مقالاتمقالات مختارة

ظلمني المفتي | بقلم الشيخ سالم الشيخي

ظلمني المفتي | بقلم الشيخ سالم الشيخي

يقول أحدهم:

ظلمني المفتي الفلاني، وذلك أنّني دخلت في شراكة ماليّة مع صديق لي ثمّ اختلفنا في بعض الأمور المتعلّقة بالشراكة، فذهب صديقي إلى المفتي وأخبره بالمسألة محلّ الخلاف بيننا، فما كان منه إلّا أن أعطاه جوابًا فقهيًّا دون أن يكلّف نفسه أن يستمع إليّ ليتثبّت من صورة المسألة وحقيقة النّزاع بيننا، وظنّ المفتي أنّه قد أفتاه، وهو في الحقيقة قد جعل من نفسه قاضيًا أو محكّمًا وغاب عنه ميزان العدل بإعطائه حكمًا شرعيًّا دون أن يستمع إلى الطرف الثّاني في النزاع.

ثمّ يتابع: ولذا قال لي لا حقّ لك عندي فقد حُسم الخلاف وعندي فتوى في ذلك، وعندما اتصلت بالمفتي قال: أنا قلت له هذا حكم عام أعطيته له بعد الاستماع إليه، فقلت له: لكنّها مسألة تتعلّق بخلاف بين طرفين، فكيف يكون جوابك حكمًا عامًّا وقد جاء في سياق مسألة محدّدة معيّنة، لقد ظلمتني يا شيخ.

هذه الصورة تتكرر في رجل آخر اتصلت زوجته بأحد المفتين وقالت له: زوجي قال لي كذا وكذا، فقال لها: لقد أوقع عليك زوجك الطّلاق فأنت طالق الآن، وبدأ يفصّل لها في أحكام العدّة.

يقول الزّوج: كيف لهذا المفتي أن يحكم بالطلاق وهو لم يستمع إليّ، والقول في مسائل الطّلاق قولي، لماذا لم يسألني المفتي عن سياق ما نقلته زوجتي إليه. لقد ظلمني المفتي.

هذه بعض الصّور سمعتها عشرات المرّات خلال عملي في مجال التّحكيم المالي والأسري وبعضها تترتب عليه مفاسد كثيرة.

إنّ مما ينبغي أن يُعلم في هذا الزمان لكل من نصّب نفسه للإفتاء أن يفرّق عند السّماع إلى المستفتي بين مجال الفتوى والقضاء والتعليم، فالمسألة إن كانت سؤالًا عن حكم عام غير مشخّص في معيّن، فهذا تعليم وتدريس، وإن كانت تتعلّق بشخص معيّن فهي فتوى، وإن كانت تتعلّق بالسائل ومعه غيره فهي تحكيم أو قضاء وتحتاج إلى تثبّت واستماع إلى الأطراف الأخرى، وإعمال الإجراءات المتّبعة في التّحكيم والقضاء من قواعد الإثبات ونحوها.

وها هنا تنبيهات:

  • فصّل العلماء- رحمهم الله- في العلاقة بين الفُتيا والقضاء، وبيّنوا أوجه الاتفاق وأوجه الافتراق خاصّة في باب الإلزام ونقض الفتوى والقضاء ونحوه، فعلى المفتي أن يتضلّع من فقه هذه المسائل.
  • مما يميّز القضاء عن الإفتاء أنّ القاضي أو المحكّم يعتمد على الأدلّة مثل: الحُجج والبراهين، والبيّنات مثل: القرائن والإقرار ونحوها، ومن هنا كانت بداية عمليّة التقاضي تبدأ من الاستماع إلى طرفي النّزاع وإعمال إجراءات البيّنات بتفاصيلها المقرّرة عند أهل العلم، ومن أجل ذلك اشترطت في القاضي صفات عديدة لكي ينجح في إصابة الحقّ قدر استطاعته بخلاف المفتي الذي يدور مع الأدلة. قال القرافي: «الحاكم -يعني القاضي- يتبع الحجاج والمفتي يتبع الأدلّة».
  • مما يفعله كثير من المستفتين في واقعنا المعاصر أنّه إذا سأل المفتي عن مسألة تحتاج إلى الاستماع إلى طرف آخر له صلة بها، وقال له المفتي: أحتاج إلى أن أتبيّن من خصمك أو من زوجك أو من المؤسسة المعنيّة الّتي اختلفت معها فإنّ المستفتي يقول له: هب أنّني أسألك عن مسألة عامّة، أي أنّ هناك شخصًا لديه كذا أو تقول المرأة: لو أنّ الزوج قال كذا فما حكمه؟ وقد يقع عدد من المفتين في هذا المنزلق ويعطي حكمًا يظن أنّه عام لكنّه في الحقيقة هو حكم جاء في سياق خاص يستخدمه المستفتي ضدّ خصمه أو المرأة ضدّ زوجها أو الزوج ضدّ زوجته في مسألة النفقة والحقوق ونحوها.

وختامًا أيّها المفتي الموقّر انتبه إلى فساد الزّمان واعلم أنّه قد تستخدم فتواك في النّزاعات وأنت لم تُعمل فيها أدوات الإثبات وأوجه البينات، وأن أخطر هذه المزالق وأشدّها أن تحكم على الأعيان بالكفر أو البدعة بمجرد سماعك من طرف واحد.

احذر أيها المفتي الكريم من أن تكون سببًا في إيقاع مظلمة أو مفسدة على أحد من الخلق وأنت تظن أنّك تحسن صنعًا.

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى