بقلم محمد أبو رمان
فقدنا خلال الأيام الماضية عالمين، فقيهين، مفكّرين، مثلا رمزين من رموز تيار العقلانية الإسلامية، هما د. حسن الترابي ود. طه جابر علواني.
لكلّ واحد منهما تجربته الفكرية والروحية، وخياراته الشخصية السياسية. لكنّ الأرض المشتركة التي وقف عليها الاثنان تتمثّل في كلمة التجديد والاجتهاد، والدفع بالفكر الإسلامي نحو السقف الأعلى من العقلانية والبراغماتية.
الترابي هو خرّيج كل من أكسفورد والسوربون، ويتقن أربع لغات بصورة كاملة (الإنجليزية، والألمانية، والفرنسية، بالإضافة إلى العربية).
بينما العلواني عمل ونشط في الولايات المتحدة الأميركية، وكان رئيساً لجامعة العلوم الاجتماعية وجامعة قرطبة هناك، ومديراً لأحد أهم مراكز المعرفة الإسلامية المعاصرة، في فيرجينا؛ “المعهد العالمي للفكر الإسلامي”، ومشرفاً على مجلة “إسلامية المعرفة”، وله عشرات المؤلفات المهمة في الفكر والفقه والتجديد، كما هي حال الترابي.
اختلف الاثنان في ترتيب الأولويات والاهتمامات العملية. إذ انخرط الترابي في الحياة السياسية والحزبية، وكان شخصاً جدلياً بامتياز؛ فاعتُقل في مرحلة جعفر النميري، ثم تعاون معه في مشروع “تطبيق الشريعة”، وصولاً إلى العمل وزيراً في حكومة الصادق المهدي، فالانقلاب عليها العام 1989، مع الرئيس السوداني الحالي عمر البشير، وتأسيس المؤتمر الشعبي الإسلامي، ولاحقاً الخلاف مع البشير والطلاق بين الشريكين، والاعتقال والسجن، ثم العودة لمحاولة تجميع شتات الحركة الإسلامية قبيل وفاته بفترة قصيرة.
أمّا العلواني، فكان حريصاً على النأي عن المشكلات السياسية، والتركيز على المشروع الذي تأسس على نظرياته المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والذي ينظر إلى أنّ هناك قصوراً كبيراً في الجانب المعرفي والفكري لدى المسلمين، وأنّ هناك ضرورة حضارية ومجتمعية لسدّ هذه الفجوة الكبيرة، عبر الارتفاع بمستوى المعرفة الإنسانية في أكثر من مجال؛ أولاً الاطلاع العميق على “المعرفة الغربية”، ونقدها والإفادة منها، ومراجعة التراث الإسلامي وغربلته وتجديد فهم الناس للإسلام معرفياً وعلمياً.
خلال العقود الماضية، وتحديداً في فترة الثمانينيات والتسعينيات، تكاملت جهود الاثنين في الاتجاه بالفكر الإسلامي والتيارات الإسلامية نحو العقلانية والتجديد والاجتهاد؛ فقدّما مقاربات فقهية جديدة جريئة على صعيد المرأة وفقه الأقليات والحرية الدينية والعلاقة مع الغرب. وهما يمثّلان، من الناحية المعرفية، امتداداً لمدرسة الإمام محمد عبده، رائد العقلانية والتأويل في العصر الحديث.
من معالم المدرسة المشتركة للراحلين، وهو ما نجده واضحاً في مؤلفاتهما، التركيز على التمييز بين الدين والتديّن، ومسألة العقل في فهم الأحكام النصية الدينية، ونسبية التراث الإسلامي وفق محددات المكان والزمان وتاريخية الفتاوى الدينية، وارتباط فهم الأحكام الدينية وإدراك معاني الدين بطبيعة العصر وما وصلت إليه المعرفة الإنسانية من مدارك وأفهام ونظريات.
الترابي، تحديداً، كرّس منذ بداية الثمانينيات مدرسة جديدة في المشهد الإسلامي، هي المدرسة الواقعية البراغماتية، التي بدأت تكسب أنصاراً ومؤيدين، في مواجهة المدرسة الأيديولوجية التي كانت تستند إلى كتابات المفكّر المصري الراحل سيد قطب. فقلب الترابي النظريات الإسلامية رأساً على عقب، ودفع بجيل جديد من الحركات الإسلامية إلى التفكير بمنطق براغماتي مصلحي في التفاعل مع المحيط السياسي. وهو ما أثّر لاحقاً على اندماج تلك الحركات السلمية في عملية الديمقراطية والتخلّي لاحقاً بصورة شبه قطعية عن تراث سيد قطب.
إلاّ أنّ تجربة الحركة الإسلامية في السودان اتّسمت بالجدلية، وشخصية الترابي نفسه فقدت بريقها نتيجة التقلبات السياسية التي دخل فيها، في حين بقي العلواني أميناً لمشروعه العلمي والفكري الذي بدأ فيه وانتهت حياته معه. لكن تجربة الاثنين معاً تبقى معرفياً وفكرياً ثرية وخصبة ومستمرة، فيما تجربة الترابي السياسية تبقى ذات أثر ملموس على تطور التيارات الإسلامية.
(الغد)
المصدر: الاسلام اليوم.