطان الفاطميين المعز لدين الله (ت 365هـ/975م)، فنال بذلك قصب السبق بتصميمه واختراعه أولَ “قلم حبر” قبل أن يعرف عصرُنا الحديث هذا الاختراع بنحو ألف سنة!!

وينبئنا عن قصة اختراع “قلم المُعز” الفاطمي قاضي قضاته أبو حنيفة النعمان التميمي (ت 363هـ/974م) في كتابه ‘المجالس والمسايرات‘؛ فيقول إن المعز ذكر يوما القلم فقال: “نريد أن نعمل قلما يُكتَبُ به بلا استمداد من دواة، يكون مداده من داخله: فمتى شاء الإنسان كتب به فأمدَّه وكتب بذلك ما شاء، ومتى شاء تركه فارتفع المداد وكان القلم ناشفا منه، يجعله الكاتب في كُمِّه أو حيث شاء فلا يؤثّر فيه، ولا يرشح شيء من المداد عنه، ولا يكون ذلك إلا عندما يُبتغى منه ويراد الكتابة به، فيكون آلة عجيبة لم نعلم أنا سُبقنا إليها، ودليلا على حكمة بالغة لمن تأملها وعرف وجه المعنى فيها”!!

ويضيف النعمان مسجلا استغرابه من هذا الطموح العجيب: “فقلتُ: ويكون هذا يا مولانا..؟ قال يكون إن شاء الله! فما مَرَّ بعد ذلك إلا أيام قلائل حتى جاء الصانعُ -الذي وصف له الصنعةَ- به معمولا من ذهب، فأودعه المدادَ وكتب به فكتب..، فرأيت صنعة عجيبة لم أكن أظن أني أرى مثلها”!! ولم يكن المعز ليتعلق بمثل هذا الاقتراح لولا أن الاشتغال بالعلم والانتماء إليه كان معطى في صميم حياته؛ ولذا وصفه ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- فقال: “كان المعز عالما فاضلا”، ثم سجَّل ولَعَه بعلم الفلك فذكر أنه “كان مُغْرًى بالنجوم ويعمل بأقوال المنجمين”!

وتعاضدا بين الهمين السياسي والعلمي؛ دعت بعضُ المواقف الحرجة المعزَّ الفاطمي إلى تعلّم عدد من اللغات، فأجادها وفق رواية مثيرة يخبرنا بها المقريزي (ت 845هـ/1441م) في ‘المواعظ والاعتبار‘، حيث يقول إن المعزّ سمع أحد موظفيه من أصول أوروبية نطق “بكلمة صَقْلَبية (= نسبة للغة الصقالبة: شعوب شرقي أوروبا) اسْترابَ منها..، وأنِفَتْ نفسُه من السؤال عن معناها، فأخذ يحفظ اللغات [ليتعرّف معناها بنفسه]؛ فابتدأ بتعلم اللغة البربرية حتى أحكمها، ثم تعلم الرومية والسودانية حتى أتقنهما، ثم أخذ يتعلم الصقلبية فمرّت به تلك الكلمة فإذا هي سَبٌّ قبيحٌ”! فأمر بقتل ذلك الموظف بسببها!!

الملك المحدّث
ظلت الدوائر الجغرافية للمنطقة الإسلامية متداخلة على مستوى ظهور النماذج المجسدة لذوي الحكم والعلم، ولم تكن منطقة مثل سجستان -التي تضمها اليوم أراضي دولة إيران- بمنأى عن هذه الظاهرة اللافتة؛ فقد حاز مقاليدَ السلطة فيها الإمام المحدِّث خَلَف بن أحمد السجستاني (ت 399هـ/1009م) الذي يورد الإمام السمعاني (ت 562هـ/1167م) -في كتابه ‘الأنساب‘- جملة كثيفة معبّرة عن بيان مكانته العلمية والسياسية الرفيعة؛ فينعته بأنه “كان من أهل الفضل والعلم والسياسة والمُلك، وكان قد سمع الحديث وحَدَّثَ، وسمع بخراسان.. وبالعراق.. وبالحجاز..، وحَدَّث بالعراق وخراسان”!! ويعرِّفه الذهبي بأنه “المَلِكُ المحدِّثُ.. الفقيهُ، من جِلَّة الملوك، له إفضال كثير على أهل العلم”.

ولم يكتف السجستاني بأن كان ممن قرأ عليه أئمة محدِّثون كبار مثل الدارَقُطْني (ت 385هـ/996م) والحاكم النيسابوري (ت 405هـ/1015م)؛ بل إنه اضطلع بإنجاز أول محاولة معروفة لدينا للتأليفيْن الجماعي والموسوعي في الثقافة العربية الإسلامية، حين أراد تصنيف أوسع تفسير للقرآن الكريم فـ”جمع عِدّةً من الأئمة على تأليف تفسير عظيم حاوٍ لأقوال المفسرين والقراء والنُّحاة والمحدِّثين..، [وبلغ ما] أنفقـ[ـه] عليهم في أسبوع عشرين ألف دينار (= اليوم 3.3 ملايين دولار تقريبا)”؛ طبقا للذهبي الذي قال إنه شوهدت من هذه الموسوعة نسخة “بنيسابور تستغرق [كتابتُها] عُمُرَ الناسخ” لضخامتها!! ويقدر ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) -في ‘معجم الأدباء‘- حجم هذه الموسوعة بنحو “مئة وعشرين مجلدا”!!

ومرة أخرى تَبرُز معضلةُ تداخل الانحياز المذهبي للحاكم مع مقتضيات الحياد المفترَض في السلطة تجاه رعاياها وما يعتنقونه من آراء؛ فقد عَرفت إمارةُ خلف السجستاني -الذي يلقبه مؤرخ الأدب أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1038م) بـ”شيخ الملوك”!- حالةً قوية من الارتهان لمزاجه الفكري المتقلِّب، فحيثما مال اختياره كانت كفة الدولة تميل ميلا تسيل معه الدماءُ مدرارةً! ذلك أنه -وفقا للحموي- “كان في أول أمره على مذهب أهل الرأي، وكان أهلُ مذهبه يُغْرونه بقتل من خالف مذهبه، فقتل ألوفا كثيرة على ذلك الرأي..، ثم رجع عن مذهب أهل الرأي إلى مذهب أهل الحديث فقتل خلقا كثيرا” من مخالفيهم أهل الرأي!!

ساهمت ظاهرة بيوتات السلطة العالمة في إبقاء الانتماء العلمي لدى عدد من الحكام في الغرب الإسلامي وفضاء الأندلس، تماما كما سبق لدى الجيل الأول من العباسيين؛ فظهر قاضي إشبيلية أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عَبَّاد اللخمي (ت 433 هـ/1042م) الذي أجاد قاضي القضاة المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- تصويرَ جمْعه بين وظيفتيْ العِلم والسلطة؛ فقال إنه “كان من أهل العلم والأدب، والمعرفة التامة بتدبير الدول، ولم يزل مَلِكا مستقلا إلى أن توفي”.

وذكر المؤرخ الأندلسي ابن بَشْكُوال (ت 578هـ/1182م) أن ابن عباد هذا “كان من أهل العناية بالعلم”، كما ترجم له الذهبي -في ‘السِّيَر‘- فقال إنه “بَرَع في العلم..، وتولّى قضاء إشبيلية”. ومما قوّى الملكة العلمية لدى هذا الأمير أنه نشأ في كنف أبيه الذي قال عنه القاضي عياض في ‘ترتيب المدارك‘: “كان رجلَ غَرْبِ الأندلس في وقته، وكان حسن المعرفة يقطع من العلم جليله، صالح النظر في الفقه عالما كاتبا حليما أديبا”.

بلاطات أدبية
وحين اختلّ نظام الدولة الأموية بالأندلس مطلع القرن الخامس/الحادي عشر الميلادي؛ خضعت منطقة إشبيلية بدايةً لحُكم بني حمّود العلويين، ثم اجتمعت كلمة أعيانها سنة 414هـ/1024م على تولية قاضيها ابن عباد هذا حكم هذه المنطقة “فساس البلد وحُمِدَ [حُكمه]..، ودانت له الرعية” لجميل سياسته؛ كما يقول الذهبي.

وهكذا كانت تلك البداية الفعلية لتأسيس دولة بني عَبَّاد اللخميين التي امتدت لاحقا حتى ضمت العاصمة قرطبة “ودانت لهـ[ـا] أكثرُ المدن” بتعبير الذهبي، وصار ملوكها -طبْقا لعياض- “أجَلَّ الملوك بالأندلس” وأعظمهم بلاطاً، وخاصة آخرَهم الأمير العالم الشاعر المعتمد بن عباد (ت 488هـ/1059م)، الذي ساس دولتهم نحو عقدين “فكان فارسا شجاعا، عالما أديبا، ذكيا شاعرا، محسنا جوادا مُمَدَّحاً، كبيرَ الشأن..، وكُتَّابُه ثمانية عشر”!! وفقا للذهبي.

وفي إفريقية/تونس؛ جسَّد الأمير الشاعر تميم بن المُعزّ بن باديس الصنهاجي (ت 501هـ/1008م) أحد تلك النماذج بامتياز؛ فقد كان -كما يفيدنا الذهبي- “من أولاد الملوك”، وتولى حكم تونس سنة 454هـ/1063م فبقي فيه 47 سنة عُرف فيها بوصفه “بطلا شجاعا مهيبا سائسا، عالما شاعرا جوادا مُمَدَّحاً”. ومن بين دروب المعرفة المتنوعة؛ كان الأدبُ البوابةَ الأشهر له إلى العالم الثقافي، حيث وصفه الطيب بامخرمة الهجراني (ت 947هـ/1541م) -في ‘قلادة النحر‘- بأنه كان “شاعرا ماهرا”!

وبما أن الاحتفاء بالعلماء ظلّ قاسما مشتركا يميز نماذج ذوي العلم والحُكم؛ فإن هذا الأمير الصنهاجي لم ينس حظه من ذلك كما يخبرنا ابن خلّكان بقوله عنه: “ملك إفريقية وما والها، كان.. محبا للعلماء معظما لأرباب الفضائل”!! ويشتهر “الأمير تميم” لدى المؤرخين بما مدحه به بلديُّه الشاعر ابن رشيق القيرواني (ت 456هـ/1065م) من قوله في “حديث مُعَنْعَنٍ” بالسخاء:
أصحُّ وأعلى ما سمعناه في النَّدَى ** من الخَبَر المـَرْويِّ منذُ قــــــديم:
أحاديثُ تَرْويها السيولُ عن الحَيَا ** عن البحرِ عن كَفِّ الأميرِ تميم!!

وفي مصر والشام الأيوبيتيْن؛ كان للحُكم والعِلم التقاء خاص لدى شخصية ذات حضور بارز في الذاكرة الإسلامية، ألَا وهي السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هــ 1193 م) الذي صنّفه مترجموه ضمن أصحاب الحديث، حتى إن الذهبي يقول -في ‘السِّيَر‘- إنه كان له تلامذة فيه، إذ “حدَّث عنه يونس الفارقي (ت 628هـ/1231م) والقاضي العماد [الأصفهاني] الكاتب” (ت 597هـ/1200م).

وبذلك يسجل صلاح الدين ضمن قلة من محدِّثي زمانه ضمّوا إلى رواية الحديث النبوي حفظ الأدب وإنشاد الشعر، فقد “كان يحفظ ‘الحماسة‘ (= كتاب شِعْر) ويَظُنُّ أن كل فقيه يحفظها”!! ومع اهتمامه العلمي البادي التنوع؛ فإنه على المستوى السياسي والعسكري “طار صيته في الدنيا وهابته الملوك”!!

وكان لمجلس صلاح الدين طابع مجالس العلماء والفقهاء ولم يكن يخلو من مشاركة علمية يُدْلِي بها في قضاياه العلمية المبحوثة؛ ويوضح الذهبي ذلك بقوله: “قال الموفّق عبد اللطيف (البغدادي ت 629هـ/1232م): وجدتُ مجلسَه حَفِلًا بأهل العلم يتذاكرون، وهو يحسن الاستماع والمشاركة”، وقال كاتبه العماد الأصفهاني: “مَجالسُه آهِلَةٌ بالفُضلاء، يُؤْثِرُ سماعَ الحديث بالأسانيد”.

مكافآت تشجيعية
وإلى جانب علوم الحديث التي كثرت مدارسها آنذاك في الدولة الأيوبية؛ تواصلت حظوظ المذاهب الفقهية في هذه الدولة -التي توزعتْ إماراتٍ متعددة بعد وفاة صلاح الدين- ما بين إنهاء مذهب والتمكين لآخر؛ وهكذا عرفت الأسرة الأيوبية وصول أحد أبنائها الفقهاء إلى السلطة بإمارة دمشق هو السلطان المعظَّم عيسى ابن العادل (ت 624هـ/1227م)، لكنه آثر ألا يأخذ النسخة المذهبية ذاتها التي كان ينتمي إليها أبناء بيته الأيوبي، بل اختار أن يكون فقيها حنفيا متبحرا في مذهبه “حتى تأهَّل للفتيا” فيه؛ طبقا للذهبي.

كما كان مخْلِصا لمذهبه إلى حد “التعصب” له ورصد الجوائز المالية لمن يحفظ أمهات كتبه الفقهية؛ فالذهبي يقول إن السلطان المعظّم “كان يتعصب لمذهبه [الحنفي]، وقد جَعَلَ لمن عَرَض (= حفِظ).. ‘الجامعَ الكبير‘ [للإمام محمد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ/805م)] مئتيْ دينار” مكافأةً. ثم يذكر طائفة منوعة من أمهات مصنفات المعارف التي درسها المعظَّم على شيوخه، بل وحفظ بعضها؛ ومنها “‘كتاب سيبويه‘ و‘كتاب الحُجة‘ في القراءات، و‘الحماسة‘ [في الأدب]..، و‘مسند أحمد‘”.

ويلخص لنا ابن الأثير المكانة العلمية البارزة لهذا السلطان -الذي وصفه الذهبي بـ”الدهاء والحزم”- فقال إنه “كان عالما بعدة علوم.. [متميزا] فيها، منها: الفقه على مذهب أبي حنيفة (ت 150هـ/767م)..، ومنها علم النحو فإنه اشتغل به أيضا اشتغالا زائدا..، وكذلك اللغة وغيرها..، ونَفَقَ (= راجَ) العلمُ في سوقه، وقصده العلماء من الآفاق فأكرمهم وأجرى عليهم الجرايات (= الرواتب) الوافرة، وقرَّبهم [وكان] يجالسهم ويستفيد منهم ويفيدهم، وكان يرجع إلى علم وصبر”!

وتتجدد لدى المعظّم الأيوبي فكرة النزوع إلى تأليف الموسوعات العلمية التي رأينا نموذجا منها لدى “الملك المحدّث” خلَف السجستاني؛ فابن الأثير يخبرنا بأن المعظَّم “أمر أن يُجمع له كتابٌ في اللغة جامعٌ كبيرٌ: فيه كتاب ‘الصِّحاح‘ للجوهري (ت 393هـ/1004م)، ويضاف إليه ما فات ‘الصحاح‘ من [مسائل اللغة في المعاجم الأخرى]..، وكذلك أيضا أمر بأن يُرتَّب ‘مسند أحمد بن حنبل‘ على الأبواب، ويُرَدَّ كل حديث إلى الباب الذي يقتضيه معناه..، فيكون كتابا جامعا”!

ويبدو أن تخصيص الجوائز لحفظ كتب العلم كان سياسة تعليمية متَّبعة لدى هذا السلطان؛ إذ يفيدنا ابن خلّكان بأنه “شَرَط لكل من يحفظ ‘المُفصَّل‘ للزمخشري (ت 539هـ/1144م) مئة دينار (= اليوم 18 ألف دولار أميركي تقريبا) وخِلْعَةً (= ثيابا ثمينة)، فحفظه لهذا السبب جماعة” من الفقهاء! بينما ينسب إليه ابن قُطْلوبُغا (ت 879هـ/1474م) -في ‘تاج التراجم‘- أنه رصد “لمن يحفظ [كتاب] ‘الإيضاح‘ )في النحو لأبي علي الفارسي ت 377هـ/988م] ثلاثين دينارا، سوى الخِلَع”.

لقد حرص الأيوبيون على التنشئة العلمية للمنتسبين إلى شجرتهم لدرجة التعمق الكبير في المعارف، مما حافظ على تولي سلاطين يمثلون نماذج مميزة في التحلي بالبسطة في العلم والحُكم. وبين هؤلاء يتألق بوضوح اسم ملك حماة أبي الفداء الأيوبي (ت 732هـ/1331م) الذي أمَدَّ المكتبة الإسلامية بتآليف كانت العلوم التطبيقية كالطب والفلك حاضرة فيها، حيث قال عنه ابن كثير: “له فضائل كثيرة في علوم متعددة من الفقه والهيئة (= علم الفلك) والطب وغير ذلك، وله مصنفات عديدة منها تاريخ حافل في مجلدين كبيرين، وله نظم ‘الحاوي‘ [في الفقه]..، وكان يحب العلماء ويشاركهم في فنون كثيرة”.

ويحدد لنا ابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م) -الذي يصفه في ‘فوات الوفيات‘ بـ”الإمام العالم الفاضل السلطان الملك”- مجالَ التخصص الذي بَرَّز فيه المؤيد؛ فيقول إن “أجود ما كان يعرفه علمَ الهيئة لأنه أتقنه، وإن كان قد شارك في سائر العلوم مشاركة جيدة”. ومن كتبه المطبوعة اليوم: تاريخه ‘المختصر في أخبار البشر‘، و‘الكُناش في فني النحو والصرف‘، و‘تقويم البلدان‘ في مجال الجغرافيا البلدانية.

تفنن وتصنيف
وفي اليمن؛ كانت أيضا الدولة الرَّسولية التركمانية جزءا من ظاهرة الأسر التي جمعت بين العلم والحكم، ففيها نلاقي نموذجا بين سلاطينها جسّد حالة مغايرة في نمط الاهتمام العلمي الذي لم ينحصر لديه في مجال العلوم الشرعية فقط، ويتعلق الأمر بالسلطان المظفَّر يوسف بن عمر الرسولي (ت 694هـ/1295م) الذي عُرف تاريخيا بأنه كان أعظم حكام الدولة الرسولية التي تولى حُكمها 47 سنة.

فقد قال عنه ابنُ وهاس الخزرجي الزَّبيدي (ت 812هـ/1415م) -في ‘العقود اللؤلؤية‘- إنه “كان له في علم الطب يدٌ طولَى، ولما افتتح مدينةَ ظفار.. ذَكَر في كتابه إلى الملك الظاهر بيبرس (ت 676هـ/1279م) -صاحب مصر- أنه يحتاج إلى طبيب لمدينة ظفار لأنها وبيئة، وقال: ولا يظن المقام العالي أنا نريد الطبيب لأنفسنا فإنا نعرف بحمد الله من الطب ما لا يعرفه غيرنا، وقد اشتغلنا فيه من أيام الشبيبة اشتغالاً كثيراً، ووَلَدُنا عمرُ الأشرف (ت 696هـ/1296م) من العلماء بالطب، وله [فيه] كتاب ‘الجامع‘ ليس لأحد مثلُه”! وللمظفّر كتاب في الطب مطبوع بعنوان ‘المُعتمَد في الأدوية المفردة‘.

أما مكانة المظفَّر في العلوم الأخرى؛ فيوضحها الخزرجي أيضا بقوله إن كتب الحديث كانت “كلها مضبوطة بخط يده، حتى إن من رآها يقول لم يكن له شغلٌ طول عمره [سوى النَّسْخ]، مع كثرة اشتغاله بالعلم في فنون شتى”، ورغم انشغاله أيضا بشؤون السلطة في بلد كثيرا ما عصفت به صراعات العروش والجيوش!

وبعد رحيل الدولة الرسولية؛ نجد أن البصمات والآثار الخاصة بذوي الحكم والعلم استمرت باليمن خلال العصور اللاحقة، ولتلمّس جانب من ذلك نحطُّ رِحالنا لدى الإمام الزيدي المتوكل يحيى شرف الدين العلوي (ت 965هـ/1558م)، ذاك السلطان الذي شكّل ثالوثُ الفقه والشعر والسلطة العناصرَ الرئيسة في بناء سيرته ومسيرته، ولا عجب في ذلك إذا استحضرنا أن معظم سلاطين الزيدية -ولاسيما باليمن- كانوا علماء لاشتراط مذهبهم وفكرهم السياسي الإمامي توفُّرَ صفة العلم فيمن يتولى الحكم.

وبين العلم والتعلم والمتوكل الزيدي هذا نسب عريق يوضحه الإمام الشوكاني (ت 1250هـ/1834م) -في ‘البدر الطالع‘- فيقول: “قرأ على والده شمس الدين [كتاب] ‘الظاهرية‘ وشرحها لابن هطيل (النَّجْري ت 812هـ/1415م)، ثم ‘الكافية‘ وشرحها والنصف الأول من ‘المُفَصَّل‘، ثم رحل إلى صنعاء فتمَّمَ قراءة ‘المفصَّل‘”! وتحدث عن قراءته لمصنفات مركزية في الدراسات النحوية، مضيفا أنه “قرأ في كثير من الفنون وبرع في العلوم العقلية والنقلية”.

ثم إن المتوكل لم يكتفِ بالتحصيل حتى قرَنه بالتأليف الذي لم تصرفه عنه معايشة مشكلات السياسة؛ فهو -كسابقيه ممن حكموا في بعض المناطق الإسلامية بعد القرن الخامس الهجري- كان وفيرَ الإنتاج العلمي، ومن التصانيف التي رفد بها المكتبة العربية: “كتاب ‘الأثمار‘ [الذي] اختصر فيه ‘الأزهار‘”، و‘الأحكام في أصول المذهب‘ الزيدي.

وبعكس منصب الخلافة الإسلامية العامة؛ وفّرت عروشُ الدول القُطْرية -بطبيعة إماراتها المجتمعية المحدودة- فرصةً ثمينة لبروز ظاهرة التتلمذ للأمراء العلماء؛ ولذا جاء في ‘طبقات الزيدية الكبرى‘ لابن القاسم الشُّهاري (ت 1152هـ/1740م) أن المتوكل “أخذ عنه العلم عدةُ” تلامذة، وأنه كان يجلس للتدريس؛ وهو ما يذكرنا بنموذج السلطان المدرِّس الذي شاهدناه في شخصيتيْ خَلَف السجستاني وصلاح الدين الأيوبي.

ريادة تشريعية
وإذا ما غادرنا اليمنَ السعيد وأدرنا النظر شرقا باتجاه بلاد الهند الإسلامية أيام سلاطين “المغول العظام”؛ فسنكون على مَرأى من تجربة أخرى لحاكم عظيم ذي خلفية علمية ذائعة الصيت، وهو السلطان عالَمْگير أورَنْگْزيپ (ت 1118هـ 1707م) الذي حكم الهند 50 سنة، كان خلالها كما وصفه أبو الفضل المُرادي (ت 1206هـ/1791م) في ‘سِلك الدُّرر‘: “العالم العلامة، الصوفي العارف بالله، الملك القائم بنصرة الدين”.

ثم يضيف المرادي مبينا لنا كيف استطاع هذا السلطان العالم إدارة وقته المتنازَع بين شؤون الحُكم وفنون العلم: “وكان موزِّعا لأوقاته: فوقت للعبادة، ووقت للتدريس، ووقت لمصالح العسكر، ووقت للشُّكاة، ووقت لقراءة الكتب والأخبار الواردة عليه كلَّ يوم وليلة من مملكته، لا يخلط شيئا بشيء”!

وفيما يخص الآثار الناتجة عن المكون العلمي في شخصيات الحكام؛ فإن السلطان عالَمْگير قام بمشروع علمي فقهي رائد كان النواة الأولى لمدونات “تقنين الفقه” المعاصرة بدءا من ‘مجلة الأحكام العدلية‘ للدولة العثمانية سنة 1293هـ/1876م، وكأنه كان يضاهي به فكرة التأليف الجماعي التي طبقها سابقا نظيراه في المذهب الفقهي الحنفي: الملك خلف السجستاني والسلطان المعظَّم الأيوبي، فنفخ في رمادها فعادت متوهجة برعايته تدوين الأحكام الفقهية الإسلامية.

وقد أبان المرادي عن ذلك بقوله إن عالَمْگير: “أمَرَ علماء بلاده الحنفية أن يجمعوا باسمه فتاوى تجمع جُلَّ مذهبهم، مما يُحتاج إليه من الأحكام الشرعية؛ فجُمعت في مجلدات وسماها بـ‘الفتاوي العالَمْگيرية‘، واشتهرت في الأقطار الحجازية والمصرية والشامية والرومية (= التركية)، وعَمَّ النفعُ بها وصارت مرجعاً للمفتين” في هذه الأقطار.

ومن غرب العالم الإسلامي نختم تطوافنا التاريخي هذا الذي بدأناه من شرقه؛ فقد تألق بالمغرب الأقصى نجمُ أميرٍ ضليع في المعارف والعلوم الإسلامية هو السلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي (ت 1204هـ/1790م)، وكان دَوْر الأمهات العالمات هذه المرة حاضرا في ترْك بصمة على مسيرة ظاهرةِ “الأمراء العلماء”، حيث إنه حفيد العالمة الشنقيطية خناثة بنت بكّار المغفرية (ت 1155هـ/1142م) التي كانت ترعاه وتلقنه العلوم وهو طريّ العود، فقد “كانت فقيهة أديبة”؛ حسبما ورد في ترجمتها لدى الناصري السلاوي (ت 1315هـ/1898م) في كتابه ‘الاستقصا‘.

كما نَقل السلاوي عن مؤرخ الدولة العلوية بالمغرب العلامة أكَنْسوسْ (ت 1296هـ/1877م) وصْفَه لجدة هذا الأمير بأنها “أمُّ السلاطين، وكانت صالحة عابدة عالمة حصَّلت العلوم، قال [أكَنْسوسْ]: ورأيتُ خطَّها على هامش نسخة من [كتاب] ‘الإصابة‘ لابن حَجَر” العسقلاني.  وبذلك ندرك تميز جوِّ التحصيل العلمي للسلطان الفقيه سيدي محمد الذي قال عنه ابنُ الطيب القادري (ت 1187هـ/1773م) -في ‘نشر المثاني‘- إنه “في العلم بحرٌ لا يُجارَى، وفي التحقيق والمعارف لا يُمارَى، قد جمع من دراية العلم ما تقف العلماء دونه”! وفي ‘سلوة الأنفاس‘ للكتاني (ت 1345هـ/1945م) أنه “كان علّامة درّاكة فاضلا محدِّثا تاريخيا”.

ونعاين طرَفاً من المعلومات الدالة على ذلك فيما أورده السلطان عن نفسه في خاتمة كتابه ‘الجامع الصحيح الأسانيد المُستخرَج من ستة مسانيد‘؛ حيث جاء فيها: “إن من أعظم نعم الله عليّ ومِنَنِه لديّ أن وفَّقني للاشتغال بالعلم والبحث عنه والمذاكرة لأهله، وإني بعدما خضت في علم اللغة برهة من الزمن، وحفظت من كلام العرب وأشعارهم جملة صالحة مُعِينة على فهم السنة والقرآن؛ اشتغلت بعلوم الحديث”.

ومما امتاز به هذا الأمير عن بقية سلاطين الغرب الإسلامي -بعد عصر الدولة الموحِّدية- أنه كان يصف نفسه في مؤلفاته بأنه “أمير المؤمنين.. المالكي مذهبا الحنبلي معتقدا”! ويبدو أن هذا الاختيار العقَدي الحنبلي -في بيئة طالما حسمت اختيارها العقدي لصالح المدرسة الأشعرية- كان وراء بعض قرارات هذا السلطان ذات الصلة بمجال التعليم؛ فقد كان -وفقا للسلاوي- “يَنْهَى عن قراءة كُتُب التوحيد المؤسَّسة على القواعد الكلامية المحرَّرة على مذهب الأشعرية”!!

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى