مقالاتمقالات مختارة

عن السّلفيّة المعاصِرة؛ أنواعُها وتَناقُضَاتُها ومنهجيّة تقيِيمِها

عن السّلفيّة المعاصِرة؛ أنواعُها وتَناقُضَاتُها ومنهجيّة تقيِيمِها

بقلم محمد خير موسى

أخطاء منهجيّة في الحكم والتّقييم

من أكبر الأخطاء المنهجيّة في نقاش الجماعات والتيّارات الفكريّة المعاصرة عدمُ تحرير الموضع والإطار المقصود بالحكم والتّقييم، وإطلاق الحكم العامّ وتنزيلُه على مكوّنات مختلفةٍ فيما بينها في الحقيقة متشابهةٍ في الأصل، أو متناقضةٍ في المضمون متّحدةٍ في الاسم.

ومن تجلّيات هذا الخلل المنهجيّ؛ إطلاق التّقييمات على السّلفيّة المعاصرة بالجملة دون تفريقٍ أو تحديدٍ وتخصيص.

كأن يقول قائل: السّلفيّة يؤمنون بهذا التوجّه، أو السّلفيّة يتبّنون الموقف السّياسيّ الفلانيّ، أو السّلفيّة يعتقدون الاعتقاد العلّاني تجاه أنظمة الحكم أو الجماعات غير السلفيّة، أو السّلفيّة يلتزمون بالسّلوك الفلانيّ تجاه الثّورات الشعبيّة على الأنظمة السياسيّة.

ومن مجافاة الإنصاف عدم مراعاة تطوّر السّلفيّة المعاصرة وتحوّلاتها الفكريّة وانقسامها من فكرةٍ كانت تدلّ على جماعةٍ إلى فكرةٍ صارت تدلّ على جماعات.

والسّلفيّة اليوم هي غير السّلفيّة القديمة بل هي غير سلفيّة الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب عند من يرون أن مبتدأ التيّار السّلفيّ المعاصر كان بدعوته.

فالسّلفيّة اليوم تطوّرت عن الجماعة التي أنشاها الشّيخ محمّد بن عبد الوهاب حتّى غدت سلفيّاتٍ مختلفةً فيما بينها جلّها يدّعي وصلًا به على الرّغم من أنَّ الأمر فيما بين كثيرٍ من مكوناتها تجاوز حدّ التّناقض وصولًا إلى التكفير.

سلفيّاتٌ لا سلفيّة

وإذا أردنا أن نطوّف في عجالةٍ على السّلفيّة المعاصرة فإننا نجد هذا المصطلح يشتمل اليوم على كلٍّ من:

السّلفية العلميّة التقليديّة؛ وهي سلفيّةٌ محافظةٌ تقومُ على العمل العلمي الشرعيّ والنّشاط الدّعوي، وهي مدارس متعدّدة تتنوّع بين السّلفيّة الفقهيّة ويتزعّمها الشّيخان ابن باز وابن عثيمين، والسّلفيّة الحديثيّة ويتزّعمها الشّيخ ناصر الدّين الألباني، ولعلّ الشّعار الأبرز الذي يرتبط بهذه السلفيّة هو التّوحيد ومحاربة البدع والشّركيّات.

والسّلفيّة الجاميّة المدخليّة؛ وتنسبُ إلى الشّيخ محمّد أمان الجامي والشّيخ ربيع بن هادي المدخلي، وهي تياراتٌ متشاكسة انشق بعضها عن بعض لكنّها تحتفظُ بتوجّهاتٍ واحدةٍ في المواقف السّياسيّة ابتداءً من السّعوديّة وصولًا إلى ليبيا مرورًا بمصر واليمن، والشّعار الأكثر دلالةً على هذه السّلفيّة هو “طاعة وليّ الامر” ويعني الطّاعةَ المطلقةَ والانقيادَ التّام للحاكم والذّود عنه مهما كان مستبدًا أو طاغيةً أو ظالمًا.

وتفرّعت عن السلفيّة التقليديّة سلفيّةٌ بنكهةٍ مدخليّة جاميّة في مصر عقب انقلاب السّيسي يمثّلها الشّيخ ياسر برهامي وجماعتُه من حزب النّور الذين كانوا عونًا للسّيسي في انقلابه وأبرَزَ تيّارٍ مشيخيّ يساندُ الانقلاب ويطبّلُ لجرائمه ومجازره.

والسّلفيّة الحركيّة؛ وتشتمل على السّلفيّة السّرورية التي ترجع نسبتُها إلى الشّيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين، وتضمّ السّلفيّة الحركيّة أيضًا الجماعة الإسلاميّة المصرية التي كانت سلفيّةً جهاديّة ثمّ تحوّلت إلى سلفيّةٍ حركيّة عقب ما خاضته من المراجعات وأعلنته من التّراجعات عام 1997م.

والسّلفيّة الوطنيّة؛ وهي سلفيّةٌ تجديديّةٌ يُعدّ الشّيخ عبد الحميد بن باديس وصاحبه الشّيخ البشير الإبراهيمي المؤسِّسَين الحقيقيّين لها ويمثّلها اليوم سلفيّةُ جمعيّة العلماء المسلمين في الجزائر.

والسّلفيّة الإصلاحيّة؛ وهي سلفيّةٌ تجديديّةٌ أيضًا وترجع في تأسِيسها إلى الإمام محمّد عبده ورسّخ دعائمها الإمام رشيد رضا

والسّلفيّة الجهاديّة؛ وتضم تياراتٍ متناقضةً متصارعةً فيما بينها وهي فرق عدّة بعضها عالميّ الانتشار كالقاعدة وداعش وبعضها محليّ النشاط لكنّه يؤمن بعالميّة الانتشار، وأهم شعارٍ دالٍّ عليها هو “الحاكميّة” وأهمّ سماتِها سهولة التّكفير واستحلال الدّماء.

اختلافات حدّ التّناقض

وكل هذه السّلفيّات وإن كان يجمعها إطارٌ عام واحدٌ وترتكزُ إلى مبادئ اعتقاديّة مشتركة؛ غير أنَّ كلّ قسمٍ من أقسام السّلفيّة يختلفُ عن الآخر من حيث الأفكار التّنظيريّة التفصيليّة والسّلوكيات العمليّة والمواقف السّياسيّة والموقف من الجماعات الأخرى، ويصل الأمر فيما بينها بهذه القضايا إلى حدود كبيرة من الاختلاف والتّناقض الصّارخ.

فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ فإنّ السّلفيّة الجهاديّة في عمومها تكفّرُ السّلفية الجاميّة ولا تتورّع عن تكفير السّلفيّة السروريّة واستباحة دمها.

بينما السّلفيّة العلميّة التقليديّة والسّلفيّة السرورية تعدّ أجزاءً من السّلفيّة الجهاديّة كالقاعدة وداعش من الخوارج وترفض قطعًا نسبتهم إلى السّلفيّة؛ فهم عندهم من أهل القبلة لكنّهم ليسُوا من أهل السّنّة والجماعة حكمهم في ذلك حكم الشّيعة الإماميّة عندهم.

والسّلفيّة الجاميّة تعدّ السّلفيّة السّرورية من الخوارج الذين طوبى لمن قتلهم واجتثّهم من أصلهم، وتلحقهم بهذا الحكم بجماعة الإخوان المسلمين الذين تحكم عليهم بهذا أيضًا.

وكذلك في المواقف السّياسيّة من الخروج على الحكّام والثّورة عليهم والمشاركة السّياسيّة فهناك الكثير من الاختلاف فيما بين هذه التيّارات

ففي الوقت الذي ترى فيه السّلفيّة العلميّة حرمةَ الخروج على الحكّام الظّالمين والثّورة عليهم، وتقاتلُ فيه السّلفيّة الجاميّة المدخليّة إلى جانب حفتر في ليبيا والإمارات في اليمن؛ وتشاركُ شريحةٌ من السّلفيّة في الانقلاب على الرّئيس مرسي وتساندُ السّيسي؛ فإنّ السّلفيّة الحركيّة ومنها السّلفيّة السّروريّة والجماعة الإسلاميّة في مصر انخرطوا بكلّ قوّتهم في الثّورات الشّعبيّة ضدّ الأنظمة الحاكمة في سوريا ومصر، وتبنَّوا هذه الثّورات ونظّروا لها وأصّلوا لها شرعيًّا وفكريًّا، وشاركوا في العمل السّياسيّ المنبثق عنها، وتحالفوا مع جماعة الإخوان المسلمين؛ وشاركوا في الانتخابات البرلمانيّة وكان لهم أعضاء في البرلمان المُنتخب.

وكذلك نجدُ أنّ السّلفيّة الجهاديّة أيضًا تتبنّى الخروج على الحكّام  لكنّها لا تقبلُه إلّا خروجًا عنيفًا بالدّم والسّلاح؛ كافرةً بالمقاومة المدنيّة والعمل السّياسي البرلمانيّ من حيثُ الجملة والتّفصيل.

محدّدات ضروريّة

وأمام هذه المواقف المتناقضة لا بدّ من الانتباه إلى محدّدات مهمّة عند الحديث عن السّلفيّات المتعدّدة داخل الإطار السلفيّ الجامع، ومن هذه المحدّدات:

أولًا: عموم المدارس السّلفيّة تتبنّى مذهبًا اعتقاديًا واحدًا، وهذا ما قد يدفع البعض إلى أن يشملها كلّها بالتقييم، غير أنّه من الضّروري ملاحظة أنّ الاتّحاد في أصل المذهب الاعتقاديّ لا يحول دون خلافات كبيرةٍ في فروع الاعتقاد، وفي فروح الفقه، وفي المسائل والمواقف السياسيّة.

ثانيًا: تكاد تكون المصطلحات التي تكرّرها المدارس السّلفيّة المختلفة واحدةً في خطابها الإعلاميّ، مثل التّوحيد وما يتفرّع عنه، والولاء والبراء، والبدعة، والتّكفير، غير أنّ تعامل المدارس السّلفيّة مع المصطلحات الواحدة مختلف في تفاصيله ومقتضياته.

ثالثًا: تعتمدُ المدارس السّلفيّة المختلفة على المصادر التراثيّة نفسها تقريبًا غير أنّ كلّ مدرسةٍ تقرأ هذه الكتب بطريقة مختلفةٍ عن الأخرى، واتّحاد المصادر التراثيّة لا يقتضي على الإطلاق اتّحاد المُخرجات الفقهية أو الاعتقاديّة أو الفكريّة.

رابعًا: عموم المدارس السلفيّة “نصوصيّة”؛ غير أنّها تختلفُ في تعاملها مع النّصوص فبعضها ظاهريّ بحت وبعضها الآخر ينحو إلى تحليل النّص وبعضها مقاصديّ بنسبةٍ يسيرة، وعموم من يتحدّث عن السلفيّة المعاصرة يركّز على كونها “نصوصيّة” دون تفكيكٍ لحقيقة التّعامل المختلف بين المدارس السلفيّة مع النصّ ممّا يسوّغ ويشجّع على التقييم الموحّد لمختلف هذه السّلفيّات المتناقضة؛ فيكون تقييمًا مجافيًا للصّواب.

وأخيرًا؛ فإنّ إطلاق حكمٍ عامٍ واحدٍ على السّلفيّة المعاصرة اعتمادًا على مرجعيّتها الاعتقاديّة الواحدة أو التّشابه فيما بينها في المصادر الشرعيّة؛ غير منهجيّ وغير صحيح، وإنّما ينبغي تفكيكَ المكوّن إلى أفراده، وتحريرُ الموضع وتحديد القسم والمدرسة المرادُ تناولُها، وتحديد نوع السّلفيّة عند الحديث وإطلاق الحكم والتّقييم.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى