مقالاتمقالات مختارة

أفكار في حوار…في التحصين من الإلحاد (4)

أفكار في حوار…في التحصين من الإلحاد (4)

بقلم إبراهيم منصور

الشاب: تلك حقيقة أخرى جلية، فما الحقيقة الثالثة؟

الشيخ:(الحقيقة الثالثة: أننا عندما نرى شيئا من مظاهر الغضب الإلهي، والنقمة التي يصبها الله على بعض المسلمين، أو نرى من دلائل سوء الخاتمة على بعضهم، فإننا نخاف على من رأينا فيه شيئاً من ذلك، ونخاف على أنفسنا من مثل خاتمته، لكننا لا يصح أبداً أن نجزم له بالشقاء المطلق.)

وما يدرينا لعل الله يعظ به ثم يتجاوز عنه.

ومن المقرر في عقيدتنا الإسلامية أن الإنسان مهما كان كفوراً، وكان عتوه كبيراً، فلا يأس منه ما دام حياً، لأنه لا يُدرَى بم يُختم له.

وكم من رجل عاش عمره يعمل بعمل أهل النار إلحاداً وعناداً، وجحوداً وصدوداً، ثم أشرقت شمس الهداية في قلبه في أيامه الأخيرة، أو في ساعاته الأخيرة.!!

وكم من رجل صار من عداد أهل الجنة، وما سجد لله سجدة.!!

الشاب: سبحان الله! كأنك تتحدث عن شيء من نسج الخيال أو مِن رؤى الأحلام، وهل وقع شيء من ذلك مُوَثَّقا؟!

الشيخ: أجل. فقد وعت لنا مصنفات السنة، وكتب تاريخ الإسلام، وأخبار الفتوح، أسماءَ عدةٍ من هؤلاء السعداء، الذين أدركوا النجاة في الساعة الأخيرة من عمُر معمور بالكفر والإعراض وأعمال الأشقياء وحال البُعداء، مثل أصيرم بني عبد الأشهل، من الأوس. ومخيريق الذي كان من اليهود.

وجَرَجَة الذي كان من قادة الروم يوم اليرموك.

الشاب: هل من تعريف بقصة كل من هؤلاء الأسماء؟

الشيخ: حباً وكرامة.

أما أُصَيرِم، فقد جاء خبره في مسند أحمد، أن أبا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه كان يَقُولُ: حَدِّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ لَمْ يُصَلِّ قَطُّ. فَإِذَا لَمْ يَعْرِفْهُ النَّاسُ سَأَلُوهُ: مَنْ هُو؟ َ فَيَقُولُ: أُصَيْرِمُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ. قَالَ الْحُصَيْنُ (أحد رجال سند هذا الحديث): فَقُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الأُصَيْرِمِ؟ قَالَ: كَانَ يَأْبَى الإِسْلامَ عَلَى قَوْمِهِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، وَخرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ، بَدَا لَهُ في الإِسْلامُ فَأَسْلَمَ، فَأَخَذَ سَيْفَهُ فَغَدَا حَتَّى أَتَى الْقَوْمَ فَدَخَلَ فِي عُرْضِ النَّاسِ فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَة. قَالَ: فَبَيْنَمَا رِجَالُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ يَلْتَمِسُونَ قَتْلاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ، إِذا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَلأُصَيْرِمُ، وَمَا جَاءَ به؟ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ وَإِنَّهُ لَمُنْكِرٌ هَذَا الْحَدِيثَ.! فَسَأَلُوهُ وقَالُوا: مَا جَاءَ بِكَ يَا عَمْرُو؟ أَحَدَبًا عَلَى قَوْمِكَ؟ أم رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ؟ قَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ، آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ، ثُمَّ أَخَذْتُ سَيْفِي فَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَاتَلْتُ حَتَّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي. قَالَ: ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.

وأما مُخيريق، فَقد ذكر خبره ابن سعد في الطبقات الكبرى، والذهبي في تاريخ الإسلام، وغير واحد من أهل التراجم والسِّيَر، قالوا: كَانَ يَهُودِيًّا مِنْ بَقَايَا بَنِي قَيْنُقَاعَ، نَازِلا بِبَنِي النَّضِير، فلما كان يوم أحد قال لقومه: يا معشر يهود، والله لقد علمتم إنّ نصْر محمد عليكم لحقّ. قالوا: إن اليوم يوم السبت. قال: لا سبتَ لكم.

فأخذ سيفه وعُدَّته وقال: إن أُصِبتُ فمالي لمحمد، يصنع فيه ما شاء.

ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاتل معه حتى قُتل.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مخيريق خير يهود).

وأما جَرَجَة فكان من كبار قادة جيش الروم في معركة اليرموك التي وقعت بين المسلمين والروم، بقيادة سيف الله خالد بن الوليد، في السنة الثالثة عشرة من الهجرة.

وقد جاء خبره في تاريخ الرسل والملوك للطبري، في خبر معركة اليرموك. قال:

خرج جَرَجَة حتى كان بين الصفين ونادى: ليخرجْ إليّ خالد بن الوليد. فخرج إليه خالد، فوقفا بين الصفين حتى اختلفت أعناق دابتيهما، وقد أمّن كل منهما صاحبه، فقال جرجة: يا خالد اصدقني ولا تكذبني فإن الحر لا يكذب. ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع المسترسل.

(المسترسِل: الذي استأنس بك واطمأن إليكَ ووثق بحديثك)

ثم تابع جرجة يقول لخالد: بالله هل أنزل الله على نبيكم سيفاً من السماء فأعطاكه، فلا تسلُّه على قوم إلا هزمتهم؟

قال: لا.

قال: فبم سُمّيتَ سيفَ الله؟

قال خالد: إن الله عز وجل بعث فينا نبيه صلى الله عليه وسلم، فدعانا، فنفَرنا ونأينا عنه جميعاً. ثم إن بعضنا صدقه وتابعه؛ وبعضنا باعده وكذَّبه؛ فكنتُ فيمن كذَّبه وباعده وقاتله. ثم إن الله أخذ بقلوبنا ونواصينا فهدانا به، فتابعناه. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت سيف من سيوف الله، سلَّه الله على المشركين. ودعا لي بالنصر؛ فسُميتُ سيفَ الله بذلك؛ فأنا من أشد المسلمين على المشركين.

قال: صدقتني.

ثم أعاد عليه جرجة: يا خالد، أخبرني إلامَ تدعوني؟

قال خالد: إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، والإقرارِ بما جاء به من عند الله.

قال جَرَجَة: فمن لم يجبكم؟

قال: فالجزية، ونمنعه.

قال: فإن لم يعطِها؟

قال: نؤذنه بحرب، ثم نقاتله.

قال جَرَجَة: فما منزلة الذي يدخل فيكم ويجيبكم إلى هذا الأمر اليوم؟

قال خالد: منزلتنا واحدة فيما افترض الله علينا، شريفنا ووضيعنا، وأولنا وآخرنا.

ثم أعاد عليه جَرَجَة: هل لمن دخل فيكم اليوم يا خالد مثل ما لكم من الأجر والذخر؟ قال: نعم، وأفضل.

قال: وكيف يساويكم وقد سبقتموه؟

قال خالد: إنا دخلنا في هذا الأمر، وبايعنا نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا، تأتيه أخبار السماء ويخبرنا بالكتب، ويرينا الآيات، وحُقَّ لمن رأى ما رأينا وسمع ما سمعنا أن يُسْلم ويبايع؛ وإنَّكم أنتم لم تروا ما رأينا ولم تسمعوا ما سمعنا من العجائب والحجج؛ فمن دخل في هذا الأمر منكم بحقيقة ونية كان أفضل منا.

قال جرجة: بالله لقد صدقتني ولم تخادعني؟

قال خالد: بالله لقد صدقتك، وما بي إليك ولا إلى أحد منكم وحشة؛ وإن الله لوليُّ ما سألت عنه.

فقال جَرَجَة: صدقتني؛ وقلب الترس ومال مع خالد، وقال: علمني الإسلام، فمال به خالد إلى فسطاطه، فشن عليه قربة من ماء، ثم صلى ركعتين. وركب خالد ومعه جرجة، والروم خلال المسلمين؛ فزحف خالد بالناس حتى تصافحوا بالسيوف، فضرب فيهم خالد وجرجة من لدن ارتفاع النهار إلى جنوح الشمس للغروب، ثم أصيب جرجة ولم يصل صلاة سجد فيها إلا الركعتين اللتين أسلم عليهما. اهـ

فلا يأس من الكافر يا بُني ما دام حياً.

الشاب: لئن كان لا يأس من الكافر ما دام حيّاً، فأحرى أنه لا يأس من أهل التوحيد المقصرين كحالنا، ما دمنا على قيد الحياة.

الشيخ: هو كما ذكرت، ولكن حذارِ من التعلل بالآمال عن الأعمال، وبالتسويف عن المبادرة، فإن ذلك مِن غُرور الغَرور.

وإلا فإذا صحّ العزم وصدقه العمل، فإن سعة رحمة الله سبحانه أعظم من كل ما تبلغه آمالك.

وشواهد ذلك متوافرة في صريح القرآن وصحيح السنة.

الشاب: هل من بيان لبعض ذلك؟

الشيخ: أجل؛ قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]

وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لا. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاختَصَمَتْ فِيهِ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلائِكَةُ الْعَذَابِ؛ فَقَالَتْ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلائِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلائِكَةُ الرَّحْمَةِ.

فلا يأس من أهل التوحيد ما داموا أحياء بحمد الله.

بل أزيدك أنه لا يأس من أهل التوحيد المفرطين، وإن ماتوا على التفريط.

الشاب: سبحان الله! هذا باب رجاء عريض.

الشيخ: أجل؛ فإن أهل السنة لا يقطعون لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، أو عليه بالنار، ولكننا نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء.

وعمدتنا في ذلك النص المقدس، الذي هو – كما أسلفنا – معيار الخطأ والصواب، والحق والباطل عند المسلم، يزن به كل فكرة أو رؤية.

الشاب: وما هي هذه النصوص المقدسة التي تطرد القنوط واليأس، وتنعش الأمل والرجاء لأهل التوحيد الذين ماتوا على تفريط؟.

الشيخ: لا تنس يا بُني أن هذه النصوص التي تنعش الأمل عند أهل التفريط، هي – في نفس الوقت – تبعث الخوف في قلوب السابقين والمقربين الذين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}. [المؤمنون: 60]

وقد قلنا آنفاً: إننا نرجو للمحسن، ولكن لا نقطع له بالنجاة، ونخاف على المسيء، ولكننا لا نقطع له بالهلكة.

ومن تلك النصوص التي تسأل عنها:

حديث مسلم عَنْ جُنْدَبٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدَّثَ أَنَّ رَجُلا قَالَ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ. وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ؟! فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ.

وحديث الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ: فَإِذَا مَاتَ فَحَرِّقُوهُ وَاذرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرِّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْر، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا لا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، وَأَمَرَ الْبَرَّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ خشْيَتِكَ وَأَنْتَ أَعْلَمُ. فَغَفَرَ لَهُ.

وحديث الترمذي والحاكم، عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاً، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَر، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لا يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لا تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاتُ فِي كِفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ، فَطَاشَت السِّجِلاتُ وَثَقُلَت الْبِطَاقَة. فَلا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ.) حسّنه الترمذي، وصححه الحاكم.

وجاء في تاريخ ابن كثير، في وفيات سنة أربع وتسعين من الهجرة، في ترجمة زين العابدين، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم:

[ومات لرجل ولدٌ مسرف على نفسه، فجزع عليه من أجل إسرافه، فقال له علي بن الحسين: إن من وراء ابنك خلالا ثلاثا، شهادة أن لا إله إلا الله، وشفاعة رسول الله، ورحمة الله عز وجل. اهـ

فهل يصح بعد كل هذا يا بُني أن نتصور أن الله سبحانه يحب الشقاء والعذاب لخلقه؟!!

الشاب: جزاك الله خيراً، فقد بعثتَ الأمل في نفسي بعد يأس، وملأت قلبي بحب ربي، فلقد سألتك حين سألتك عما إذا كان الله سبحانه يحب الشقاء لخلقه، وإني لأعُدُّ نفسي ممن يحب الله عذابهم وشقاءهم، ولطالما حال ذلك بيني وبين التوبة والاستقامة.

فأما الآن فقد عرفتُ مِن تَوَدُّدِ ربي وحلمه ورحمته، ما يغريني بالإقبال عليه، وحط الرحال والأثقال ببابه، فهذا أوان الانتهاء والاهتداء.

الشيخ: لقد ذكرتني يا بُنَيّ بقولك هذا، قولَ ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، عندما قال معتذراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان منه من إساءة قبل إسلامه:

لعمرُك إني يوم أحمل راية=لتغلبَ خيلُ اللات خيلَ محمدِ

لكَالمُدْلِج الحيرانِ أظلمَ ليلُه= فهذا أواني حين أُهدَى فاهتدي.

الشاب: الحمد لله على سعة رحمته وعظيم حِلمه على عَبيده.

الشيخ: بقي أن أزيدك في دلائل سعة رحمة الله لأهل التوحيد، أنه حتى الذين يعذبون في النار منهم، فإنهم لا يُخَلَّدون فيها، بل يُعَذَّبون ما شاء الله بذنوبهم، ثم يُخَلَّدون في الجنة بتوحيدهم.

والدليل على ذلك أحاديث؛ منها:

(حديث الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّار، يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيَخْرُجُونَ قَدْ امْتُحِشُوا وَعَادُوا حُمَمًا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ. أَوْ قَال: َ حَمِيَّةِ السَّيْل.)

امْتُحِشُوا: احترقوا حتى ظهرت عظامهم.

الحِبَّة بكسر الحاء: بُزُور البُقُول والعشب وحَبُّ الرياحين، تنبت في البراري وجوانب السيول، وجمعها حِبَب بكسر الحاء المهملة وفتح الباء، فأما الحَبَّة بالفتح فهي كالحِنْطَة والشعير، وجمعها: حُبوب.

حَمِيل السيل: بفتح الحاء وكسر الميم، وهو ما جاء به السيل من طين أو غثاء.

ومنها: حديث الطبراني في المعجم الأوسط، بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أناساً من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم، فيقول لهم أهل اللات والعزى: ما أغنى عنكم قولكم: لا إله إلا الله وأنتم معنا في النار؟، فيغضب الله لهم، فيخرجهم، فيلقيهم في نهر الحياة، فيبرؤون من حَرَقِهم كما يبرأ القمر من كسوفه، فيدخلون الجنة، ويسمون فيها الجهنميين)

فاللهم ثبتنا على شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.

عليها نحيا وعليها نموت، وعليها نُبعث إن شاء الله من الآمنين.

تمت والحمد لله رب العالمين.

والله أعلم.

الحلقة السابقة هـــنا

(المصدر: رابطة العلماء السوريين)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى