بقلم الشيخ أحمد علوان
قد يكون العنوان لافتًا وآخذًا للنَّاظرين، لكن له تكمِلة، وهي: أنَّنا لن نستطيع جهاد عدونا إلا إذا جاهَدْنا أنفسَنا؛ فجِهاد النَّفس مقدَّمٌ على جهاد العدو.
فالنَّفسُ الإنسانية من أخطر ما يملِكه الإنسان، فقد تكون النفسُ بصلاحها منجيةً لصاحبها، ودافعةً لكلِّ خير، وقد تكون بآثامها مهلكةً لصاحبها، ودافعة لكلِّ شرٍّ، وعلى العاقل إذا أراد صلاحَ نفسه أن يجاهدها، حتى يقوى على مُجاهدة العدو؛ لذا فَحديثنا عن مجاهدة النَّفس، وعناصرنا كالتالي:
- النَّفس في القرآن والسنَّة.
- مظاهر مجاهدة النفس.
- كيف نجاهد أنفسنا؟!
العنصر الأول: النفس في القرآن والسنَّة:
اعتنى القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة بالنفس عنايةً شديدة، وظهَر الاهتمام بالغًا؛ لما للنَّفس من خطورة ومَكانة، فقد وردَت كلمة (النَّفس) في القرآن الكريم مائتين وخمسًا وتسعين مرَّة، ما بين المعرَّف وغير المعرَّف، والمفرد والجمع.
وفي آخِر موضع يتحدَّث عن النَّفس، قالربنا: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7 – 10].
وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها))[1].
وقد أكَّد لنا القرآنُ الكريم أنَّ مِن سنن وثوابت التغيير أن تتغير الأنفس، فقال ربنا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الرعد: 11].
النفس الإنسانية في السنة النَّبوية: في سنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدلُّ على اهتمامه الشديد بالنَّفس؛ فعندما عرَّف الرسولُ صلى الله عليه وسلم المجاهِدَ قال كما جاء عن فَضالة بن عُبيدٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع: ((ألا أُخبرُكم بالمُؤمن؟ من أمِنَه النَّاسُ على أموالهم وأنفُسهم، والمُسلمُ من سلِم النَّاسُ من لسانه ويده، والمُجاهِدُ مَن جاهد نفسَه في طاعة الله، والمُهاجرُ من هجَر الخطايا والذُّنوب))[2].
بل عدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مجاهدةَ النَّفس من أفضل أنواع الجِهاد، فقال: ((أفضلُ الجهاد أن يُجاهِد الرَّجل نفسَه وهواه))[3].
وأوصى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سيدَنا أبا بكر بأن يَستعيذ بالله كلَّ يوم من شرِّ النفس، كما جاء عن أبي هريرة أنَّ أبا بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه، قال: يا رسولَ الله، مُرْني بكلماتٍ أقولُهنَّ إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ، قال: ((قُل: اللهمَّ فاطرَ السَّموات والأرض، عالم الغيب والشَّهادة، ربَّ كلِّ شيءٍ ومليكه، أشهدُ أنْ لا إله إلَّا أنت، أعوذُ بك من شرِّ نفسي، وشرِّ الشيطان وشركه))، قال: ((قُلها إذا أصبحتَ، وإذا أمسيتَ، وإذا أخذتَ مضجعك))[4].
فهذه وجبةٌ يوميَّة، تُؤدَّى ثلاث مراتٍ: مرَّة في الصَّباح، ومرة في المساء، ومرة عند النوم؛ حتى يحصِّن الإنسان نفسَه من شرِّ نفسه.
العنصر الثاني: مظاهر مجاهدة النفس:
- مجاهدة النَّفس تقتضي التحكُّم فيها:
فمَن أراد أن يجاهد نفسَه، فما عليه إلا أن يتحكَّم فيها، ويخالفَها، ويجاهد رغباتها، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس الشَّديدُ بالصُّرَعة؛ إنَّما الشَّديدُ الذي يَملِكُ نفسَه عند الغضَب))[5].
إذا المرءُ لم يغلِبْ هواه أقامَه ♦♦♦ بمنزلةٍ فيها العزيزُ ذليلُ
- مجاهدة النفس سببٌ في مرافقة الحبيب صلى الله عليه وسلم:
عن ربيعة بن كعبٍ الأسلمي، قال: كنتُ أبِيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيتُه بوَضوئه وحاجته، فقال لي: ((سَلْ))، فقُلتُ: أسألُك مُرافقتك في الجنَّة، قال: ((أوَغيرَ ذلك؟))، قُلتُ: هو ذاك، قال: ((فأعنِّي على نفسك بكثرة السُّجود))[6].
وكان أبو مسلم الخولاني قد علَّق سوطًا في مسجد بيته يُخوِّفُ به نفسَه، وكان يقول لنفسه: “قومي، فوالله لأزحفنَّ بك زحْفًا حتى يكون الكلَل منكِ لا منِّي”، فإذا دخلَت الفترةُ تناول سوطَه وضرب به ساقَه، ويقول: “أنتِ أولى بالضَّرب من دابَّتي”، وكان يقول: “أيظنُّ أصحاب محمَّدٍ أن يَستأثروا به دوننا؟! كلا واللهِ لنزاحمنَّهم عليه زحامًا؛ حتى يَعلموا أنَّهم قد خلفوا وراءهم رجالًا”[7].
- مجاهدة النفس وصيَّة الصحابة رضي الله عنهم:
قال أبو بكر الصدِّيق في وصيَّته لعمر رضي الله عنهما حين استخلفه: إنَّ أول ما أحذِّرك نفسُك التي بين جنبيك.
فهل نحن نَقبل النصيحةَ كما قبِلوها؟! اسمع إلى ما قاله الإمامُ الغزالي:”وقد آل الأمرُ في أمثالنا إلى أنَّ أبغَضَ الخَلق إلينا مَن ينصحُنا ويُعرِّفُنا عيوبَنا، ويكادُ هذا أن يكون مُفصحًا عن ضعف الإيمان”؛ [الإحياء؛ للغزالي].
يقول أنس رضي الله عنه: إنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل حائطًا فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار: عمر بن الخطَّاب أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ، والله لتتقينَّ اللهَ يا بن الخطاب أو ليعذبنَّك!
بين جهاد النفس وجهاد الأعداء:
إن جهاد النَّفس شرطٌ في جهاد العدوِّ، فإذا لم نستطِع أن نجاهد أنفسَنا فكيف نَستطيع أن نجاهِد عدوَّنا؟!
يقول ابن القيم:”كان جهادُ النَّفس مُقدَّمًا على جِهاد العدوِّ في الخارج، وأصلًا له؛ فإنَّه ما لم يُجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أُمرَت به وتترك ما نُهيَت عنه ويُحاربها في الله، لم يُمكنه جهادُ عدوه في الخارج، فكيف يُمكنه جهادُ عدوه والانتصاف منه وعدوُّه الذي بين جنبيه قاهرٌ له مُتسلِّطٌ عليه لم يُجاهده ولم يُحارِبه في الله، بل لا يُمكنه الخُروجُ إلى عدوه حتى يُجاهد نفسَه على الخُروج”[8].
أجيبوني يا أحبائي!
- لو أن شابًّا لم يستطِع أن يرفع اللحافَ والغطاء عن جسده لصلاة الفجْر، هل يَستطيع أن يرفع السِّلاحَ ليجاهد عدوَّه؟
- لو أنَّ رجلًا أذلَّتْه السيجارة، فلم يعزم على ترك التدخين لضعفه أمام نفسه، هل يُنتظر منه أن يكون عزيزًا في مواقف أخرى؟
- لو أنَّ فتاة قالت: لا أستطيع أن أتخلَّى عن البِنطال ولبس الضيق وكشف الشَّعر، هل يُنتظر منها أن تجاهد نفسَها لأمَّتها؟
أعجبني قول الأديب مصطفى صادق الرافعي:”لو كنتُ قاضيًا ورُفع إليَّ شابُّ تجرَّأ على امرأةً فمسَّها، أو احتكَّ بها، أو طاردها أو أسمعَها، وتحقَّق عندي أنَّ المرأة كانت سافِرةً مدهونةً مصقولةً مُتعطِّرةً مُتبرِّجةً، لعاقبتُ هذه المرأة عُقوبتين: إحداهما بأنَّها اعتدَت على عفَّة الشَّاب…، والثانية: بأنَّها خرْقاءُ كشفَت اللَّحم للهرِّ”[9].
المجاهدة، المجاهدة.. هي رأسُ مالنا، وسرُّ قوَّتنا، وسبب انتِصارنا، وبدونها كان هذا حالنا.
كان سيدنا عبدالله بن عمر يقول لِمن سأله عن الجهاد: “ابدأ بنفسك فجاهِدْها، وابدأ بنفسك فاغزُها”.
العنصر الثالث: كيف أجاهد نفسي؟!
1- حب الله ورسوله:
قال عمرُ: يا رسول الله، لأنتَ أحبُّ إليَّ من كلِّ شيءٍ إلَّا من نفسي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحبَّ إليك من نفسك))، فقال له عمرُ: فإنَّه الآن – واللهِ – لأنت أحبُّ إليَّ من نفسي، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((الآن يا عمرُ))[10].
2- الخوف من الله:
يقول ربُّنا: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾ [النازعات: 40، 41].
3- معالجة مواطِن الضعف:
“اعلم أنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أراد بعبدٍ خيرًا بصَّره بعُيوب نفسه، فمن كانت بصيرتُه نافِذةً لم تخْفَ عليه عُيوبُه، فإذا عرف العُيوبَ أمكنه العلاج، ولكنَّ أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفُسِهم؛ يرى أحدُهم القذى في عين أخيه، ولا يرى الجذعَ في عين نفسِه”[11].
يا مَن تمتَّع بالدنيا وزينتِها
ولا تنام عن اللَّذَّات عيناهُ
أفنَيتَ عمرَك فيما لستَ تدرِكه
تقول للهِ ماذا حين تَلقاهُ؟!
4- الإصرار والعزيمة:
قال إبراهيم التيمي: “مثَّلتُ نفسي في الجنَّة؛ آكُلُ من ثِمارها، وأشرب من أنهارها، وأعانِق أبكارها، ثمَّ مثَّلتُ نفسي في النَّار؛ آكُلُ من زَقُّومها، وأشرب من صديدها، وأعالج سلاسلَها وأغلالها، فقلت لنفسي: أيْ نفس، أيُّ شيء تريدين؟ قالت: أريد أن أُردَّ إلى الدنيا فأعمل صالحًا، قال: قلتُ: فأنتِ في الأمنية؛ فاعملي”.
فليجاهِد كلُّ فرد من أفراد الأمَّة نفسَه، ويتغلَّب على هواه، ويحارِب شهوتَه، ويقاوم نزوتَه، ويصارِع رغبتَه؛ فهذا هو طريق النَّصر على الأعداء، ألم يقل ربُّنا: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 69]؟
قال سفيان الثوري: (ما عالَجتُ شيئًا أشد عليَّ من نفسي؛ مرَّة لي ومرَّة عليَّ).
وأخيرًا.. جاهد نفسك، وقل لها:
كفى يا نفسُ ما كانا
كفاكِ هوًى وعِصيانَا
كفاكِ ففي الحَشا صوتٌ
من الإشفاقِ نادانا
أما آنَ المآبُ، بَلى
بلى، يا نفسُ قد آنَا
خطَوْتِ خطاك مخطئةً
فسِرتُ الدَّرب حيرانا
فؤادي يَشتكي ذَنْبي
ويَشكو منكِ ما كانا
أعيدي للحِمى قلبي
وعودي، عودي الآنا
————————————
[1] مسلم (2722).
[2] أحمد (23958)، وصححه الأرنؤوط.
[3] صحيح الجامع (1099)، عن أبي ذر.
[4] أبو داود، والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح.
[5] متفق عليه.
[6] مسلم.
[7] إحياء علوم الدين.
[8] “زاد المعاد”؛ لابن القيم.
[9] “كلمة وكليمة”؛ للرافعي.
[10] البخاري (6632).
[11] إحياء علوم الدين.
المصدر: شبكة الألوكة.