اسم الكتاب: أثر الحروب الصليبية على العلاقات السنية الشيعية.
اسم المؤلف: محمد بن المختار الشنقيطي.
عدد الصفحات: 288 صفحة.
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
–
نبذة عن الكتاب – عرض: محمد المختار أحمد.
يتناول هذا الكتاب صفحة معقدة من تاريخ العلاقات بين السنة والشيعة، وفي لحظة حرجة من عمر أمة الإسلام، وهي حقبة الحروب الصليبية.
فحينما دعا البابا أوربان الثاني في بلدة كليرمون الفرنسية عام (488هـ/ 1095م) إلى الحملات الصليبية لانتزاع البلاد المقدسة من أيدي المسلمين، كانت توجد إمبراطورية شيعية إسماعيلية بمصر هي الدولة الفاطمية، كما كانت توجد أغلبية شيعية إمامية بين مسلمي بلاد الشام.
وعندما اقتلع الأتراك المماليك آخر قلعة فرنجية على الساحل الشامي عام (690هـ/1291م)، وكتبوا بذلك خاتمة الحروب الصليبية التي دامت قرنين تقريبا، كانت الخريطة الطائفية الإسلامية قد تغيرت تغيرا عميقا، إذ كانت الإمبراطورية الفاطمية قد تلاشت منذ أمد بعيد، وكانت الأغلبية من شيعة بلاد الشام في طريقها إلى التسنن من جديد.
تتمثل الفرَضية الأساسية للكتاب في أن الحروب الصليبية أسهمت في انحسار التشيع في مصر والشام، خلال القرنين السادس والسابع الهجريين/الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وربما أسهمت أيضا في انتقال ثِقل التشيع من بلاد العرب إلى بلاد فارس بعد ذلك بقرنين. وقد فرقت تلك الحروب بين السنة والشيعة على المدى القريب في بداياتها، لكنها وحدت كلمتهم فيما بعدُ.
ويسعى الكتاب -حسبما ذكر مؤلفه- إلى تحقيق مهمات ثلاث، هي: تقديم سرد تاريخي لمسار العلاقات السنية الشيعية خلال الحروب الصليبية، أكثر دقة وتركيبا، وأقل تبسيطا وحِجاجية، من السرد السائد حاليا. وبيان أثر الحروب الصليبية على تطور العلاقات السنية الشيعية في تموجاتها وظلالها المختلفة، بانتباه للتفاصيل وتجنب للتعميم. وتفكيك الذاكرة التاريخية المتوازية لدى السنة والشيعة في هذا المضمار.
يقدم الفصل الأول المعنون: “دماءٌ على ضفاف المتوسط: القافلة التركية في مواجهة الحملات الصليبية” بساطا نظريا للدراسة، فيضع المقاومة الإسلامية للحروب الصليبية ضمن سياق عام، هو “أسلمة الترك” و”تتريك الإسلام.”
وقد استخدم المؤلف مفهوم “العصبية” عند ابن خلدون لبيان سر صعود الأتراك وإمساكهم بمصائر العالم الإسلامي منذ نهاية القرن الرابع الهجري، حيث جددوا نضارة الحضارة الإسلامية، وأمدوا دولة الإسلام بأسباب القوة والبقاء والنماء، “فلا يزال نشْء منهم يردف نشئا، وجيلٌ يعقب جيلا، والإسلام يبتهج بما يحصُل به من الغناء، والدولة ترِف أغصانُها من نضرة الشباب”، حسب تعبير ابن خلدون في مقدمته.
ويبين هذا الفصل أن المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية -في وجهها السوسيولوجي والعسكري- ظاهرة تركية في جوهرها، فالنخبة العسكرية التركية هي التي قاومت الوجود الصليبي طيلة قرنين من الزمان حتى هزمته نهائيا، وكل القادة البارزين في مقاومة الفرنج -أراتقة وزنكيون ومماليك- كانوا أتراكا. وحتى صلاح الدين الأيوبي -ذو النسب الكردي العريق والثقافة العربية العميقة- كان يرى نفسه ويراه رجال بلاطه جزءا من النخبة العسكرية التركية. ولأن الأتراك سنة في الغالب، فقد كان انحسار التشيع أثرا جانبيا لا مفر منه من آثار المقاومة الإسلامية للحملات الصليبية.
وفي الفصل الثاني المعنون: “عالم متحلل العُرى: الخريطة الطائفية عشية الحروب الصليبية” صورة مفصلة عن التقسيم الطائفي في الأقاليم الإسلامية التي تأثرت بالحملات الصليبية، وهي الشام ومصر وغرب العراق، بناء على استقراء لما كتبه المؤرخون والجغرافيون والرحالة المسلمون. فهذا الفصل مُعِين للقارئ على فهم الخريطة الطائفية المعقدة عشية الحروب الصليبية، من أجل إدراك التغيرات التي أصابتها خلال قرنين من المنازلات بين المسلمين والفرنجة.
ويتبين من هذا الفصل أن العراق كان يتقاسمه السنة والشيعة مع صعود سياسي للسنة منذ سقوط الدولة البويهية الإمامية وبزوغ الدولة السلجوقية السنية، وأن مصر الفاطمية كانت تحكمها آنذاك نخبة شيعية إسماعيلية، لكن الشعب ظل سنيا في العمق طيلة الحقبة الفاطمية، وأن الشام كانت فيه أغلبية شيعية -جلها إمامية- يقودها أمراء سنة أتراك، منذ سقوط الإمارات الشيعية (الحمدانية والعقيلية والمرداسية) التي تعاقبت على حكم حلب والجزيرة. ولم يكن للشيعة دولٌ في الشام زمان اندلاع الحملات الصليبية باستثناء إمارة بني عمار بطرابلس.
ويشكل الفصلان الثالث والرابع قلب الدراسة ولُبابها، حيث يغطي هذان الفصلان العلاقات بين السنة وثلاث من الجماعات الشيعية خلال الحقبة الصليبية، وهي: الفاطميون، والنزاريون (الحشاشون)، والإماميون. وقد بين الفصل الثالث المعنون “اكتشاف وحدة المصائر: السنة والشيعة الإمامية في مواجهة الفرنجة” أن أهل السنة والشيعة الإمامية واجهوا الصليبيين صفا واحدا في المُجمل، على عكس ما يُذاع في الجدل الطائفي اليوم.
وأورد المؤلف نماذج عديدة من ذلك في طرابلس وحلب ودمشق وعسقلان. وعلل هذا التعاضد بين أهل السنة والشيعة الإمامية في وجه الفرنجة بعوامل ثلاثة: التقارب المذهبي، والقرب الجغرافي، والسلبية السياسية التي سادت الفكر الإمامي ما قبل الدولة الصفوية، حيث لم يشكل الإمامية تحديا سياسيا للقادة السنة حينها، على عكس الشيعة الإسماعيلية يومذاك.
وفي الفصل الرابع بعنوان: “قبولُ ما ليس منه بد: السنة والشيعة الإسماعيلية في مواجهة الفرنجة” تبيانٌ للعلاقات بين أهل السنة والفرع الإسماعيلي من التشيع (بشعبتيه الفاطمية والنزارية). ويبين الفصل أن الفاطميين سلكوا مسلك البيزنطيين في المكر السياسي في التعامل مع الفرنجة، فحاولوا في البداية احتواء العاصفة الصليبية حتى لا تتجاوز شرق الأناضول وشمال الشام، ثم توجيهها لصالحهم لتكون حاجزا بينهم وبين القوى السلجوقية السنية القادمة من الشرق. لكن الفاطميين خاب ظنهم في الفرنجة بعد أن اجتاحوا القدس التي كانت بأيد فاطمية يومذاك.
وبعدها انتقل الفاطميون إلى مقاومة الغزو الصليبي، مع محاولة ضرب الطرفين السني والفرنجي بعضهما ببعض. على أن الفاطميين اضطروا في النهاية لتسليم مصر للقيادة السنية بعد أن أصبحت على شفا السقوط في أيدي الفرنجة.
أما الشيعة النزاريون بالشام -وهم المعروفون تاريخيا باسم الحشاشين- فقد بين هذا الفصل أنهم لعبوا دورا دمويا مُعيقا للمقاومة السنية، من خلال اغتيالهم لقيادات سُنية تصدرت مقاومة الصليبيين (آق سنقر، مودود، زنكي… إلخ). ولم تسلم القيادات الإمامية والفاطمية من خناجرهم المُهلكة، فاغتالوا القاضي الإمامي ابن الخشاب، والخليفة الفاطمي الآمر، والوزير الفاطمي الأفضل الجمالي. لكن النزاريين دخلوا في تفاهم ضمني مع أهل السنة منذ أيام صلاح الدين، فبدؤوا باستهداف القيادات الصليبية بإيعاز من القادة السنة، حيث اغتالوا أربعة منهم، كما يوضحه الجرد الذي قدمه المؤلف -في الفصل الرابع- بأهم اغتيالاتهم السياسية خلال 170 عاما. ولم يبْق من الحشاشين بعد الحروب الصليبية سوى ظل باهت لأسطورة مُرعبة. ثم تحولت الشيعة الإسماعيلية كلها فيما بعد إلى جماعة مسالمة، تعيش على هوامش المجتمعات الإسلامية دون مطامح سياسية أو بأس عسكري.
أما الفصل الخامس الأخير بعنوان “حُمى التاريخ: صلاح الدين الأيوبي في الحِجاج السني الشيعي” فهو أهم فصول الدراسة دلالة في الزمن الحاضر، إذ ينقل القارئ من الماضي إلى الحاضر، من التاريخ إلى الذاكرة، فيستخدم صورة صلاح الدين في الذهنية السنية والشيعية اليوم مثالا على الذاكرة التاريخية المتوازية حول الحروب الصليبية. حيث يرى أهل السنة -قديما وحديثا- صلاح الدين بطلا قائدا ومؤمنا مجاهدا، بينما يراه أكثر الشيعة الإمامية اليوم -بخلاف الإمامية في عصره- مغامرا لا مبدأ له، ومتعصبا حقودا. بل يتهمه بعضهم بالتواطؤ مع الصليبيين، في مفارقة عجيبة تدل على الحضيض الذي تصل إليه الدراسات التاريخية المشحونة بالحِجاج الطائفي.
وقد استخدم المؤلف كتابات جدلية معاصرة -سنية وشيعية- نماذج لهذا الانشطار في الذاكرة التاريخية، لكنه خلُص إلى أن صلاح الدين ترك وراءه أثرا باقيا، لن تمحوه الأحقاد التاريخية والذاكرة الموتورة.
وفي الخاتمة يمد المؤلف نظريته لما بعد الحروب الصليبية بقرنين، حيث يرى أن الحروب الصليبية أسهمت في النهاية إلى انتقال مركز التشيع من بلاد العرب إلى بلاد فارس. فقد كان العراق دائما مهد التشيع منذ بواكيره الأولى، ومن العراق انزاحت الأفكار والقوى الشيعية شرقا وغربا. لكن ذلك الانزياح كان مغربا في الغالب خلال القرون الخمسة الأولى من تاريخ الإسلام، وما ظهر من دويلات شيعية شرق العراق لا يشاكل الإمبراطورية الفاطمية في مداها الزماني والمكاني. لكن الانزياح المغرب للتشيع توقف مع الحروب الصليبية، وبدأ التشيع يتجه شرقا، بعد أن أصبحت ضفاف المتوسط منطقة طاردة له.
ويرى المؤلف أن العزلة التي عاشها شيعة جبل عامل في لبنان تحت الاحتلال الصليبي عمقت من هويتهم الانفصالية عن جسد الأمة العريض. ثم لما انتهى الاحتلال الفرنجي أنجز أولئك الشيعة نهضة دينية وصاغوا هوية ثقافية، أهلتهم ليكونوا السند الفكري للصفويين في نشر التشيع وفرْضه على عامة بلاد فارس مطلع القرن السادس عشر. وكانت الصبغة العربية غالبة على التشيع أثناء الحروب الصليبية، ولذلك ظل التواصل السياسي والاجتماعي أسهل بين السنة والشيعة، رغم الفجوة الاعتقادية والفقهية التي كانت تتسع مع الزمن.
وبميلاد الدولة الصفوية دخلت العلاقات السنية الشيعية مرحلة جديدة وصعبة من تاريخها المتموج، وزادت الفجوة بين الطائفتين عمقا واتساعا، حينما أضحت الخطوط الطائفية تسير على تخوم الخطوط القومية، وامتزج التسنن والتشيع بما بين العرب والفرس من تحيزات عرقية وحزازات ثقافية ضاربة في عمق التاريخ.
يسعى هذا الكتاب إلى ترميم الذاكرة التاريخية بتقريبها أكثر من الواقع التاريخي، وتحويل التاريخ -بوجهيْه المضيء والقاتم- إلى ماض حي يزخر بالعبرة والخبرة، بعد أن حوله آخرون إلى ذخيرة متفجرة تدمر الحاضر وتلغم المستقبل.
ويرى مؤلفه أن الأمة لن تخرُج من الطريق الذي قادها إلى الجهالة الطائفية والهمجية السياسية التي تعيشها اليوم، إلا إذا أدركت كيف دخلت هذا الطريق المُعتم ابتداء. ويستشهد المؤلف في مدخل كتابه بمقولة “من أجل بناء مستقبل جديد نحتاج إلى بناء ماض جديد”، فهل سيُسهم هذا الكتاب في “بناء ماض جديد” يجعل المستقبل أقل استقطابا واحترابا بين السنة والشيعة؟!.
المصدر: الجزيرة نت.