القرضاوي والمشروع الإسلامي المعاصر.. المرتكزات والسياق
إعداد بلال التليدي
أثار رد الدكتور يوسف القرضاوي على التهنئة التي وجهها له رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الدكتور أحمد الريسوني، ردود فعل كبيرة في الساحة الإسلامية، حيث جاءت رسالة الشيخ القرضاوي بمثابة رسالة وداع، بالنظر إلى تقدمه في السن، لكنه كان متماسكا ومسترسلا في حديثه عن واقع وحال الأمة.
“عربي21″، تفتح ملفا عن فكر الشيخ القرضاوي، وإسهاماته في قراءة وفهم الفكر الديني في المشهد الديني المعاصر.. وتبدأه بتقرير تأطيري يقدمه الكاتب والباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي بلال التليدي.
مدرسة فكرية
ربما كان الدكتور محمد عمارة على حق حينما اعتبر الشيخ يوسف القرضاوي بمثابة مدرسة فكرية، فالرجل بإنتاجاته الثرية تجاوز سقف مفكر يمتلك مشروعا فكريا يجيب عن أسئلة النهضة وشروط الإقلاع، وبلغ حد إرساء معالم مدرسة لها قواعدها في النظر وبنيتها في التفكير وأصولها في تقدير المواقف.
يمتد المشروع الفكري للشيخ يوسف القرضاوي في مساحات واسعة ومتنوعة، فقد اتجه أولا إلى المشكلة الفقهية وترشيد النظر الاجتهادي، بقصد مواجهة التطرف والغلو من جهة، ومواجهة الترخص السائب من جهة مقابلة، فكان عنوانه في الفقه: التيسير ورفع الحرج مع الانضباط للدليل الشرعي، ثم اتجه إلى بسط معالم المشروع الإسلامي وخصائصه العامة، وبيان حتمية الحل الإسلامي وضرورته، وانبرى إلى مناقشة التيارات الفكرية الأخرى التي تناهض الحل الإسلامي، علمانيين ومتغربين وماركسيين وشيوعيين، معلنا في عنوانه الكبير فشل الحلول المستوردة وجنايتها على الأمة، وانعطف إلى تيارات الصحوة الإسلامية، فخاض معركة الترشيد في كل مستوياته الفكرية والأصولية والفقهية والحركية والسياسية، محددا أولويات الحركة الإسلامية، والعناوين الكبرى التي ينبغي أن تشتغل عليها في مختلف المجالات.
وقد توافقت رؤيته مع رؤية المعهد العالمي للفكر الإسلامي في مرحلة لاحقة، عند حدود نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات، فاتفق التشخيص على أن أزمة الأمة هي أزمة فكرية، وعهد إليه أن يحدد معالم هذه الأزمة من جهة قواعد النظر في القرآن والسنة، فجاء كتابه كيف نتعامل مع السنة، الذي وضع المعالم والضوابط التي حاول من خلالها التنبيه إلى خارطة الطريق لمعالجة أزمة النظر في مصدر أساسي من مصادر التشريع الإسلامي هو السنة النبوية، ثم ألف في مرحلة لاحقة كتابه حول منهجية التعامل مع القرآن الكريم منتهجا نفس المنهجية التي سلكها في كتابه الأول، ولم يتوقف عند حدود المصادر الشرعية، بل اتجه في مسايرة منه لخطة المعهد، لتقويم أفهام التراث الإسلامي، وتحديد الأصول الضروري استحضارها في التعامل مع التراث الإسلامي في مختلف حقوله المعرفية.
اتجه المشروع الفكري للشيخ القرضاوي أيضا إلى مجال التربية والتزكية الروحية، فأنتج سلسلة كتب وضح من خلالها موقفه من التصوف، وما يمكن توظيفه من القول الصوفي، وما يمكن استبعاده في بناء الشخصية الإسلامية، وحرر القول في بعض الموضوعات التربوية، مثل الزهد والورع والإيمان وغير ذلك، وكان له أيضا نظر في مسائل العقيدة، فكتب سلسلة كتب في هذا المجال، يظهر فيها معنى التوحيد ومقتضياته ومتعلقاته، مركزا في ذلك على البعد الوظيفي للتوحيد، والدور الحيوي الذي يقوم به في بناء التصورات، وغرس القيم، وإنتاج السلوكات المستقيمة وفي إشاعة الصلاح والإصلاح في المجتمع.
ولم يفت القرضاوي في مراحل تأليفه المتأخرة أن يقتحم بعض الموضوعات الإشكالية ذات العلاقة بالسياسة، فقدم تصوره للدولة الإسلامية، وطبيعة مواقفها من الديمقراطية والمواطنة وحقوق المرأة والأقليات وغيرها من القضايا التي تختلف أنظار الإسلاميين بصددها، فكان رأيه فيها محكوما بالاعتدال الذي أطر موقف الإسلاميين في أغلب تجارب مشاركاتهم السياسية.
ويبقى الدور الفقهي المتميز الذي قام به الدكتور القرضاوي هو ما أنتجه في حلقاته الفكرية الأولى، عندما كتب “فقه الزكاة”، و”الحلال والحرام” إذ قدم في الأول تصورا معاصرا للزكاة، وسع فيه مواردها لتشمل زكاة المصانع والمعامل وزكاة المناجم والمعادن ومصادر الطاقة بحجة أنها كلها تخرج من الأرض، وضم إلى ذلك مختلف عروض التجارة المعاصرة التي لم تكن متصورة في العصور السابقة، في حين قدم في الكتاب الثاني رؤية فقهية جديدة في التعامل مع الأحكام الشرعية، اتسمت بالاعتدال لاسيما في قضايا المرأة والفنون والسياسية وغيرها من القضايا التي كان العقل السلفي يؤطرها بمنطق الحظر والمنع.
الأدوار الوظيفية للمشروع الفكري للشيخ يوسف القرضاوي
يتطلب استقصاء المشروع الفكري للشيخ القرضاوي كتابا مستقلا وربما أكثر من جزء، وما قام به الدكتور محمد عمارة من محاولة لحصر قسمات الإنتاج الفكري للشيخ القرضاوي وحصره في عناوين كبيرة جامعة ـ على الجهد المبذول فيه ـ فهو لا يقدم سوى عينات وعناوين كبرى من هذا المشروع، ولذلك سيكون من الأنسب هنا الاعتناء بالوظيفة التي قام بها المشروع الفكري أكثر من الاهتمام برصد مختلف قسماته، فالرجل لم يكن يكتب من موقع الباحث الأكاديمي، أو حتى المفكر المهموم ببعض القضايا التي تشغل باله، وإنما كان يكتب من موقع منظر يحمل هم النهوض بأمة، ويحاول ترشيد فكر الحركات الإسلامية (أدوات الإصلاح) حتى تضع الأمة في سكة النهوض والإقلاع.
على أن بحث البعد الوظيفي في مشروع القرضاوي يتطلب تحديد السياق السياسي الذي حاول فيه إنتاج مشروعه، فالرجل عاش لحظة المحنة الناصرية بكل تداعياته وابتلاءاتها، ورأى بعينه التنظيم الضخم الذي بناه الإمام حسن البنا، يتهاوي أمام واقع الخلاف الداخلي من جهة، وواقع السجن والتعذيب والاستئصال من جهة ثانية، ثم عاش بعدها لحظة الانفراج السياسي بعد صعود أنور السادات للحكم، ومحاولته اكتساب شرعية من خلال الارتكاز على الدين والشريعة وحاجته إلى توظيف الإسلاميين للتخلص من الناصرين والشيوعيين الذين كانوا يمثلون أهم تحدي يواجه تثبيت شرعيته في الحكم.
في هذا السياق السياسي، جاء أكثر إنتاج فكر الشيخ القرضاوي، والذي حاول التفاعل مع متطلبات السياق السياسي، واستثمار حاجة الحكم للإسلاميين لتحقيق مكاسب تعود على الحركة الإصلاحية عموما.
ويفيد الاستقراء للمشروع الفكري للقرضاوي أنه قصد تحقيق خمس وظائف أساسية:
وظيفة القطيعة والتجاوز مع الفكر القطبي
مع يقين عدد مهم من قيادات الإخوان المسلمين بأن فكر سيد قطب يعتبر نسخة أخرى غير مطابقة لنسخة الإمام حسن البنا، وبراديغم جديد للفكر الحركي، إلا أن عددا قليلا منهم أخذ على عاتقه نقد مفاهيم سيد قطب في الحاكمية والجاهلية والمفاصلة، فقد قام سالم البهنساوي بنقد هذه المفاهيم في غير ما كتاب، لكن محاولته لم تتجاوز نطاق النقد الفكري، فيما البعض الآخر، حاول أن يبحث عن تأويلات لفكر سيد قطب، لكي يبرئ ساحته وساحة الإخوان من فكر الغلو والعنف، والغالبية العظمى من الإخوان ذهبت في منحى التوفيق بين فكر سيد قطب والبنا، واعتبارهما يصدران من مشكاة واحدة، لكن الشيخ يوسف القرضاوي، كان له رأي آخر، إذ تحمل مسؤولية مناقشة فكر سيد قطب ونقدها واعتبار بعض مفاهيمها مستندا لإنتاج فكر الغلو والعنف، فسجل في كتابه الاجتهاد انتقاداته لسيد قطب، ليس فقط من جهة المفاهيم والأفكار، ولكن أيضا من جهة إسقاطاتها الحركية، وكان قصده في ذلك، بناء تيار وسطي يعلن القطيعة عن المفاهيم القطبية الإشكالية، ويجدد ارتباطه بفكر حسن البنا، ويجري تعديلات كثيرة، بأفق استعادة الوظائف الأخرى للمشروع الحركي، ومنها على وجه الخصوص وظيفة تجميع مكونات الصف الحركي وتهييئه لمهمة الاندماج في الحقل السياسي.
الوظيفة التجميعية في المشروع الفكري للشيخ القرضاوي
لم يقتصر الشيخ القرضاوي على استعادة الأصول والقواعد التي وضعها الإمام حسن البنا في فقه الائتلاف والاختلاف وأخذ مسافة عن القضايا التي تفرق الأمة وتشتت جهودها، بل أضاف إليها جهودا فكرية أخرى، استقل بها، ووضع بها بصمته الفكرية، فبالإضافة إلى شرحه للأصول العشرين، وترسيخه لفكرة شمول الإسلام التي أصل لها الإمام حسن البنا، فقد اتجه إلى بلورة مفهوم جديد هو الوسطية، التي عرفها بكونها التوسط بين ثنائيتين متقابلتين، بين السلفية والتجديد، بين الأصالة والمعاصرة، بين التمذهب والاجتهاد، بين الصوفية والسلفية، بين العلم والدين، بين العقل والوحي، وبين المادية والروحانية، وغيرها من الثنائيات المتقابلة، وقصد القرضاوي بهذا المفهوم إحداث تيار وسط يجمع ما يمكن من مكونات الأمة، ويصهرها في مشروع فكري وحركي واحد، فلا خصومة مع الصوفية ولا قطيعة مع السلفية، ولا نبذ للتمذهب، ولا خوف من الاجتهاد، ولا جمود على الدين، ولا استنكاف عن مستجدات العصر، ولا تشدد في الفقه والفتوى ولا تسيب فيهما.
لقد قصد القرضاوي بهذه الرؤية الوسطية التي بسط معالمها بالتفصيل في كتابه عن الوسطية، تجميع مكونات الأمة، وفتح المجال للاستقطاب والتوسع من داخل أطراف هذه الثنائيات، فيجد الصوفي والسلفي، والمقلد والمجتهد، والذي يجعل الدين أفق نظره، والذي ينفتح على مستجدات العصر، يجد كل هؤلاء، مكانهم في تيار وسطي عام، يقوده الفكر الذي بسطه الشيخ القرضاوي في أكثر من كتاب وظيفة التأطير والتحصين الفكري والترشيد والأصولي والفقهي في المشروع الفكري للشيخ القرضاوي.
لم يقتصر الشيخ القرضاوي على استعادة الأصول والقواعد التي وضعها الإمام حسن البنا في فقه الائتلاف والاختلاف وأخذ مسافة عن القضايا التي تفرق الأمة وتشتت جهودها، بل أضاف إليها جهودا فكرية أخرى، استقل بها، ووضع بها بصمته الفكرية
باشر الشيخ القرضاوي وظيفة التأطير والتحصين الفكري منذ بواكيره الأولى في التأليف، لاسيما في كتاباته السجالية التي ناقش فيها وانتقد العلمانيين والتغريبيين والماركسيين والشيوعيين، وحاول أن يمد الشباب، على الخصوص، بأرضية فكرية وأدوات منهجية وعلمية للدفاع عن المشروع الفكري الإسلامي ونقد المشاريع الأخرى المنافسة، وذلك حتى يستقر في أذهان التيار الوسطي العريض أن الحل الإسلامي ضرورة شرعية وحتمية واقعية، وأن جميع الحلول التي استوردتها الأمة للنهوض فشلت، وجنت على الأمة وزادت الأزمة حدة وتعقيدا.
كما تفرغ لجهود الترشيد الأصولي والفقهي بإرساء ضوابط ومعالم في التعامل مع المصادر الشرعية والتراث الإسلامي، وذلك بقصد ترشيد الصحوة الإسلامية من الوقوع في مزالق التطرف الديني، ومن تسرب القراءة العلمانية المتسيبة لعقل شباب الحركة الإسلامية، كما أرسى قواعد فقه ميسر ينطلق من محكمات الدين ويراعي مستجدات الواقع، وذلك من خلال تأكيده المتكرر على التمييز بين النصوص القطعية والنصوص الظنية والمساحات التي لم يرد فيها نص، وما يناسب ذلك من قواعد وأصول وآليات في الاجتهاد.
كما مد الشيخ عينه بعيدا في مجال ترشيد فكر الحركة الإسلامية وتحديد أولوياتها في المرحلة القادمة وذلك في جميع المجالات، فأرشد إلى الرؤى والمواقف والاجتهادات التي يجب على الحركة الإسلامية أن تتبناها في المجالات الحقوقية (حقوق المرأة وحقوق الأقليات والحقوق المدنية) والمجالات السياسية (الديمقراطية، المشاركة السياسية ولوازمها)، ووضع أيضا ضوابط للتعامل مع الحكام، وكيفية استثمار البيئة السياسية لتحقيق مكاسب تعود على الأمة الإسلامية بالمصلحة.
وظيفة التوسع والامتداد في المشروع الفكري للشيخ القرضاوي
وإذا كانت هناك من وظيفة نجح فيها الشيخ القرضاوي، فهي التمكين لتيار الوسطي من التمدد والتوسع، وذلك من منتصف الثمانينيات إلى نهاية التسعينيات، إذ تصدرت كتاباته موقع الترشيد الفكري والتأطير الحركي، فصارت كتاباته مرجعية كل التيارات الإسلامية، بما في ذلك التي أخذت مسافة عن جماعة الإخوان المسلمين. ومن ذكاء الشيخ القرضاوي، أنه مع مرجعيته الإخوانية التي اكتسبها بفعل الانتماء والتاريخ، فقد تجرد عن هذا الانتماء، ووضع نفسه في موقع التأطير الفكري لكل تيارات الحركة الإسلامية، مسميا إياها باسم جديد (العاملين للإسلام)، فاستقطبت كتبه وتآليفه اهتمام كل الحركات الإسلامية، بل كل أطياف الصحوة الإسلامية في مختلف بلدان العالم العربي والإسلامي، فلم يعد معروفا فقط بكتابه الشهير”فقه الزكاة” التي تلقفته الأمة بالقبول والتأييد الواسع، بل صارت كتبه ورؤاه ومواقفه لاسيما في القضايا العقدية والفقهية والأصولية الإشكالية مرجعا مهما لدى كثير من الحركات الإسلامية.
وقد ساهمت كتبه التي اتسمت بهذه المواصفات في توسيع دائرة الصحوة الإسلامية ومكونات الحركة الإسلامية، فأصبح الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي رقما مهما في معادلات السياسة، بل أضحت القوة الأساسية الأولى وذلك منذ بداية التسعينيات.
وظيفة الاندماج في الحقل السياسي والتأثير فيه في المشروع الفكري للشيخ القرضاوي
وتبقى الوظيفة المهمة التي قامت بها كتب الشيخ القرضاوي أنه قام بجهد فكري اجتهادي في تجسير العلاقة مع مكونات الفكر السياسي الغربي، لاسيما ما يرتبط بالديمقراطية والمواطنة وحقوق المرأة وحقوق الأقليات والمشاركة السياسية في نظام نيابي يمنح السلطة للأمة، والتأصيل الشرعي للمراقبة البرلمانية والمعارضة السياسية والاندماج في المؤسسات السياسية والإصلاح من داخلها، كما أولى عناية كبيرة لتجسير العلاقة مع مكونات الأمة بجميع أطيافها، وبحث القواسم المشتركة التي ينبغي الاشتغال على توسيعها لمواجهة الاستبداد السياسي، وغير ذلك مما يدخل في مقتضيات ترتيب خارطة الاندماج في الحقل السياسي، والتكيف مع البيئة السياسية واستثمار قواعدها للتمكين للمشروع الإصلاحي، والنأي بالذات عن الخيارات غير السلمية في الإصلاح السياسي.
والحقيقة أن كتبا كثيرة قد ألفها باحثون ومفكرون وأكاديميون لرصد قسمات المشروع الفكري للشيخ القرضاوي، لكن ما ينقص في دراسة هذا المشروع هو دراسة وظيفته وأثره ودرجة تفاعل الحركات الإسلامية معه، والحدود التي أصبحت فيه كتاباته تشكل مرجعية أساسية لعدد من الحركات الإسلامية.
(المصدر: عربي21)