مقالات مختارة

المجاهدون والحرص على الناس

بقلم د. ياسر عبد التواب

هناك بعض أعمال يقوم بها من ينسبون للجهاد تبدو منفرة وتخالف ما رسخ في الأذهان من الرحمة والشفقة بالناس حيث وصفهم الله تعالى بأنهم لا يعلمون ومن لا يعلم لا تقوم الحجة عليه بل ويستحق الشفقة كونه جاهل لم تبلغه الحجة قال تعالى : {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه …ذلك بأنهم قوم لا يعلمون} التوبة

فلكونهم لا يعلمون يوجب علينا بيان الحق لهم بيانا باللسان وبالأفعال والأخلاق.. كما تشير إلى ذلك الآية، وأظن من قام بهذه الأفعال القاسية لم يدرك ما يسعى له الإسلام من تقريب الناس وجذبهم والبعد عن تنفيرهم.. من غير تنازل عن ثوابت الدين ولا ترك ردع المعتدين أو قتال مقاتليهم والممتنعين عن الحق منهم بالطبع.

لكن حتى في ذلك حذرنا الشرع من الخوض في الانتقام ومن الوقوع في التعذيب أو التمثيل بالجثث وقطع الرؤوس وما يشبه، وقد عاتب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم حين أقسم أن يمثل بسبعين من المشركين جزاء ما مثلوا بحمزة رضي الله عنه وقال تعالى له : {ليس لك من الأمر شيئ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون} آل عمران

لأن هذه الأعمال تؤذي الأحياء وتوغر صدورهم ولا تغير من حقيقة موت المقتول، فمن أجل مهمات الداعية أنه يحرص على الناس ويخاف الله تعالى فيهم ويشفق عليهم شفقة الكبير على الصغير.. يحرص على دينهم فلا يعرضهم للفتن ويحرص على دنياهم فلا يؤذيهم ولا يتسبب في إيذائهم ويحرص على عدم وصول الشبهات إلى قلوبهم ومن هنا كان المنع أو الحجب لما يسبب حرجا أو يوقع في فتن من الشبهات أو الشهوات لئلا يصل إلى الناس ما لا يحسنون التعامل معه أو يعرضهم لسخط الله تعالى وقد قال القرآن الكريم في ذلك -على لسان يوسف عليه السلام : {وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين} يوسف 33 وليس هذا تسلطا بل هو إدراك لما ينبغي أن يكون.

ومن هذا الحرص أن يحرص الداعية أيضا على دعوة غير المسلمين وبيان رحمة الله بهم بإرسال رسوله وإنزال كتابه وإزالة الشبهات التي تعلق بأذهانهم عن دين الله تعالى.

ومن حرص الداعية على الناس ألا يصل إليهم ما يتسبب في إساءتهم الظن بالإسلام والمسلمين ولذا نقول دوما أن العنف في التعامل مع الآمنين -وليس جهاد المحاربين- يؤدي إلى نتائج عكسية مع عدم جواز ذلك من حيث المبدأ.. وذلك لأنه يشوه صورة الإسلام فيرفضه الناس لترسخ هذه الصورة في أذهانهم.. ولذا حرص النبي على عدم قتل المنافقين مبررا هذا بقوله (لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه)

فالحرص على الناس ينبغي أن يكون سجية من سجايا الدعاة ومن يهتم بأمر هذا الدين ودعوة الناس له فلقد كان النبي أحرص الناس على الناس ..كيف لا وهو المبعوث رحمة لهم وكان من حرصه عليهم تكاد تذهب نفسه على المفرطين والمقصرين حسرات لقد لبث بمكة عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في المواسم يقول من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة.

ومن ذلك الحرص عرضه الدعوة في مواسم الحج وعلى قبائل العرب، فعن عبد الله بن كعب بن مالك رضي الله عنهما قال: أقام رسول الله ثلاث سنين في نبوته مستخفياً، ثم أعلن في الرابعة، فدعا عشر سنين يوافي المواسم، يتبع الحاج في منازلهم: بعُكاظ، ومجنة، وذي الحجاز، فلا يجد أحداً ينصره، يدعوهم أن يمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه عز وجل ولهم الجنة، فلا يجد أحد ينصره، حتى إنه يسأل عن القبائل ومنازلهم قبيلة قبيلة)

أخرج الطبراني عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: من الآية105) ونحو هذا من القرآن قال: إن رسول الله كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويبايعوه على الهدى، فأخبره الله عز وجل أنّه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذَّكر الأول، ولا يضلُّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذكر الأول، ثم قال الله عز وجل لنبيه : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} (الشعراء:3/4)

فالحرص على الناس وعلى دعوتهم ونجاتهم هو من صفات أولي الهمم العالية و كان سجية من سجايا رسولنا صلوات ربي عليه فلنتخذه سبيلا.

لعل من يمارس العمل العام أو الدعوة أو الجهاد يدركون ذلك لئلا تتسبب بعض أفعالهم في الصد عن سبيل الله من حيث لا يشعرون.

المصدر: الأمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى