أفكار في حوار…في التحصين من الإلحاد (3)
بقلم إبراهيم منصور
الشاب: حقيقة جلية واضحة، فما الحقيقة الثانية؟
الشيخ: (الحقيقة الثانية: أن كثيرا من هذا الذي تراه من النكبات والزلازل والجوائح والفتن وسفك الدماء، ليس شرا محضاً، ولا يدل ضرورة على الشقاء الأبدي لضحاياه والمتضررين به، بل إنَّ له – من خلال الرؤية الإيمانية – وجوهًا من الرحمة والخير والسعادة، على ما في ظاهره من العذاب والشر والنُّكر.)
الشاب: رحمة وخير وسعادة، في المصائب والفتن وسفك الدماء؟؟!! هذا شيء عُجاب.!
الشيخ: أجل، إنها وجوه من الخير والرحمة والسعادة، وليست وجها واحدا، وذلك من خلال الرؤية الإيمانية التي تُعَلمنا أن المنحة قد تكون مغلفة بمحنة، وأن المنع قد يكون عينَ العطاء.!
الشاب: هل من بيان لهذه الوجوه، وتوضيح لهذا الغموض؟!
الشيخ: أجل، إن المحنة تكون منحة باعتبارات ووجوه عدة، أبرزها وجهان:
الوجه الأول: أن هذه الزلازل والنوازل والمصائب هي بمثابة الوخز الأليم الذي يُنبه ويُفْزع الغافل السادر، ويرد إلى الله العبد الآبق، الذي لم يُجْدِ معه الوخز الرفيق والعتاب الرقيق، فتأتي تلك الجوائح والنكبات لتَحمل الناس على التوبة والتصحيح والإنابة إلى حظيرة الحق.
وذلك عين السعادة والخير والرحمة لمن تاب.
فإذا استفاق العباد وأنابوا، كان ما أدركوه من أجر الإنابة وفضلها وحُسن عاقبتها، أعظمَ مما فاتهم بذلك الترويع والفزع والمصائب.
ويشهد لهذا الوجه من الخير في المصائب آيات منها:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: 42]
وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف: 94]
وقوله سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]
فُسِّر الفسادُ المذكور في الآية باحتباس الغيث، وقلة الثمار، وذهاب البركة، وغلاء الأسعار، وإخافة السبيل، والهرج والمرج..
وقوله سبحانه: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]
وقوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 48]
الوجه الثاني: أن العبد إذا أحسن التعامل مع هذه المصائب والفتن والابتلاءات، بأن صبر واحتسب، وعلم أن كل ذلك من عند الله، فرضي وسلّم وأخبت، كانت هذه الأقدار المكروهة كفاراتٍ لسيئاته ورفعاً لدرجاته، وذلك خير على خير.
فلم تَعُدْ مظاهر النقمة والبلاء الإلهي دليلاً على حتمية شقاء من نالهم شيء من ذلك، بل قد تكون من دلائل القرب والخيرية.
وتلك رؤية إيمانية، لا حظَّ فيها لمن حجب نفسه بالوقائع المادية عما وراءها من المعاني والدلالات الإيمانية الإيجابية التي يرى فيها المؤمن من الخير والبِشْر، ما لا يراه الناظرون.
والأحاديث التي تشهد لهذه الرؤية كثيرة صريحة صحيحة، مبثوثة في كتب السنة وأبواب العلم، منها:
روى البخاري عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ).
معناه: يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها.
أورد البخاري هذا الحديث في كتاب (المرضى) من صحيحه. وعقد له بابا قال فيه: “باب ما جاء في كفارة المرض”
روى البخاري من حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًىً إِلا حَاتَّ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَر).
روى مسلم عَنْ صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَه).
ترجم النووي لهذا الحديث في شرح مسلم بقوله: (بابٌ. المؤمنُ أمرُه كلُّه خير)
أخرج أَحْمَد مِنْ حَدِيث مَحْمُود بْن لَبِيد، رَفَعَهُ: (إِذَا أَحَبَّ اللَّه قَوْمًا اِبْتَلاهُمْ، فَمَنْ صَبَرَ فَلَهُ الصَّبْر وَمَنْ جَزَع فَلَهُ الْجَزَع). وَرُوَاته ثِقَات.
روى أحمد وأبو داود بسند رجاله ثقات، عن أبي خالد السلمي، رضي الله عنه، مرفوعاً: (إِنَّ الْعَبْد إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّه مَنْزِلَة فَلَمْ يَبْلُغهَا بِعَمَلٍ، اِبْتَلاهُ اللَّه فِي جَسَده أَوْ وَلَده أَوْ مَاله ثُمَّ صَبَّرَه عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَبْلُغ تِلْكَ الْمَنْزِلَة).
جاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة، جعل الله عذابها في الدنيا القتل والزلازل والفتن). قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، بعد أن أورد بعض هذه الأحاديث:
[وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيث بِشَارَة عَظِيمَة لِكُلِّ مُؤْمِن، لأَنَّ الآدَمِيّ لا يَنْفَكّ غَالِبًا مِنْ أَلَم بِسَبَب مَرَض أَوْ هَمّ أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ، وَأَنَّ الأَمْرَاض وَالأَوْجَاع وَالآلام – بَدَنِيَّة كَانَتْ أَوْ قَلْبِيَّة – تُكَفِّر ذُنُوب مَنْ تَقَع لَهُ.] اهـ.
ومن المأثور الذي أورده أهل التفسير، عن عمر رضي الله عنه، قوله: ما ابتلاني الله بمصيبة إلا رأيت لله فيها عليَّ ثلاث نعم، إحداها: أنها لم تكن في ديني. الثانية: أنها لم تكن أكبر منها. الثالثة: ما وعد الله عليها من الثواب. ثم قرأ رضي الله عنه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة]
الشاب: جزاك الله خيرا. هذه حقيقة أخرى جلية، فما الحقيقة الثالثة؟
وللحوار تتمة في الجزء الرابع إن شاء الله
الحلقة السابقة هـــنا
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)