بيان “مصطلح” علماء السلطة
بقلم د. محمد عوام
كتب صديقنا الدكتور الناجي لمين على صفحته، معترضا على استعمال “مصطلح” علماء السلطة، وبما أنني من الذين يستعملون هذا الوصف غير ما مرة، أحببت أن أبين ما يلي:
أولا: من المعلوم والمقرر أنه لا مشاحة في استعمال المصطلح، وإنما أن يكون المصطلح واضح المعنى، بين المغزى، يؤدي وظيفة، وسالما من الاعتراضات والقوادح. هذا إن كان فعلا مصطلحا، أما إن كان غير ذلك، فهذا شيء آخر، والكلام عنه ليس موطنه هنا.
ثانيا: دأب العلماء على التفريق بين المصطلحات الشرعية والعرفية والعقلية، وغير ذلك، بحسب المجالات التي يشتغلون فيها، وبحسب ما تقتضيه التخصصات العلمية. ومن العلماء الكبار، وهو من الشهرة بمكان، ممن عكفوا على الدراسات المصطلحية بالبيان، الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله، فيمكن مراجعة كتبه وبحوثه والدراسات التي أشرف عليها، حتى يتبين المرء بنفسه قضية ومركزية المصطلح في العلوم.
ثالثا: وهو تابع لما سبق، أن ما سميته بمصطلح علماء السلطة، فهو ليس كذلك، فهو عند تدقيق النظر وصف لموصوف، أي لطائفة من العلماء الذين يسيرون في ركب السلطة، بتحريف النصوص، وتأويلها التأويل الفاسد، ويرضون السلطان بسخط الرحمن، ويسكتون عن الباطل ويرضون به، فهؤلاء يدورون في فلك السلطة والسلطان، حرصا على مصالحهم الدنيوية. وليس معنى هذا أن أي عالم تعامل مع السلطة فإنه لا جرم ينطبق عليه هذا الوصف، فقد وجدنا علماء تعاملوا مع السلطة، لكن في حدود بما يحقق مصلحة شرعية، ودون التورط في فسادها.
وعلماء السلطة هم علماء السوء، لكن مفهوم علماء السوء أو دلالته أعم من علماء السلطة، فقد يكون العالم سيئا، يتاجر بالدين في ميادين أخرى، غير أنه بعيد عن السلطة، إذن ذاك عام وهذا خاص، والعلة الجامعة بينهما السوء.
رابعا: أن صديقنا الناجي لمين، قد جزم بأن “رشيد رضا الذي استعمل هذا المصطلح”، وقد بحثت عنه في (تفسير المنار) و(الوحي المحمدي) وفي (مجلة المنار) فلم أجده البتة، ولست أدري على أي مصدر اعتمد في نسبة هذا “المصطلح” إلى مدرسة المنار سوى الظن والتخمين، و”الظن لا يغني من الحق شيئا”، وإنما الذي وقفت عليه عند رشيد رضا رحمه الله الاستعمالات الآتية:
علماء الدنيا: من ذلك ما جاء في تفسير المنار”وَبَقِيَ صِنْفٌ آخَرُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْأَنْدَادِ وَهُمُ الْعَامَّةُ، وَالَّذِينَ اتَّخَذُوهُمْ أَنْدَادًا هُمْ عُلَمَاءُ الدُّنْيَا فَإِنَّهُمْ يُحِلُّونَ لِمَرْضَاتِهِمْ وَيُحَرِّمُونَ، وَيُخَالِفُونَ النُّصُوصَ الصَّرِيحَةَ بِضُرُوبٍ سَخِيفَةٍ مِنَ التَّأْوِيلِ لِمُوَافَقَةِ أَهْوَائِهِمْ، فَإِنْ لَمْ يُفْتُوهُمْ بِخِلَافِ النَّصِّ الْتِمَاسًا لِخَيْرِهِمْ أَوْ هَرَبًا مِنْ سُخْطِهِمْ كَتَمُوا حُكْمَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ، فَتَرَى أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ: أَهَذَا حَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ وَحَلَالٌ أَمْ حَرَامٌ؟ يَغُضُّ مِنْ صَوْتِهِ بِالْجَوَابِ، وَلَا يَجْهَرُ بِالْقَوْلِ مُدَارَاةً لِلْعَوَامِّ،إِذَا كَانَ الْجَوَابُ عَلَى غَيْرِ مَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَأَصْحَابِ السُّلْطَةِ.”
“وَأَكْبَرُ وُجُوهِ الْعَبْرَةِ فِيهَا مَا نَرَاهُ مِنْ حَالِ عُلَمَاءِ الدُّنْيَا اللَّابِسِينَ لِبَاسَ عُلَمَاءِ الدِّينِ، الَّذِينَ هُمْ أَظْهَرُ مَظَاهِرِ الْمَثَلِ فِي الِانْسِلَاخِ مِنْ آيَاتِ اللهِ، وَالْإِخْلَادِ إِلَى الْأَرْضِ، وَاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ وَتَفَانِيهِمْ فِي إِرْضَاءِ الْحُكَّامِ، وَإِنْ كَانُوا مُرْتَدِّينَ، وَالْعَوَامِ وَإِنْ كَانُوا مُبْتَدِعَةً خُرَافِييِّنَ، وَهُمْ فِتْنَةٌ لِلنَّابِتَةِ الْعَصْرِيَّةِ تَصُدُّهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِلْعَوَّامِ فِي الثَّبَاتِ عَلَى الْخُرَافَاتِ وَالْأَوْهَامِ، وَمِنْهَا عِبَادَةُ الْقُبُورِ بِدُعَاءِ مَوْتَاهَا فِيمَا لَا يُطْلَبُ إِلَّا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالطَّوَافُ بِهَا وَالنُّذُرُ لَهَا وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.” (تفسير المنار)
علماء السوء: قال الشيخ رضا: “كَدَأْبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ فِي كُلِّ أُمَّةٍ؛ يَكْتُمُونَ مِنَ الْعِلْمِ مَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، كَاشِفًا عَنْ سُوءِ حَالِهِمْ، أَوْ يُحَرِّفُونَهُ تَحْرِيفًا مَعْنَوِيًّا بِحَمْلِهِ عَلَى غَيْرِ مَعْنَاهُ الْمُرَادِ.”
“وَتَرْكِ فَرِيضَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ. رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا فِي الْقُرْآنِ أَشَدُّ تَوْبِيخًا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ; أَيْ فَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ إِذَا قَصَّرُوا فِي الْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ، وَتَرَكُوا النَّهْيَ عَنِ الْبَغْيِ وَالْفَسَادِ، وَإِذَا كَانَ حَبْرُ الْأُمَّةِ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ هَذَا، فَمَا قَوْلُ عُلَمَاءِ السُّوءِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الدِّينَ وَأَفْسَدُوا الْأُمَّةَ بِتَرْكِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ؟ وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّنَا نَقْرَأُ تَوْبِيخَ الْقُرْآنِ لِعُلَمَاءِ الْيَهُودِ عَلَى ذَلِكَ، وَنَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ مَوْعِظَةً وَعِبْرَةً،”
-وفي مجلة المنار لم يستعمل رشيد رضا علماء السلطان وإنما استعمل علماء السوء ستة وعشرين مرة. من ذلك قوله: “وما زال علماء الدنيا – أو علماء السوء كما يقول الغزالي – يؤيدون الحكام الظالمين في كل حين لأجل المال والجاه، بل يؤيدون غير المسلمين أيضًا؛ كما كان بعض علماء مصر يقنعون المسلمين بوجوب الخضوع لفرنسة عندما استولت على مصر بجيش بونابرت، يفعلون ذلك باسم الإسلام. فلا عجب إذا أيدوا كل حكومة منسوبة إلى الإسلام، مهما كانت جائرة ومهما كان مذهبها في الأصول والفروع، وقد وجد من أصحاب العمائم في مصر من أنشأ في هذا العصر مسجدًا في مصر باسم ملك إيطالية الكاثوليكي، ووقفه على روحه ليكون له ثواب الصلاة فيه، وهذا المعمم الذي يعد من طائفة العلماء وشيوخ المتصوفة هو ابن الشيخ عليش الذي كان يعد أشهر علماء الأزهر، وأشدهم تشددًا في الدين. وكان من هذا الخزي أن اسم الشيخ عليش وشهرته مما استعانت به إيطالية على أخذ مملكة طرابلس الغرب وبرقة من الدولة الإسلامية، كل ذلك لأجل عرض قليل وحطام حقير يستفيده من فضلات وكالة إيطالية السياسية بمصر.” بهذا يتضح أن هذا الزعم من مبتكرات أخينا الناجي وليس من مدرسة المنار، وكان الأحرى به أن يتثبت. ولعل ما ذكره رشيد رضا رحمه الله يوضح طبيعة المعركة التي خاضها في زمانه.
خامسا: أن “مصطلح” علماء السلطان، ليس من مبتكرات المستشرقين أيضا، فقد سبق لأهل العلم أن استعملوه، من ذلك ما ذكره الإمام جلال الدين السيوطي (911هـ) رحمه الله في كتابه الموسوم بـ(ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين)، قال: “لذا فقد اشتهر عند السلف الصالح أن علماء السلطان على خطر عظيم، وفي وبالٍ شديد.”
وورد في كتاب (تاريخ آداب العرب) لصادق الرافعي رحمه الله، ” ولم يقع إلينا سبب هذه التسمية ولا أصلها، غير أني وقفت في “الشقائق النعمانية” في ترجمة المولى حضربيك بن جلال الدين، وكان يلقب بجراب العلم، وهو من علماء السلطان محمد الفاتح،”
ووقع عند الألوسي في كتابه (جلاء العينين في محاكمة الأحمدين): “ثم نقل في نور العين عن رسالة الفاضل الشهير حسام جلبي من عظماء علماء السلطان سليم بن بايزيدخان ما نصه: إذا لم تكن الآية أو الخبر المتواتر قطعي الدلالة، أو لم يكن الخبر متواتراً، أو كان قطعياً لكن فيه شبهة، او لم يكن الإجماع إجماع الجميع،”
فبهذا يتبين أن استعمال وصف (علماء السلطان) ليس من مبتكرات، لا مدرسة المنار، التي يحرس أخونا الناجي أن يلصق بها كل شيء، وهي منه براء، ولا حتى من مبتكرات المستشرقين. وقد وجدنا من استعمل لفظ (علماء البلاط).
سادسا: أين محل الإشكال وتحرير محل النزاع؟ ففي نظري ليس في استعمال المفهوم أو الوصف، وإنما في من ينطبق عليه الوصف مع وجود الصفة أو الصفات المقتضية ذلك، فإذا كان علماء السلطة ممن يفسدون الدين بالتأويل والتحريف ومناصرة الطغاة والمستبدين، لا يراعون في ذلك للدين حرمة، ولا للشعب كرامة، فلا جرم أن هؤلاء شر مكانا وأضل سبيلا. وحتى نكون واقعيين، وكما قالوا بالمثال يتضح المقال. فعندما ناصر المدعو علي جمعة مفتي مصر السابق الانقلاب العسكري في مصر على حساب الشرعية وإرادة الشعب، بوقوفه بجانب الجينرال السيسي، وبفتواه الظالمة بقتل الأبراء، حتى قال للجيش ورجال الأمن : “اضرب في المليان” ألم يكن هذا النوع من أخس علماء السلطان، وأحطهم قدرا ومنزلة؟ بلى وهو كذلك.
ثم يطلع علينا كل من الشيخ ابن بية وفاروق حمادة مستشار بديوان ولي العهد بالإمارات، حيث ذهبا معا إلى أن العلاقات العامة بين الدول في الحرب والسلم والمصالح…القضايا الكبرى بين الدول هي من اختصاص ولي الأمر وحده وإلا تمزقت الدولة ولهذا جعلها ديننا منوطة بولي الأمر…” فمتى كانت هذه الصلاحية خالصة لولي الأمر من غير أن يستشير؟ ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير في كل شيء ماعدا ما جاء فيه وحي من عند الله تعالى؟ فقد كان صلى الله عليه وسلم يستشير في الحرب والسلم وكل قضايا الدولة الجديدة وعلى منواله نسج الخلفاء الراشدون؟ فكيف بنا نحن اليوم في عصر المؤسسات لازال علماء السلطة الذين يزينون للحكام مفاسدهم، وللطغاة أعمالهم يدندنون حول مطلق صلاحية ولي الأمر وعدم مراجعته في قراراته لاسيما حين تتعلق بالاتفاق مع كيان الإسرائيلي غاصب دخيل على الأمة؟ أليس ما أقدم عليه ابن بية وفاروق وغيرهما من المنبطحين للسلطة والمال لا أصل له في الشرع سوى إرضاء آل نهيان وبني سلول؟. فعن أمثال هؤلاء قال ابن مسعود رضي الله عنه: “إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه، فيخرج ولا دين له. قيل له: ولـمَ؟ قال: لأنه يرضيه بسخط الله.” فعن هذا الصنف وأمثالهم نقصد بعلماء السلطان، ولا يعني ذلك أننا نرفض مبدئيا التعامل السلطان، ولكن في حدود ما يحقق مصلحة شرعية واضحة بلا لف ولا دوران ولا نفاق. وهذه المسألة تناولها القدامى وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي رحمه الله في (إحياء علوم الدين).
سابعا: مسألة استقلالية العلماء. مما جانب فيه أخونا الناجي الصواب، وحاد فيه عن جادة الحق، وبالغ في ذلك بما لا يليق به، قوله: “والغريب كذلك أن أتباع هذه المدرسة اليوم يفرقون بين علماء السلطان، وبين العلماء المستقلين، والحال ان هؤلاء “المستقلين” ليسوا مستقلين، لانهم مرتبطون بجهات أخرى خارج بلدهم، تُؤَمن لهم السفريات وتُمول لهم الندوات والمؤتمرات وتيسر لهم سبل تكوين “العُصَب” و”الكيانات”…
إن تقسيم العلماء أيها الإخوة إلى علماء السلطان والعلماء المستقلين تقسيم مبتدع حداثي، يخلق استقطابا وهميا بين فئتين: المقدَّسون والمُدَنَّسون.” وهذا الكلام لا يستقيم لما يلي:
-أن التفريق بين العلماء المستقلين وغيرهم ممن هو تابع للسلطة أمر لا ريب فيه ويشهد له الواقع والتاريخ، وهو الحق الذي لا مرية فيه، ولا داعي للاستنكاف عن هذه الحقيقة، لكن ما المقصود بالعالم المستقل؟ هو الذي لا يراعي أي تعليمات تفرضها السلطة الحاكمة، ولا أن تمليها أي جهة كيفما كانت لخدمة مصالحها، لا يراعي العالم المستقل إلا ما يلزمه به دينه فقط. فهو مسؤول أمام الله تعالى، وكم من مرة كتبت عن استقلالية العلماء، حتى يكونوا أحرارا في مواقفهم. ولا يليق بالعالم أن يكون تابعا، والمفروض فيه أن يكون متبوعا.
-من العجائب والغرائب، أن يعتبر أخونا الناجي التعاون مع الجهات المنظمة للندوات والمؤتمرات دليلا على عدم الاستقلالية، فهل الاستقلالية في المواقف وحرية التعبير عنها دون مراعاة أحد كائنا من كان أم الاستقلالية في التعاون مع الغير في نشر الخير؟ وأنا أسأله كم من ندوة شاركت فيها في المغرب وخارجه أكنت مستقلا أم تابعا؟ وهل حين توفر لك الجهة المنظمة السكن والسفر أو حتى تعويضات البحث كنت مستقلا أم تابعا؟ أظن أنه من العبث أن نخوض في مثل هذه الأمور التي هي من المعلوم بالضرورة في تنظيمات المؤتمرات والندوات ومن حقوق المشاركين.
نعم قد يكون في بعضها شبهة حين تأتي جهة أجنبية وتأتي بمشاريع جهنمية، لتمزيق الأمة، وتخريب عقول أبنائها، وبث السموم بينها الفكرية والأخلاقية، مع تمويل أجنبي وإملاءات مسبقة. أما التعاون في الندوات والمؤتمرات بحرية كاملة فهذا ليس من ذاك.
-تقسيم العلماء إلى أقسام منها المستقلين وغيرهم، ليس من الحداثة في شيء، فالحداثة لا تهتم بذلك، ولو فرضنا جدلا أنه من مبتكراتها فما العيب في ذلك؟ فهل ذلك ابتداع في الدين وخروج عن الصراط المستقيم؟ وهل كل ما جاءت به الحداثة هدم للدين؟ وهل من المعقول أن نحسب كل صيحة وكل مشكلة ومعضلة سببها مدرسة المنار والحداثة؟ فهذا مما ينبغي على أخينا الناجي أن يعيد النظر فيه، وأن يتثبت في نقله والاستدلال به، فالعلم إما نقل مصدق أو استدلال محقق، وما عداهما فتجذيف وتشغيب، لا يليق بالمشتغلين بالعلم.
(المصدر: هوية بريس)