مقالاتمقالات مختارة

أخصر المختصر في ملامح النظام السياسي الإسلامي(1)

أخصر المختصر في ملامح النظام السياسي الإسلامي(1)

بقلم أ. محمد إلهامي

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

ما زالت تزداد قناعتي كل يوم بأن المعضلة المعاصرة التي تواجه المسلمين ليست معضلة شبهات تحتاج إلى ردود وتوضيح وبراعة في البيان والتفسير والتفصيل، بل هي معضلة عجز وإخفاق تحتاج إلى كفاءة في العمل والإنجاز والبناء والتكوين.

فالشبهة مهما كانت متهافتة فإنها تستمد قوتها إذا نطق بها القوي الغالب المتمكن، والحق مهما كان سديدا فهو مخدوش مُزْدَرى إذا نطق به الضعيف المهضوم، تلك طبيعة النفس البشرية، فإذا انقلبت موازين القوى فإذا بالشبهة المتمكنة التي كانت تهيمن في زمن القوة تزول كأنها غمامة صيف تنقشع، وإذا المهضوم المزدرى إذا غَلَبَ انتصرت أفكاره وأقبل عليها الناس بلا عسر.

ومع هذا كله، فلا بد من البيان فإنه أول العمل، وقد جعل البخاري بابا في صحيحه بعنوان «باب العلم قبل القول والعمل»..

ثم أقول: وما زالت تزداد قناعتي كل يوم بأن الإنتاج المعاصر في باب السياسة الشرعية ليس قليلا ولا هو ضعيف أو ضحل، وإنما هذا كلام من لم يكن لهم حظٌّ من الاطلاع على ما أنتجه المعاصرون في باب السياسة الشرعية أو ما صار يسمى «الفقه السياسي الإسلامي»، والواقع عكس ذلك، فإن قضية الدولة الإسلامية كانت هي القضية الأكثر حرجا لدى المهمومين بقضايا الإسلام، طوال قرنٍ أو قرنين على الأقل، وأنتجوا فيها كثيرا جدا. إلا أن أكثر هذا الإنتاج غير معروف ولا مشتهر، وما ذلك إلا لأن موازين القوى -والتي من بينها منافذ الإعلام والثقافة- تسهم في طمر هذا الإنتاج وغمره. وإنما المنشور كثير جدا، وأكثر منه غير المنشور الذي لا يزال رابضا على رفوف المكتبات في الرسائل العلمية بكليات الشريعة والقانون والحقوق والاقتصاد والسياسة، فكثير من طلاب هذه الكليات عبر هذه العقود بحثوا الموضوعات المعاصرة والقضايا الملحة في الإسلام أو مقارنا بغيره من النظم الوضعية. وهذا فضلا عن إنتاج المجامع الفقهية ومراكز البحوث الإسلامية المتعددة التي حاولت سد هذه الثغرات وتقديم مشروع إسلامي.

ولكن، وبسبب ما ذكرناه من هيمنة العلمانية على المجال العام ومنافذ التعليم والثقافة، فلا تزال الحاجة ماسة لتعريف المسلمين بملامح النظام السياسي الإسلامي، وكيف أنه متفرد متميز عن غيره. كما لا تزال الحاجة ماسة إلى تبسيط هذه المادة العلمية وتقديمها بمختلف الصور ووسائل الشرح لتحقق أكبر انتشار بين عموم المسلمين، وعموم غير المسلمين أيضا.

وفي النهاية، فمهما كان ثمة نظرية عظيمة متقنة محكمة، فلا مجال لرؤية عظمتها إذا لم تكن ثمة فرصة للتطبيق والتنزيل، وهنا تظهر بشكل أقوى موازين القوى التي لا تسمح بأدنى قدر من تحقق الفكرة في واقع الحياة. فمهما امتلكنا من البلاغة والفصاحة وأحسنَّا الشرح والبيان والتفصيل، فلن يتغير شيء في الواقع.

لهذا الذي سبق كله، حاولت في هذه السطور القادمة اختصار أهم الأفكار التي أرى أن عموم المسلمين في حاجة لاستيعابها جيدا في ملامح النظام السياسي الإسلامي، وليس لي إلا غرض واحد فيها لو أنه تحقق فقد تمَّت النعمة، وهو: تجميع هذه الأفكار المتناثرة في خيط واحد لدى العقل المسلم، خيط يتصل فيه ما هو ديني بحت بما هو دنيوي بحت، يتصل فيه معنى التوحيد العقدي بشكل النظام السياسي، وهذا الاتصال هو الذي أستشعر كثيرا في نقاشاتي مع الشباب أنه مفقود أو غير واضح.

ووضعت هذه الأفكار في نقاط، حاولت أن تسلم كلُّ واحدة منها للتي بعدها، فأسأل الله أن أكون قد وفقت في هذا:

1- اختلف معنى كلمة «السياسة» عبر الزمن، وفي زماننا هذا يُقسم المعاصرون «السياسة» إلى ثلاثة فروع كبرى هي: النظرية السياسية، النظم السياسية، العلاقات الدولية.

2-  مهما جاء أحدٌ بمشروع تغيير وإصلاح، فإنه لا يستطيع أن ينفكَّ عن واقعه ولا أن يبدأ من الفراغ، وإنما يأخذ من واقعه لمشروعه، ويعاني مضايقاته، ويتصرف في اضطراراته، ويوازن بين المصالح والمفاسد حتى يبلغ ما يريد. ولم يستطع المثاليون المتعلقون بالأحلام المستعلنون برفض الواقع المتعالون على السنن، أن ينجزوا التغيير في واقع الحياة.

3-  الموازنة بين المصالح والمفاسد، مهما كُتِب فيها نظريا، فإنها متعلقة بحكمة العاملين وقوة فهمهم للسنن وحسن بصيرتهم في تقدير المآلات، ومن ثمَّ فالحديث النظري إنما هو رسم للخطوط العامة والقواعد العريضة وتوضيح للأهداف والغايات، فهو كالهداية والإرشاد وليس قيدا لتعطيل العمل أو القعود بالعاملين. وهو تحديد للوجهة والطريق وليس حثًّا على المسارعة في هدم الواقع ومخالفة سنن التدرج ومراعاة الطبائع والتقيد بحكم الضرورة والاضطرار.

4-  تراجعت حركة الاجتهاد في الفقه السياسي لظروف عديدة: سياسية وعلمية، فالمجتهد في باب الفقه السياسي بحاجة إلى إدراك ثلاثة أمور: علم السياسة الشرعية، والعلم بالواقع المعاصر، وإدراك الفوارق بين النموذج الإسلامي والمعاصر على مستوى التنظير وعلى مستوى التطبيق التاريخي والواقعي. وهذه الأمور يتعذر تحصيلها في الأوطان التي يحكمها الاستبداد وينشر فيها التخلف العلمي.

5- ومن شأن هذا أن يقع الخلاف الكثير والواسع أحيانا بين مكونات وأطياف العمل السياسي الإسلامي، فالخلاف قد يحدث في الاجتهاد نفسه، وقد يحدث في تنزيل هذا الاجتهاد على الواقع، وقد يحدث في كليهما. كما أن التطبيق العملي لهذا الاجتهاد قد يتناوله الخطأ، والعبرة بمجمل أحوال العاملين، ويجب أن تتسع الصدور لمن دلَّت مجمل أحواله على الرغبة الصادقة لخدمة الإسلام والمسلمين، مهما وقع الخلاف بيننا في التأصيل أو في التنزيل أو في التطبيق.

6-  الأصل الأول الكبير الذي قام عليه الإسلام هو التوحيد، الذي هو شهادة “لا إله إلا الله”، ومن هذا الأصل الكبير تتفرع سائر الأصول والفروع التي تمثل نظام الإسلام في واقع الحياة. ومن ثم، فإن التوحيد يمثل صلب النظرية السياسية الإسلامية.

7- تتمثل أهم آثار «التوحيد» في “النظرية السياسية الإسلامية” في أنه يحسم الإشكاليات الكبرى المعضلة التي اختلفت فيها النظريات السياسية الوضعية، وذلك لوضوح التصور العام والقيم الأساسية والأهداف النهائية وطبيعة العلاقات السياسية والاجتماعية.

8-  إن الله تبارك وتعالى قد اختص نفسه بالخلق والأمر {ألا له الخلق والأمر}، ومن ثم فإن البشر سواء، ولا فضل للحاكم على المحكوم وإنما هو وكيل عنهم، وهم جميعا –الحاكم والمحكوم- يعملون لتنفيذ أوامر الله التي أنزلها على رسوله، ومن هنا نزع الإسلام كل الأصول والقواعد التي يقوم عليها الطغيان، فالحاكم ليس إلها ولا شبه إله ولا ينحدر من نسل الآلهة، كما أن القوانين والشرائع التي تهيمن على المجتمع ليست من إنتاج الحاكم أو النخبة الحاكمة وليست وثيقةً كتبها المنتصر في لحظة ما، بل هي شريعة الله التي يعلمها ويخضع لها الجميع.

9- وكل محاولة للطغيان على البشر تبدأ منذ اللحظة التي يتغلب فيها أحدهم، فيكتب في لحظة نصره الوثائق والقوانين التي يحكم بها الناس، ليتحول انتصاره إلى حالة شرعية وتتحول مقاومته إلى حالة خروج عن الشرعية تستوجب العقوبة. هذا الطغيان على الناس يراه الإسلام «عبودية لغير الله»، ويعتبر المسلمون أن من مهماتهم إنقاذ الناس بإخراجهم من عبادة غير الله إلى عبادة الله، وبذلك يخرجون من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

10- هذا التأسيس العقدي للتوحيد يتفوق على كل تأسيس آخر فكري ونظري، لأنه يستمد قوته من كونه دينا وعقيدة، وليس مجرد فكرة أو فلسفة، وبهذا يتحول المسلم -من هذه الزاوية- إلى طاقة عملية جبارة في التغيير، لا إلى مجرد عنصر يحمل فكرة ثورية فحسب!

11- وبعد هذا التأسيس العقدي، فإن الإسلام يبني نظامه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي بحيث يقلص الصلاحيات الممنوحة للحاكم ويجعلها في الحد الأدنى اللازم لإدارة وتدبير شأن الناس، وفي نفس الوقت يزيد من التكتل الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع، بحيث تكون القدرة على اضطهادهم واستعبادهم أصعب ما يكون، إذ هي خروج على الشريعة وعلى النظام الاجتماعي الراسخ في نفس الوقت.

12- بهذا صار مستقرا لدى المسلمين، حتى في عصور هيمنة الإمبراطوريات التي يزعم حكامها أنهم يحكمونها بقداسة إلهية، أن الحاكم مجرد بشر وأنه وكيل عنهم وأن مهمته تنفيذ الشريعة ورعايتها، وأنهم مكلفون برقابته والنصح له وتقويمه سرا وجهرا، وأن خروجه عن الشريعة يسقط شرعيته ويبيح الخروج عليه. وهذه الأصول والثوابت لم تصل إليها الأنظمة المعاصرة حتى الآن، ويبقى على المسلمين مهمة الاجتهاد المعاصر في التحقيق الأمثل لهذا النموذج، كتدبير شأن اختيار الحاكم وتدبير طرق رقابته وتقويمه، ومقاومته وعزله.

13- وبملاحظة التطبيق التاريخي للنموذج الإسلامي في مقابل النظم الأخرى بما فيها الديمقراطية المعاصرة، يمكن القول بوضوح بأن أشد حكام التاريخ الإسلامي استبدادا كانت صلاحياته أقل كثيرا من أكثر حكام الديمقراطية المعاصرة، وهذا الحاكم الأشد استبدادا في الحضارة الإسلامية كان محكوما في تصرفه -رغبا أو قسرا- بقيود أخلاقية لا يلتزم بها أكثر حكام الديمقراطية المعاصرة.

يُتبَع

(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى