مقالاتمقالات مختارة

بن بيه ودبلوماسية السلم ومقايضته بالعدل

بن بيه ودبلوماسية السلم ومقايضته بالعدل

بقلم معنز الخطيب

أوضحت في مقالات سابقة كيف أن مشروع الشيخ عبد الله بن بيه يقوم على إيجاد الأساس النظري والرمزية الدينية للثورة المضادة، وقد قام مشروعه على مقولتين مركزيتين؛ الأولى “تحقيق المناط” وقد خصصت لها مقالا سابقا، والثانية مقولة السلم مقدم على العدل، وهي المقولة التي يناقشها هذا المقال.

دأبت أنظمة الاستبداد في المنطقة العربية على تقديم نفسها على أنها تحقق وظيفتين لدول الغرب؛ أنها صمام الأمان والاستقرار الداخلي من جهة، والعقبة التي تحول دون وصول الإسلاميين إلى السلطة من جهة أخرى. وقد أكد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك هذا المعنى في خطابه بعد ثورة يناير/كانون الثاني حيث طرح ثنائية “أنا أو الفوضى”، وهي الثنائية التي كررها آخرون من بعده وصولا إلى عبد الفتاح السيسي الرئيس الذي انقلب على الديمقراطية؛ بحجة حماية الدولة، وإذا كانت بعض هذه الأنظمة قد دأبت -قبل الثورات- على افتعال حوادث عنف هنا وهناك كأحد آليات تأكيد تلك المقولة، فإنها عملت -خلال الثورات العربية- على الاستثمار في جماعات العنف؛ لتأكيد شرعية بقائها وأن البديل أسوأ (نظام بشار الأسد أبرز مثال هنا)، وفي هذا السياق باتت سوريا والعراق نموذجين يُلوح بهما لإسكات الأصوات المعارضة أو الناقدة.

يعيد بن بيه صياغة ثنائية “أنا أو الفوضى” لتصبح “السلم مقدم على العدل”؛ لإضفاء طابع شرعي عليها وتزويدها بالحجج الفقهية والأخلاقية اللازمة لمناهضة الثورات العربية أو حركات التغيير في المنطقة. وإذا كان الخطاب المشيخي التقليدي المساند للأنظمة قد دأب على فكرة “طاعة ولي الأمر”، فإن خطاب بن بيه يحاول أن يجمّل وجهه بمقولات حديثة تكتسي طابعا أخلاقيا من خلال فكرتي المقاصد والمصالح، وهو ما يدخل ضمن نطاق “سياسات الأفكار” التي تعني إنتاج فكرة استجابة لسياسة ما أو لأداء وظيفة سياسية محددة مسبقا.

في سبتمبر/أيلول 2012 تحدث بن بيه -ضمن برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة القطرية- عن العدل بوصفه “كليا مشكِّكا” -بتعبير المناطقة- أي إنه مفهوم كلي لا تستوي أحواله ومحالّه، فهي ليست على وِزان واحد لذلك تختلف تطبيقاته، ثم عاد فتحدث -في مارس/آذار 2014 ضمن الملتقى الأول الذي عقده لمنتدى تعزيز السلم في أبو ظبي- عن السلم بوصفه “كليا مشككا”، وقد عكس هذا الكلام اختلاف أولويات بن بيه بعد أن حسم أمره في الموقف السياسي من الثورات العربية واصطف إلى جانب دولة الإمارات.

لو راقبنا تحركات بن بيه والفعاليات التي أقامها بعد تأسيس المنتدى، سنجدها تعكس هذه التصورات؛ فمشروع السلم يقوم -داخليا- على الخصومة مع طرفين هما الإسلام السياسي وجماعات العنف، وتعبر عنه -بوضوح- قائمة المفاهيم المذكورة

وقد تضمنت مقولة السلام الإماراتية صيغتين؛ صيغة عملية تعكس سياسة الدولة والأساس الفكري الذي ينظّر له بن بيه، وتتمثل في عداء الثورة والحيلولة دون التحول الديمقراطي في المنطقة. وصيغة لفظية دعائية هي التي يعبر عنها بن بيه تعبيرا شعريا قائلا “حالة تسود فيها الطمأنينة النفسية والروحية والسكينة بين أفراد المجتمع، لتنعكس على العلاقات بين الأفراد والجماعات ليكون السلم الاجتماعي حالة من الوفاق تضمن -بالدرجة الأولى- الكليات الخمس ومكملاتها”، ويلخصها بالقول “تجنب الخصومة والحرب وسعي للألفة والحب”.

ولتأصيل فكرة السلام، يستند بن بيه إلى بعض النصوص من القرآن والحديث، وإلى وقائع السيرة النبوية، وإلى الفقه وتحديدا: باب الصلح بمعناه الواسع، وبعض القواعد الفقهية كالنظر في المآلات والعواقب، وقواعد المصالح كدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ثم يوضح أن ثمة مفاهيم للسلم تحولت إلى ضده، وهذه المفاهيم توضح أبعاد مشروع “تعزيز السلم” وأولوياته، وهي: الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق الشريعة، والولاء والبراء، وطاعة الحكام، والديمقراطية والحداثة.

ولو راقبنا تحركات بن بيه والفعاليات التي أقامها بعد تأسيس المنتدى، سنجدها تعكس هذه التصورات؛ فمشروع السلم يقوم -داخليا- على الخصومة مع طرفين هما الإسلام السياسي وجماعات العنف، وتعبر عنه -بوضوح- قائمة المفاهيم المذكورة. أما خارجيا فهو خطاب يسلك مسلك الدبلوماسية السياسية، فمن جهة يقدم مقولة الأنظمة التي كررها عدد من الرؤساء (منهم بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي) وهو أن المجتمعات العربية غير مهيأة للديمقراطية؛ بل على العكس فإن المسار الديمقراطي يقود -بحسب بن بيه- إلى مفاسد، وهو مناقض للسلم الذي تطرحه الإمارات وينظّر له بن بيه.
ومن جهة أخرى يتبنى المقاربة الغربية لمنطقة الشرق الأوسط التي هي مصدر الإرهاب والفوضى، ومن ثم فهو يغازل الغرب عبر مقولات مركزية يشتغل عليها منتدى السلم، ويمكن التقاط ذلك من خلال قائمة عمل المنتدى التي ساقها -وسوّقها- بن بيه خلال خطابه في مؤتمر الأمم المتحدة 2015 تحت عنوان “مكافحة التطرف العنيف”، وقد شملت القائمة: (1) تصحيح فتوى ماردين حول التكفير سنة 2010، (2) تصحيح مفاهيم الجهاد، والدار، والولاء والبراء، (3) التنظير لحقوق الأقليات والطوائف الدينية في العالم الإسلامي، وهي أنشطةٌ هدفها -كما قال- بناء سياج للسلم. وقد أثمرت هذه الأجندة حيث منحته الجمعية العالمية للدفاع عن الحرية الدينية التابعة للأمم المتحدة سنة 2019 “الجائزة الدولية لسفير الحريات الدينية”، وهي جائزة تُمنح للشخصيات التي أسهمت في مجال الحرية الدينية وتعزيز ثقافة السلام والتعايش بين الأديان.

لا يمكن فهم الجهد الذي يقوم به بن بيه إلا على أنه فعل دولة وليس عملا فرديا، فمنذ استقالته من الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في سبتمبر/أيلول 2013، انضم إلى حلف الإمارات بعد أسابيع قليلة من مجزرة رابعة في مصر، التي ارتكبها الانقلاب العسكري المدعوم إماراتيا، وفي يوليو/تموز من العام نفسه ألقى بن بيه محاضرة في ذكرى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، خاطب فيها أبناءه -وفيهم محمد وعبد الله – قائلا “أنتم أثره، والشجرة المثمرة والطيبة لا يخرج منها إلا شجر طيب.. فأنتم تواصلون العمل الإنساني، وتواصلون فيه في أفريقيا وآسيا وغيرها. وورثتم عنه الشجاعة والسماحة والتسامح”. يأتي هذا الكلام بُعيد الانقلاب المذكور.

يتلخص سلم بن بيه إذن في العمل مع الطغاة لتوفير الحجج النظرية والدينية لهم، ولكبح عمليات الاحتجاج ضدهم حتى على مستوى المطالبة بالحقوق؛ لأن هذه المطالبة ستخل بالسلم المجتمعي، وتقلق راحة الأنظمة القمعية، كما أنه يعمل وفق الأجندة الدولية متجاهلا مطالب شعوب المنطقة

إن المتتبع لأخبار بن بيه من خلال موقعه الشخصي ومن خلال صحيفة الاتحاد الإماراتية، يجد أنه يتصرف ويتحدث بصفته متحدثا رسميا عن دولة الإمارات، التي تخطط وتنظم فعالياته ولقاءاته الدولية؛ فهو يلح في الأمم المتحدة وغيرها على ذكر الإمارات وأنها “عاصمة السلام”، فهو يمثل الوجه الناعم لدبلوماسيتها الدينية الخارجية، فبعد أن استشهد به الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، دُعي في 2019 من قبل الولايات المتحدة الأميركية ممثلا عن علماء المسلمين في قمة الأمم المتحدة للحرية الدينية المنعقدة في نيويورك، وذلك بحضور الرئيس الأميركي دونالد ترامب. وقد تولت الخارجية الإماراتية التسويق لأنشطته وفعالياته الخارجية، ومنها إعلان مراكش 2016 بشأن حقوق الأقليات الدينية، وما تبعه من فعاليات ترويجية كـ”قافلة السلام” و”حلف الفضول”، و”المواطنة الشاملة” وغيرها؛ أي إن بن بيه ونشاطه هو مجرد دبلوماسية دينية ذات قشرة أخلاقية، وهي جزء من حملة علاقات عامة تقوم بها الخارجية الإماراتية (لنتذكر أن وزير خارجية الإمارات هو نفسه راعي منتدى السلم)؛ بهدف التسويق للإمارات بوصفها منارة للتسامح الديني والمواطنة (وقد أنشأت وزارة للتسامح)، وللتغطية على السياسة الإماراتية الفعلية في دول المنطقة بدءا من دعم الانقلاب العسكري في مصر، وتقويض ثورات الربيع العربي، وتعويق عمليات التحول الديمقراطي في تونس وغيرها، ودعم النظام الإجرامي في سوريا، وقوات التمرد في ليبيا، وقمع الحريات داخل الإمارات نفسها، وخوض حرب تسببت في كارثة إنسانية في اليمن.

يتلخص سلم بن بيه إذن في العمل مع الطغاة لتوفير الحجج النظرية والدينية لهم، ولكبح عمليات الاحتجاج ضدهم حتى على مستوى المطالبة بالحقوق؛ لأن هذه المطالبة ستخل بالسلم المجتمعي، وتقلق راحة الأنظمة القمعية، كما أنه يعمل وفق الأجندة الدولية متجاهلا مطالب شعوب المنطقة، وقد كان صريحا في خطابه في الأمم المتحدة حين قال إن المشكلة تتمثل اليوم في أمرين؛ الطغاة والغلاة، ثم قال “لنترك اليوم الطغاة إلى جانب، ولنتكلم عن الغلاة”. وهو إنما يفعل ذلك؛ لأن مشروعه (بل مشروع الإمارات) إنما تأسس لتقويض الثورات التي هددت النظام القديم، ويندرج ضمن الغلاة هنا جماعات الإسلام السياسي وجماعات العنف والاحتجاجات المطالبة بالحرية والحقوق؛ لأنها جميعا تحول دون تحقيق السلم المجتمعي في منظوره، ولهذا تلخصت حلوله في دعم الأنظمة دينيا وتأكيد اختصاص ولي الأمر بالسلطة والمسائل العامة، وبتبني الأجندة الدولية لمقاربة قضايا المنطقة وخاصة الثورات العربية متمثلة بحماية الأقليات الدينية التي تضررت من الثورات، وبعض هذه الأقليات الدينية تحالفت مع الأنظمة القعمية نفسها (كما في سوريا).

ولتأسيس مشروع السلم، يتم التضحية بالقيم المركزية (منظومة الحقوق والعدل والحريات) كما يُعاد تأويل بعض المفاهيم التي تقلق الطغاة كالجهاد أو الحرب العادلة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والفتوى في ظل الدولة. فالحرب العادلة -بشقيها: الجهاد وحرب الخارجين عن الدولة (والثورات كلها خارجة عن الدولة وفق هذا المنظور)- هي من صلاحيات ولي الأمر، ولا يجوز للأفراد أن يتعاطوها. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كذلك يقوم به أولياء الأمر، خصوصا إذا كان يتطلب استعمال قوة (لا يحدثنا إطلاقا عن كلمة الحق والاحتجاجات السلمية وغيرها من الوسائل). أما الفتوى فيقسمها بن بيه إلى 3 فئات: (1) قضايا الأفراد ويعلمها أكثر الناس، (2) القضايا المستجدة كالمعاملات الاقتصادية ويختص بها لجان متخصصة، (3) فروض الكفايات وخاصة الفروض السلطانية كالجهاد والحرب والسلم وأنظمة الحكم (نعم أنظمة الحكم وطرائقه)، وهذه لا يفتي فيها إلا المجامع الفقهية أو الجهات الرسمية المكلفة من قبل الدول المعنية بالفتوى؛ لما قد يترتب عليها من المفاسد وتهديد السلم المجتمعي. وهي مسألة أشبه باستصدار ترخيص من الدولة للتظاهر ضدها.

مشروع السلم إذن هو الإطار النظري لتعميق الظلم والقمع ونفي السياسة بوصفها ممارسة من أي نوع؛ لأنها تردنا مجددا إلى اختصاصات ولي الأمر الحصرية، وهو الذي تقوم الثورة عليه، فهو الخصم والحكَم، وهو الحل لمشكلة مجتمعاتنا (قل هو من عند أنفسكم)، وهو يتبنى المنظور الغربي للظاهرة الجهادية (الغلو والتطرف) وأنها نتاج الأفكار المغلوطة فقط.

درج الاستبداد على سياسة ثابتة وهي إنتاج الخوف والتخويف؛ للاستمرار في الحكم؛ لكنه مع مشروع السلم انتقل إلى حرب الشعارات، فهو يرفع لافتة السلم للتغطية على بطش الدولة وظلمها، ويخاطب الجمهور بضرورة التخلي عن حقوقه، ويتجاهل الدول والأنظمة مصدر القمع والحرب على الشعوب، ويخاطب المجتمع الدولي بحقوق الأقليات، ويتجاهل حقوق الأغلبيات المسحوقة في المنطقة، ويُعمي بصره عن رؤية الواقع؛ لأنه لا ينظر إليه إلا من مركب السلطة المعبّر عنها والخادم لمصالحها.

يعرف بن بيه جيدا أهمية العدل، لذلك لم أناقش في هذا المقال مضمون مقولة “السلم مقدم على العدل”؛ لأن وظيفتها الدعاية والإعلان (يسمونها بالنسبة إلى الدولة “علاقات عامة”)، ومما يؤكد ذلك أمور:

أولها: أن بن بيه نفسه جعل العدل طريقا لإخماد الفتن، فقد شخّص قبل الثورات -في كتابه عن “الإرهاب”- حل الإرهاب في عدة أمور، منها: الحلول الحُكْمية، ويعني بها أساليب الحكم وطرق الوصول إلى السلطة وتحقيق العدالة، فالعدل أساس الملك ولا تخمد الفتن إلا به، والطريف أنه هو نفسه يحكي عن عمر بن عبد العزيز أنه حينما كتب إليه واليه يذكّره فتنةَ الخوارج، أجابه: “أخمد فتنتهم بالعدل”. وهو نفسه الذي قال: إن ثمة طريقين لتحقيق العدل: الشورى والديمقراطية، وأنه يتحقق بالشورى أكثر من الديمقراطية خاصة في البيئات الإسلامية؛ لأنه يرى أن “الشورى في الإسلام نظام حياة”. ولا يفتأ يلح بن بيه في أكثر من مناسبة (في كتابه عن الإرهاب وفي افتتاحيته لمنتدى السلم) على تحفظاته على الديمقراطية؛ فهي -في نظره- قد تكون سببا من أسباب الإرهاب إذا كانت في بيئة غير ناضجة، فهي “تصلح لبعض البيئات دون بعض”؛ لكنه لا يحدثنا عن كيف يمكن لمجتمع غير مؤهل للديمقراطية أن يتأهل لها؟ وهل القابلية للديمقراطية مسألة قدرية أم تنمو طبيعيا أم أنها تحتاج إلى تنظيرات وخطاب وتجارب؟ إن خطاب بن بيه نفسه هو أحد معوقات الديمقراطية؛ لأنه أفنى عمره في خدمة الاستبداد والدفاع عن الأنظمة والسلطات المطلقة والحصرية لولي الأمر ونقائص الديمقراطية. وإنما كانت الشورى أهم في نظره؛ لأنها تشمل مساحات خارج نظام الحكم على عكس الديمقراطية التي تكون حصرا نظاما للحكم؛ أي إن نقده للديمقراطية وتفضيله للشورى محكوم بخدمة الأنظمة القمعية مجددا.

بن بيه نفسه بحث سؤال لماذا في كتابه عن “الإرهاب” حين أراد تشخيص الأسباب واقتراح الحلول، وأنه في سبتمبر/أيلول 2012 طالب الثورات العربية بـ”أن تعيّن الحقوق وأن تقدم الدساتير والأنظمة والقوانين التي تحدد للناس الحقوق”، في حين أنه حين التحق بركب الثورة المضادة نهانا عن سؤال الحقوق بل حظر علينا سؤال لماذا.

ثانيا: يدرك بن بيه جيدا أن مشروعه مشروع مراوغ، وتتعدد مظاهر مراوغته:

فالمظهر الأول: أنه يلح بإصرار على تجاهل سؤال “لماذا”، بحجة أن الأولوية لسؤال “كيف”؛ لأن سؤال لماذا في ظل الثورات سيورطه مع الأنظمة القمعية، و(لماذا)؛ هي التي ستعطي للمشروع معنى وتجعل له أثرا ملموسا، وهو ليس مرادا. يقول بن بيه: “السؤال عن لماذا سؤال السببية الباحث عن العلة، والسبب يجب أن تترتب عليه المسببات التي ترتبت عليه في الواقع؛ لكنها مسببات لا شرعية ولا عقلية، فنحن لا نريد أن نبحث عن أسباب تنتهي إلى نتائج لا شرعية ولا عقلية. بل نكتفي بقوله تعالى: (قلتم أنى هذا؟ قل: هو من عند أنفسكم)”. هكذا يُدخلك في فذلكات لفظية ويتجاهل أن سؤال لماذا أساسي لتحقيق سؤال كيف، ومثال “الإطفائي” الذي ما يفتأ يكرره تعبيرا عن هذه المخاتلة اللفظية هو مثال صالح لأن ينقلب عليه؛ لأن الإطفائي الذي لا يعرف منابع الحريق ومكانه على التعيين سيكون كمن يصارع النار بلا جدوى، وكمن يوهم الناس أنه يُطفئ الحريق بينما الحريق ينتشر، وهو واقع عمل بن بيه الذي لم يطفئ حريقا واحدا وأنى له ذلك؟.

المظهر الثاني: أن بن بيه نفسه بحث سؤال لماذا في كتابه عن “الإرهاب” حين أراد تشخيص الأسباب واقتراح الحلول، وأنه في سبتمبر/أيلول 2012 طالب الثورات العربية بـ”أن تعيّن الحقوق وأن تقدم الدساتير والأنظمة والقوانين التي تحدد للناس الحقوق”، في حين أنه حين التحق بركب الثورة المضادة نهانا عن سؤال الحقوق بل حظر علينا سؤال لماذا.

المظهر الثالث: تقاعسه عن أي شكل من أشكال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو الذي يدور في فلك أهل السلطة والقوة، وواجبه الشرعي النصح والأخذ بأيديهم أو الوساطة بينهم وبين الشعوب على الأقل لتقليل المفاسد ما أمكن؛ لكنه آثر أن يعمل إلى جانب أهل القوة وفي خدمتهم.

ثالثا: أن بن بيه جعل الثورة ملهمة للعدل؛ فقد قال في لقائه ضمن برنامج الشريعة والحياة في سبتمبر/أيلول 2012 إن الثورة “شوق إلى التغيير، وسعي إلى التحرير، إلى تحرير الطاقات. وبالتأكيد فإنها أيضا ملهمة بقيم العدل، فلا يمكن أن نقول إن الثورات قللت من قيمة العدل، ولا أن نقول إن الثورات حققت العدل؛ لكن نقول إنصافا للثورات إنها خطوة أولى -في هذه البلاد التي خرجت منها هذه الثورات- قد تحققت، هذه الخطوة الأولى هي خطوة في طريق العدل، وهي للامتناع من التزوير في الانتخابات للوصول إلى التغيير المنشود”؛ بل إنه حين سئل عن الممارسات بحق الشبيحة في سوريا أبدى تفهما لها، وقال “العقوبة لا تكون بها مُثلة؛ لكننا نتفهم أحوال هؤلاء الذين مُثّل بهم، والذين نُكل بهم، والذين وصلوا إلى درجة من الغضب ومن الاحتقان تجعل تصرفاتهم أحيانا تخرج عن نطاق بعض المعقولية، وإن كانوا إنما يدافعون عن أنفسهم وعن حرماتهم وعن بيوتهم، فلا يمكن أن تلوم شخصا في هذه الحالة، بل علينا أن نتعامل مع الطائفة الباغية الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق بما تستحق”.

رابعا: أنه قبل انضمامه إلى المشروع الإماراتي كان يرى أن “العدالة في الإسلام عبارة عن مقصد أعلى ومنظومة شاملة لكثير من المقاصد والقواعد والمقاعد والجزئيات”، وأن “كل المقاصد والمجالات في أبواب الفقه ترجع كلها إلى العدل؛ لأن العدل قيمة تنظر إليها كل القيم، فهو الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، والذي ينسب كلّ القيم ليردها إلى الحد الأوسط”؛ لكنه حين تبنى مشروع السلم ألح في خطابه في الأمم المتحدة على أولوية السلم على الحقوق، وأوضح في 2018 خلال المؤتمر الذي عقده منتدى السلم للحديث عن “المواطنة الشاملة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، أن “السلام هو الحق الأول والمقصد الأعلى الذي يحكم على كل جزئيات الحقوق، فلا يمكن أن نتصور مواطنة سعيدة بالمعنى الذي نبحث عنه في بيئة متشنجنة”.

خامسا: أنه أوضح في كلمته التأطيرية للندوة الأولى لمنتدى السلم، أنه يؤكد على حقوق الشعب الفلسطيني، وأن مشروعه إنما هو تعزيز السلم “داخل المجتمعات المسلمة”، وأن “من لم يرتب بيته لن يستطيع أن يحقق شيئا في القضايا الكبرى لا سلما ولا غيره”؛ لكن حين قررت الإمارات توقيع اتفاقية التطبيع مع إسرائيل ساند الاتفاق، وأناطه بولي الأمر، فلا ندري هل انتهى من ترتيب البيت الداخلي أم أنه حصل تطور في مشروع السلم ليشمل الإسرائيليين، خصوصا أن بنية المشروع ووظيفته لا تستبعد إسرائيل منه.

لا يمكن أخذ مشروع السلم على محمل الجد ومناقشة مضمونه؛ لأنه إنما يندرج -كما قلت- ضمن سياسات الأفكار الخادمة لدبلوماسية الدولة، كما أنه لا يمكن تفسير هذا الحضور الدولي لبن بيه بناء على مساهمة علمية أو إضافة حقيقية؛ فالقضايا التي يناقشها (حقوق الأقليات والمواطنة وغيرها) هي نتاج تنظيرات الإسلام السياسي لعقود مضت، وقد كتب فيها رموزه ومفكروه كتبا بدءا من سبعينيات القرن الماضي، ولا نكاد نجد لبن بيه إضافة حقيقية لا على مستوى الأفكار ولا على مستوى التنظير، كل ما في الأمر أنه استثمر في مرحلة سياسية حاسمة في ظل غياب وتغييب صديقه السابق الشيخ يوسف القرضاوي، فوجد فرصة ملائمة ودعما سياسيا فطفا على السطح. باختصار يمكن القول: إن هذه الإنجازات هي غنائم حروب الآخرين وقد أحسن الاستفادة منها.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى