مقالاتمقالات مختارة

التطبيع بين السنة وفرض العين

التطبيع بين السنة وفرض العين

بقلم د. عزت السيد أحمد

أعيدُ نشر هٰذا المقال تعليقاً عَلىٰ مظاهر التطبيع التي صار يتم الإعلان عنها في الأيام الأخير، واسمحوا بداية تبيان أنَّ هٰذا المقال فصل من كتابي: انهيار أسطورة السلام؛ مصير السلام العربي الإسرائيلي، الذي صدر بطبعته الأولى في عام 1995م، وكانت الطبعة الثانية منه في عام 2001م، وَلِذٰلكَ تمت إضافة بعض الشواهد بَيْنَ الطبعتين.

إنَّ ما أنفق من مال ووقت وجهد وتخطيط… على الخلاف العربي العربي، والكيد العربي العربي، والمؤامرات العربيَّة العربيَّة… يفوق ما أنفق على الصراع العربي الإسرائيلي بملايين المرَّات.

لعلَّنا لا نأتي بجديد إذا قلنا إنَّ مشكلات العالم العربي، ومشكلات العرب مع العرب بشكل خاص، مرتبطة بشكل صميمي بزرع الكيان الصِّهيوني في قلب الوطن العربيِّ، فباسم القضية الفلسطينيَّة، وتحرير فلسطين، والدِّفاع عن قداسة القدس والأقصى؛ تحارب العرب مع كلِّ العرب، وتعزَّزت الحدود وتمتَّنت، وتكرَّست القطريَّة وتجذَّرت، وحَوَّلَ العربُ مواجهاتهم وتحدياتهم للقضاء على التَّخلف والفقر والاستعمار… إلى مواجهات ضدَّ بعضهم، فكثرت الأحلاف والمعسكرات التي تتغير أطرافها بين العشية وضحاها بما يدلُّ على مدى عمق المبادئ والغايات الَّتي قامت عليها هذه الأحلاف!!!

الطَّريف في الأمر أنَّ ما أنفق من مال ووقت وجهد… على الخلاف العربي العربي، والكيد العربي العربي، والمؤامرات العربيَّة العربيَّة… يفوق ما أنفق على الصِّراع العربيِّ الإسرائيليِّ بملايين المرَّات، على الرُّغم من أنَّ الخلاف دائر على القضيَّة الفلسطينيَّةِ والصِّراع العربيِّ الإسرائيليِّ. والأساليب الَّتي تحارب بها العرب أو تخاصموا تمتَّعت بدهاءٍ وحنكة لو استخدم عُشْرِ عُشْرِهَا في الحرب مع إسرائيل لكانت إسرائيل غير موجودة منذ زمن طويل… وعلى الرَّغْمِ من ذلك كلِّه لم يتورَّع بعض الحكام العرب عن إقامة علاقات سريَّة مع الكيان الصهيوني منذ قيام إسرائيل أو بعد بأقلِّ القليل، إلى جانب العلاقات الَّتي كانت قائمة بين الحركة الصهيونية وبعض الحكام العرب منذ ما قبل قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. ولقد كانت هذه العلاقات السَّرية على درجة من الكثرة جعلت من الصَّعب حصرها في مجلد واحد، فما استطاع محمد حسنين هيكل جمعه كان في ثلاثة مجلدات ضخمة([1])  حملت عنوان: المفاوضات السِّرية بين العرب وإسرائيل، وكان من الصَّعب أيضاً أن يستطيع باحث واحد الوقوف على كلِّ هذه العلاقات فتصدى آخرون لتأريخها منهم شارل أندرلين الذي وضع كتاباً في مجلدين ضخمين اسمه أسرار المفاوضات الإسرائيلية العربية من 1917م حتى 1997م([2]).

ولو اقتصر الأمرُ على إقامة العلاقات السرِّية، على كثرتها المدهشة وخفاياها المريعة، لكان في الأمر ما يمكن أن يبتلع على مرارته، ولكن تجاوزا ذلك إلى تقديم الخدمات والأسرار الاستراتيجية إلى إسرائيل كي تعزز مواقعها وقوتها في حربها ضدَّ العرب، والأمثلة على ذلك، لشديد الأسف جدُّ كثيرة. وقد أمست من الشُّهرة بمكان لا يستوجب تكرارها. ولكنَّنا لا نستطيع إلا أن نذكر على سبيل المثال أنَّ إسرائيل تقوم على المال العربي بشكل خاص، سيان ما كان يصلها بشكل مضمر وغير مباشر من دول الخليج وخاصة السعودية والإمارات والكويت، أو ما يصلها على نحوٍ علني غير مباشر من السعودية تحديداً مثل ما حدث في أثناء حرب تحرير الكويت وهذا ما بات مفضوحاً بما يتعذر تكذيبه أو ستر عورته. ومن الأمثلة أيضاً قيام الملك حسين بن طلال في عام 1973م بتحذير جولدمائير من (تآمر) سوريا ومصر على إسرائيل، والتَّخطيط لشنِّ حرب عليها. وقيام السَّادات، بغضِّ النَّظر عن فعاله الكثيرة، بإهداء إسرائيل الأسلحة الَّتي كان يحارب بها لتعرف أسرارها، الأمر الذي أدى مباشرة إلى انكشاف السِّلاح العربي كلِّه أمام إسرائيل وإخفاقه الأكيد في أيِّ مواجهة، وهذا ما حدث في أثناء غزو لبنان مع الجيش السُّوري الذي أُسْقِطَ في يده بسبب انكشاف أسرار سلاحه، ولا سِيَّمَا أنَّه لم يأخذ الفرصة الكافية لدرء خطر هذا الانكشاف.

ومن الأمثلة الطَّريفة على ذلك خبر تناقلته وسائل الإعلام في السابع والثامن من شباط عام 2000م عنوانه: (جريدة إسرائيلية تقول: المخابرات الأردنيَّة تفوقت على الموساد)، وفيه: «ذكرت جريدة (جيروزاليم بوست) الإسرائيلية نقلاً عن تقرير صحفي أمريكي أن جهاز المخابرات الأردني أصبح أهمَّ شريك لوكالة المخابرات الأمريكيَّة (سي أي إيه) في التَّصدي لمن سمَّتهم (الإرهابيين الإسلاميين)… مشيرة إلى أنَّ المخابرات الأردنية تفوقت في هذا الشَّأن على جهاز الموساد الإسرائيلي… وأصبحت أهميتهم تزيد بكثير عن الأهمية التي يتَّصف بها الإسرائيليون أنفسهم في مجال مكافحة (الإرهابيين الإسلاميين)([3]).

الأكثر طرافة من ذلك أنَّ ذلك كلُّه كان مترافقاً مع ادِّعاء كلِّ دولة عربيَّة أنَّها الأمُّ الرؤوم للفلسطينيين، والأكثر حرصاً على فلسطين، والأكثر سعياً لتحرير فلسطين، والأكثر تضحية من أجل فلسطين… والذي يوصل الطَّرافة والغرابة والإدهاش إلى ما يفوق حدود الخيال؛ أخصب خيال، أنَّه لم تكد الظروف الدُّوليَّة تضع دول الطوق، أو المواجهة، وهي فلسطين وسوريا ولبنان تحديداً، أمام خيار وحيد هو مفاوضات السَّلام… حتَّى تهافتت كثير من الدول العربية على الارتماء في أحضان إسرائيل ارتماءً، لا مجرد إقامة علاقات سياسية أو تجارية أو غيرها…

إنَّ تتبع هذه الارتماءات يُشْعِرُ وكأن الارتماء في أحضان الكيان الصِّهيوني هو الذي يعيد الشباب إلى الأشياخ، أو ينفخ الأرواح في الأجساد. وعند مساءلة هؤلاء المرتمين في أحضان إسرائيل عن الأسباب الَّتي دفعتهم إلى ذلك تتفاوت أجوبتهم بين حدَّين أحلاهما مرٌّ، وأقلهما يضع العقل في الكف حيرة:

فبعضهم، باسم الاستقلاليَّة والإرادة الحرة، يمنع حق المساءلة حتَّى على أبناء شعب قطره، ويفرض التَّطبيع مع الكيان الصهيوني على شعبه بصور تبدأ بالتمهيدات اللبقة مثل الجزائر، والمغرب، ومصر إلى حد ما، ومعظم دول الخليج العربي، وتنتهي بالإكراه كما في الأردن وقطر وموريتانيا وغيرها.

وبعض آخر يعلن بلا أدنى وجل أو حياء أو حذر أنَّ العلاقات مع إسرائيل ستقوم بغض النَّظر عن أيِّ نتائج للمفاوضات. ففي التَّاسع من شهر أيلول عام 2000م اختتمت ما سميت بقمَّة الألفيَّة، وهناك التقى أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني برئيس وزراء إسرائيل إيهود باراك لقاءً وصفه ناطقٌ إسرائيلي بأنَّه لقاء حار سادته روح المحبة والصداقة. وقد علق وزير الخارجية القطري على (الاحتجاجات العربيَّة) بقوله: إن قطر لا تأخذ إذناً من أحد للاجتماع بباراك. وعلاقاتنا مع إسرائيل ستقوم مهما كانت نتيجة المفاوضات([4]).

وبعضهم يسوِّغون ذلك بأنَّهم يقيمون العلاقات مع إسرائيل لأنَّ مصالحهم الاقتصادية والسياسيَّة تقتضي ذلك. ومنهم على سبيل المثال موريتانيا، التي احتجت بأنَّها ستموت من الجوع، وربما يطردها الله من رحمته، إن لم تقم العلاقات الوثيقة مع إسرائيل… وكأن العرب لم تقل يوماً:

«تموت الحرة ولا تأكل بثدييها»

وكأنَّ العرب لم تقل([5]):

عِـشْ عَزِيْزاً أوْ مُتْ وَأَنْتَ كَرِيْمٌ

بَيْنَ طَـعْنِ القَـنَا وَخَـفْقِ البُنُوْدِ

وكأنَّ العرب لم تقل([6]):

رَأَيْتُ الْحُـرَّ يَجْـتَنِبُ الْمَخَازِي

وَ يَحْمِيْهِ عَـنِ الغَـدْرِ الوَفَـاءُ

وَ مَا مِـنْ شِـدَّةٍ إلاَّ سَــيَأْتِي

لَهَـا مِـنْ بَعْدِ شِـدَّتِهَا رَخَـاءُ

وكأنَّ العرب لم تقل، ولم تقل، ولم تقل…

والأدهى من ذلك كلِّ أنَّ بعضهم وثب فوق كلِّ جدران الأخلاق والأعراف والمنطق والتاريخ والجغرافية وعمدوا إلى إقامة أحلاف عسكرية مع إسرائيل، والقيام بمناورات عسكرية مشتركة، وعلى رأس هذا الفريق المملكة الأردنية التي قامت بالعديد من المناورات العسكرية المشتركة والمعارك الافتراضية، منذ سنوات، بالإضافة إلى الولايات المتحدة وتركيا. وكلُّ ذلك في العلن الذي تناقلته كل وسائل الإعلام الإعلامية. ومما تناقلته وسائل الإعلام أيضاً في أواخر عام 2000م أنَّ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عاكف دراسة مشروع تعاون ثلاثي: جزائري تركي إسرائيلي، تقدمت به الولايات المتحدة وتركيا، وإسرائيل من دون شك. ورجحت ميله إلى الاستفادة من النفوذ الإسرائيلي لتحسين الاستحقاقات الدوليَّة لعهده السياسي([7]).

وبعض آخر راح يفكر في الأساليب المناسبة لكسب ود إسرائيل ورضاها، فخرجوا علينا بحيل ظنوها ذكية تنطلي علينا، فأمير البحرين عين نائباً يهوديًّا في آخر برلمان شكَّله قبل إصلاحاته الأخيرة، بزعم أنَّه ممثل للجالية اليهودية في البحرين. أما بوتفليقة فقد منح الممثل الفرنسي اليهودي روجيه حنين وسام الاستحقاق الوطني الذهبي بدرجة (عشير)، تنويهاً بأعماله الفنية الهادفة إلى التَّواصل بين الشعبين الفرنسي والجزائري، متجاهلاً التفكير بإقامة ولو قليل من التواصل الجزائري الجزائري على الأقل، لا الجزائري العربي، ولا الجزائري الإسلامي!!!([8]).

والآخرون، ومعهم السَّابقون، يتذرعون بأن الدُّول التي كانت تحارب إسرائيل قد أقامت العلاقات معها، فلماذا يحق لفريق ما لا يحق لغيره ؟

إنَّ الإجابات كلِّها منطقيَّة تماماً لا غبار عليها أبداً فيما لو كانت مشكلة التطبيع والعلاقات مع غير الكيان الصهيوني، بل أكثر من ذلك لو كان الأمر يخص العلاقات مع أي دولة في العالم غير الكيان الصهيوني لما كانت ثمَّة ما يدعو أيِّ دولة إلى تقديم أي تسويغ لهذه العلاقات، بل لما كان ثمَّة ما يسمح بطرح التَّساؤلات عن سبب هذه العلاقات. أمَّا أن تكون العلاقات مع إسرائيل فهذا ما لا يمكن أن يمر من دون ملايين موجبات السؤال، والاحتجاج، والاستنكار من كلِّ عربي أينما كان، لأنَّ موانع التَّطبيع مع إسرائيل ومعيقاته أكثر من أن تعدَّ أو تحصى، وكلَّما تلاشى مانع نبعت موانع لا تتلاشى!!

فإذا كان معظم الحكام العرب، وندرة نادرة من الشعب العربي، قد ارتضوا بالرغبة الصهيونيَّة وتنازلوا عن الأرض، على الرُّغم من أنَّ الأرض تساوي العِرض، بذريعة أنَّ ما سمي بالشرعية الدوليَّة هي التي قررت ذلك، فإنَّنا سنقرهم على ذلك جدلاً، لا حقيقةً، ونلتمس لتنازلهم عن الأرض الأعذار… ونتساءل: ما الذي يدعو أو يوجب أو يمكن أن يفرض علينا إقامة أي نوع من العلاقة: سياسيَّة، اقتصاديَّة، سياحيَّة… مع كيان اغتصب أرضنا وتنازلنا له عن هذه الأرض راضين أو مرغمين؟؟! أليس يعني ذلك سرورنا وفرحنا بأنَّه اغتصب أرضنا؟ وأيُّ شعب، أو أمَّة سنكون إذا كنَّا نفرح ونسرُّ ممن يغتصب أرضنا وينتهك عرضنا؟؟!!

ومن ثمَّ إذا كانت دول الطَّوق، أو المواجهة ملزمة بإقامة حدٍّ أدنى، أو معين من العلاقات مع الكيان الصهيوني لتأكيد حسن النوايا في إقامة السَّلام، فما الذي يدعو دولاً عربيَّة تفصل بينها وبين إسرائيل عشرات الدُّول إلى إقامة علاقات مع إسرائيل؟ قد يكون الجواب إنَّ إسرائيل دولة مثل أيِّ دولة لا يوجد ما يمنع من إقامة العلاقات معها، أو إنَّ إقامة العلاقات معها ستحقق بعض المكاسب الاقتصاديَّة، أو للأمرين معاً.

سَنُسَلِّمُ جدلاً أيضاً لا حقيقة بأنَّ إسرائيل دولة كأيِّ دولة، فهل من الضَّرورة أن تقوم العلاقات بين كل الدُّول؟ وهل كلُّ دولة مطالبة بأن تقيم علاقات مع كلِّ دولة؟ ومن ثمَّ هل ضاقت الدُّنيا بالعرب فلم يجدوا في العالم كلِّه دولة إلا إسرائيل التي تكن كلَّ الحقد للعرب، وتشكل أكبر خطر على الوجود العربي.. كي يقيموا أو يطبعوا العلاقات معها؟؟!! أليس في الأمر ما يدعو إلى وضع كثيرٍ من علامات الاستفهام والتَّعجب؟

إذن حتَّى ولو عددنا إسرائيل دولةً مثل أيِّ دولة فليس ثمَّة ما يدعو إلى عدِّ إقامة العلاقات معها ضربة لازم، أو مثابةً بفضلها تدخل النَّاس الجنَّة.

الذريعة الأخيرة التي بقيت للمهرولين هي تحقيق المكاسب وتعزيز المصالح الاقتصاديَّة، ونحن نسلم حقيقة لا جدلاً بأنَّ من حقِّ الدول العربية، كأي دولة، أن تبحث عن مصالحها. والسؤال الذي يخطر في البال فوراً، وهو الذي يطرحه الشارع العربي من محيطه إلى خليجه:

هل من الضَّرورة أن تكون هناك علاقات اقتصاديَّة بين كل الدُّول؟ وهل كلُّ دولة مطالبة بأن تقيم علاقات اقتصادية مع كلِّ دولة؟ ومن ثمَّ هل ضاقت الدُّنيا بالعرب فلم يجدوا في العالم كلِّه دولة إلا إسرائيل؛ أعدى أعداء العرب وأخطرهم على الوجود العربي.. كي يقيموا العلاقات الاقتصاديَّة معها؟؟!! ومن ثمَّ أيضاً هل انحصرت مكاسب العرب ومصالحهم الاقتصاديَّة بإسرائيل دون دول العالم كلها؟؟ هنا لا يمكن التَّسليم لا جدلا ولا حقيقة بأنَّ العرب يمكن أن يستفيدوا من العلاقة مع إسرائيل، والأدلَّة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى، وقبل أن أقدِّم أي مثال أدعو من كان يعرف مثالاً واحداً عن إخلاص الكيان الصهيوني أو صدقه في التَّعامل مع أيِّ دولة عربيَّة؛ مهرولة أو غير مهرولة، مطبعة أو غير مطبعة، أن يعرفنا به.

لقد كان السادات أوَّل الموقعين والمطبعين، وقد شهد قبل اغتياله نتيجة التطبيع، فقد كشفت الوثائق أن تاريخ العلاقات الاقتصاديَّة بين مصر وإسرائيل هو تاريخ نشر مخدرات، ونشر الأيدز، وفساد إداري، وأغذية فاسدة، أو مجرثمة، أو مؤديَّة إلى العقم، أو مهيجة جنسيًّا، أو مثبطة جنسيًّا… وهلمَّ جرًّا مما فرض على الشَّارع المصري الفقير، الذي هو بأمس الحاجة إلى اللقمة الأرخص، أن يرفض التَّطبيع، ويحاربه، ويحارب أي نوع من العلاقة مع إسرائيل.

وإذا ما انتقلنا إلى الأردن لم يختلف التَّعامل أبداً، ويكفينا من ذلك أن نشير إلى أنَّ إسرائيل قد التزمت بتزويد الأردن بالمياه؛ مياه الشرب، في اتفاقية السَّلام، وعندما ضخت المياه إلى الأردن ضخت مياه أسيقتها وقاذوراتها بذريعة أنَّ الاتفاقيَّة تنص على أن تقوم إسرائيل بتزويد الأردن بالمياه من دون تحديد نوع المياه، وكأنَّ أسيقة الأردن بحاجة إلى أن تجري فيها القاذورات الصهيونيَّة!!

أمَّا المكاسب التي حققتها موريتانيا فهي دفن النِّفايات النَّوويَّة الإسرائيليَّة في أراضيها كما أشارت معظم وسائل الإعلام العالميَّة منذ أشهر. وإذا ما انتقلنا إلى المغرب وجدنا أنَّ المكاسب التي حققتها هي تلف المحاصيل الزراعيَّة كلَّما استوردت البذور من إسرائيل لأنَّ البذور حاملة لأمراض تمنعها من الإثمار…!!! هذه عيِّنة جدُّ صغيرة من أساليب العلاقات الاقتصاديَّة مع إسرائيل، فأي مكاسب هي التي يمكن أي يحققها العرب من علاقاتهم مع إسرائيل؟ وأي مصالح اقتصاديَّة هذه الَّتي يمكن أن تقوم بين العرب وإسرائيل؟

لقد كتبنا عن بنية العقليَّة اليهوديَّة في غير هذا الموقع، وبرهنا تعذر قيام السلام معها، وبغض النَّظر عن هذه البنية، مع تعذر ذلك، بأي منطق قبل بعض العرب، أو اقتنعوا بأنَّ مصالحهم تكمن في العلاقة مع إسرائيل، وكلُّ ما ذكرنا حقائق إن خفيت على الجاهل، فلا يمكن أن تخفى على نصف عاقل؟ وهي قديمة لا جديدة.

إنَّ المنطق؛ أي منطق، يقف حائراً أمام السلوك العربي، فعل الرُّغم من كلِّ ذلك، وعلى الرُّغم من كلِّ الوثائق التي تثبت هذه الحقائق الساطعة النَّاصعة، يطلع كلَّ يوم مسؤول عربي ليعلن أنَّ بلده لن يقيم علاقات مع إسرائيل قبل إتمام مفاوضات السلام مع سوريا، على أساس أنَّه يدعم الموقف السوري، وكأن إقامة العلاقات مع إسرائيل سنَّة نبوية شريفة، أو فرض عين لا فرض كفاية، أو عبادة واجبة لا تصحُّ طاعة الله من دونها!!! فولي عهد البحرين (الشيخ) سلمان بن حمد آل خليفة قال في تصريح نشرته جريدة الحياة في الأول من شباط عام 2000م: «إذا كان الإسرائيليون صادقين في عملية السلام سنسير خطوتين كلما ساروا خطوة واحدة»([9])!!! وفي السابع عشر من أيار 2000م يعلن الرئيس الجزائري بوتفليقة قائلاً: «لا علاقات جزائرية مع إسرائيل ما لم تنسحب من الجنوب والجولان»([10]).

ويتجاوز بعضهم ذلك كلَّه فيعلن أنَّ بلده سيقيم العلاقات مع إسرائيل مهما كانت نتائج مفاوضات السلام، وكأنَّ قطع العلاقات مع إسرائيل كفرٌ صريح… وكأنَّ ما سبق من ادعاء مقاطعة إسرائيل ضرب من الفسق، أو الفجور، أو الزَّندقة، أو كلها مجتمعة!!!

فهل نلوم إسرائيل إذا ذبحت في فلسطين أبناءنا، وتوراتهم تقول لهم إنَّ قتل العرب عبادة واجبة؟؟!!

لا أظنُّنا نستطيع ذلك لأنَّنا سمحنا لإسرائيل أن تقتل العرب البعيدين عن إسرائيل، فكيف نحتجُّ على تفعله ضمن ما يسمى إسرائيل؟

هذا في حقيقة الأمر ما يبين لنا لماذا يأتي الاحتجاج على الهمجيَّة الإسرائيلية من الأجانب عنيفاً، فيما يأتي احتجاج العرب رخواً، (مقطوع الحيل)، كلُّه حياء وخجل… ونعود فنسأل بمرارة:

أليس عصرنا عصر الجنون؟!!

أو أليس مجنوناً هذا الزمان الذي يحتوينا؟

أم أنَّ العالم يسير وفق المنطق والعقل، وبعدنا الشَّاسع عن المنطق والعقل هو الذي يجعلنا نرى العالم مجنوناً، والزَّمان مجنوناً… ونريد أن نقنع أنفسنا والعالم أنَّ الجنون هو عينُ العقل، ولبُّ المنطق؟؟!!

الحقيقة مختصرة بجملة واحدة: ملة الكفر واحد. هدفهم واحد وعدوهم واحد وَلِذٰلكَ لا يجدون غير إسرائيل من بَيْنَ دول العالم لتوثيق العلاقات معها.


([1])  ـ محمد حسنين هيكل: علاقات العرب السرية مع إسرائيل.

([2])  ـ شارل أندرلين: أسرار المفاوضات الإسرائيلية العربية ـ ترجمة صياح جهيم ـ دار الفاضل ـ دمشق.

([3])  ـ انظر مثلا: جريدة الاتحاد ـ أبو ظبي ـ العدد 8983 ـ الثلاثاء 3 ذو القعدة 1420هـ الموافق لـ 8 شباط 2000م ـ ص22.

([4])  ـ انظر مثلاً: هشام حسين أبو حشيش: أمير قطر في الجانب الإسرائيلي حتى لو فشلت عملية السلام ـ ضمن جريدة الكفاح العربي ـ بيروت ـ عدد 20/9/2000م.

([5] ) ـ البيت للمتنبي، انظر ديوانه.

([6] ) ـ البيتان لأبي تمام، انظر ديوانه.

([7])  ـ انظر مثلا: جريدة الأخبار العربية ـ بيروت ـ العدد 8 ـ 4 تشرين الأول 2000م.

([8])  ـ محمد مقدم: بوتفليقة يقلد ممثلاً فرنسيا يودياً وساماً ـ ضمن جريدة الحياة ـ لندن ـ العدد 13703 ـ الأحد 19 جمادى الثانية 1421هـ الموافق لـ 17 أيلول 2000م.

([9])  ـ إبراهيم خياط: ولي عهد البحرين لـ الحياة: كل خطوة إسرائيلية نقابلها بخطوتين ـ ضمن جريدة الحياة ـ لندن ـ العدد 13475 ـ الثلاثاء 26 شوال 1420هـ الموافق لـ 1 شباط 2000م.

([10])  ـ انظر مثلا: جريدة الديار ـ بيروت ـ العدد 4183 ـ الخميس 18 أيار 2000م.

(المصدر: رسالة بوست)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى