مقالات المنتدى

نزول القرآن.. دلالات وواجبات

بقلم د. وصفي عاشور أبوزيد

القرآن الكريم هو الكتاب الخالد لهذه الأمة، ودستورها الشامل، وحاديها الهادي، وقائدها الأمين، كما أنه الكتاب الخالد للدعوة الإسلامية، ودليلها في الحركة في كل حين، وله أهمية كبيرة في حياة الفرد، وفي حياة الأسرة، وفي حياة المجتمع، وفي حياة الأمة؛ فهو يعالج بناء هذا الإنسان نفسه، بناء شخصيته وضميره وعقله وتفكيره، ويشرع من التشريعات ما يحفظ كيان الأسرة؛ تظللها السكينة وتحفها المودة وتغشاها الرحمة، كما يعالج بناء المجتمع الإنساني الذي يسمح لهذا الإنسان بأن يحسن استخدام الطاقات الكامنة في المجتمع، وينشد الأمة القوية المتماسكة الشاهدة على العالمين.

في القرآن الكريم نجد المناهج الثابتة، والسنن الجارية، والقيم السامية، والمثل العالية، والموازين العادلة، والقواعد الراسخة، والأفكار السامقة، والتصورات الراشدة، وغير ذلك مما جعل القرآن الكريم كتابا خالدا شاملا محكما يخاطب الإنسان والزمان والمكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

هذا القرآن الكريم أنزله الله تعالى في شهر رمضان الفضيل، وتحديدًا في ليلة القدر التي كانت واضحة ثم أخفاها الله تعالى لحكمة يعلمها، ولا يظهر لنا منها إلا الاجتهاد في العبادة وتحريها بالتهجد والاعتكاف والقيام والذكر والدعاء، والمسارعة في العبادة والخيرات.

وسوف يكون حديثنا من خلال آيات ثلاث في القرآن الكريم، أو ثلاثة مواضع فيه:

الموضع الأول: في سورة البقرة من قوله سبحانه: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة: 185-186).

والموضع الثاني: من سورة الفرقان، مطلعها، قال تعالى: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (الدخان: 1-4).

والموضع الثالث: سورة القدر كاملة، وهو قول الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ. لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ. تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ. سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ} (سورة القدر).

دلالات الزمان ومعالم بركاته

لنزول القرآن الكريم في شهر رمضان دلالات ومعانٍ عقديةٌ وإيمانية ونفسية وروحانية وأخلاقية وسلوكية، تحدث عنها علماؤنا حديثا ممتعا في تناولهم لتفسير الآيات المشار إليها قبل قليل؛ فهذا الإمام محمد أبوزهرة يقرر أن «اختصاص شهر رمضان بالصوم؛ لأنه نزل فيه القرآن، فيه تذكير بمبدأ الوحى، واحتفال بأكبر خير نزل في الأرض وهو بعث النبي “صلى الله عليه وسلم”  فإنه نور الأرض وإشراقها، والاحتفال به احتفال بنعمة الهداية، ونعمة الخروج من الظلمات إلى النور، ونعمة إرسال نبي الرحمة… وقد وصف الله تعالى القرآن بأنه هدى للناس… لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، وهو معجزة الله تعالى الكبرى، وهو بهذا هداية وتوجيه إلى مقام الرسالة المحمدية، وهو مع ذلك فيه آياته البينات… أي أن آياته بينات واضحة من الهدى وهو الشريعة التي جاء بها، والفرقان أي الأمر الفارق بين الحق والباطل، والظلم والعدل، والشورى والاستبداد، والإصلاح والإفساد، وعمران الأرض وخرابها» .

وهذه دلالات أغلبها عقدية وحضارية؛ فهو تذكير بابتداء الوحي، واحتفال بإرسال النبي وما يقتضيه ذلك ويستتبعه، وإنعام بما في القرآن من بينات واضحة، وأمور فارقة بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والظلم والعدل…الخ.

وقد أكد على هذه المعاني من قبلُ الإمامُ ابن كثير بقوله: «وقوله: {هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدقه واتبعه {وَبَيِّنَاتٍ} أي: ودلائل وحُجَج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبَّرها دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال، والرشد المخالف للغي، ومفرقًا بين الحق والباطل، والحلال، والحرام» .

وليس رمضان هو الزمان المختار لنزول القرآن فقط بل هو زمان نزول الكتب السماوية جميعا، وفي هذا ما فيه من تشريف للزمان، يقول الإمام ابن كثير في تفسيره: «يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه، وكما اختصه بذلك، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء» .

ويربط الشيخ محمد متولي الشعراوي بين الصيام باعتباره مدرسة للتربية، وبين التشريع باعتباره منهجا للتربية وترقية الإنسان، وهذه دلالة تربوية مهمة، يقول: «يعطي له – أي لشهر رمضان – سبحانه منزلة تؤكد لماذا سُمي، إنه الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، والقرآن إنما جاء منهجَ هدايةٍ للقيم، والصومُ امتناع عن الاقتيات، فمنزلة الشهر الكريم أنه يربي البدن ويربي النفس، فناسب أن يوجد التشريع في تربية البدن وتربية القيم مع الزمن الذي جاء فيه القرآن بالقيم، {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن}» .

ويؤكد العلامة عبدالرحمن السعدي أن هذا الشهر العظيم قد حصل لنا فيه خير عميم بنزول القرآن فيه، فيقول: «الصوم المفروض عليكم، هو شهر رمضان، الشهر العظيم، الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل العظيم، وهو القرآن الكريم، المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيق بشهر، هذا فضله، وهذا إحسان الله عليكم فيه، أن يكون موسما للعبادة مفروضا فيه الصيام» .

وقد حدد القرآن أن نزول القرآن كان في ليلة القدر الذي يشملها شهر رمضان، وفيها من الشرف والمجد والفضل، ومن البركات والفيوضات والتنزلات والرحمات – ما لا تدركه الإشارة ولا تلحقه العبارة، يقول العلامة محمد الطاهر بن عاشور: «فَبَرَكَةُ الليلة التي أنزل فيها القرآن بركة قدَّرها الله لها قبل نزول القرآن؛ ليكون القرآن بابتداء نزوله فيها مُلابِسًا لوقت مبارك؛ فيزداد بذلك فضلا وشرفا، وهذا من المناسبات الإلهية الدقيقة التي أنبأنا الله ببعضها» .

أما في سورة القدر فيأخذ بأيدينا صاحبُ الظلال في حديث شفاف منير يجعل النفس تسجد من عظمة القرآن، والقلب يخضع لسلطان كلام الله تعالى فيتحدث عن دلالات الليلة المشهودة الموعودة؛ ليلة القدر، قائلا: «الحديث في هذه السورة– يعني سورة القدر- عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال.. ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى.. ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد “صلى الله عليه وسلم”  ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعا.. العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟}}}لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}.. والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير، بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود؛ نور اللّه المشرق في قرآنه: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}.. ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة، وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود: {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}».

ويشير العلامة ابن عاشور إلى معنى طريف حينما يطابق بين شرف الزمان المنزول فيه، وهو شهر رمضان وليلة القدر تحديدًا، مع شرف النازل فيه، وهو القرآن الكريم؛ فيقول: «والمقصود من تشريف الليلة التي كان ابتداء إنزال القرآن فيها تشريف آخر للقرآن بتشريف زمان ظهوره، تنبيها على أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتا شريفا مباركا؛ لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يختار لإيقاعه أفضل الأوقات والأمكنة، فاختيار أفضل الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علو قدره عند الله تعالى… وأعيد اسم{لَيْلَةُ الْقَدْرِ}الذي سبق قريبا في قوله: {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} (القدر:1) على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن مقتضى الظاهر الإضمار، فقصد الاهتمام بتعيينها، فحصل تعظيم ليلة القدر صريحا، وحصلت كتابة عن تعظيم ما أنزل فيها، وأن الله اختار إنزاله فيها ليتطابق الشرفان» .

وليس معنى إنزال القرآن في ليلة القدر أنه نزل على المسلمين في ليلة واحدة كما هو معلوم، وإنما نزوله إلى بيت العزة من اللوح المحفوظ، ثم نزل بعد ذلك منجما مفرقًا على رسول الله “صلى الله عليه وسلم” ؛ ليربي الأمة ويعلمها بحسب الوقائع في زمن امتد لثلاث وعشرين سنة.

واجبات هذا التشريف ومقتضياته

مادام نزول القرآن الكريم– أو بداية نزوله- كان حدثًا فاصلا في حياة البشرية، عاد عليها بالنور والعلم والهداية، وإنشاء الإنسان خلقًا آخر، وإيصال الأمة المسلمة لمنزلة الشهادة على العالمين، وغير ذلك من فضل وتشريف… ومادام هذا التشريف وذاك الفضل نزل في شهر رمضان؛ فإن لذلك واجبات ومقتضيات؛ لأنه ليس هناك تشريف دون تكليف، وليس هناك واجبات دون مقتضيات.

وأول واجب علينا نحو هذا الفضل الغامر أن نعظم أيام الله تعالى، يقول العلامة ابن عاشور: «هذا تعليم للمسلمين أن يعظموا أيام فضلهم الديني وأيام نعم الله عليهم، وهو مماثل لما شرع الله لموسى من تفضيل بعض أيام السنين التي توافق أياما حصلت فيها نعم عظمى من الله على موسى، قال تعالى{وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ} (ابراهيم: 5) فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن» . فالإمام ابن عاشور هنا يريدنا أن نعظم أيام الله بأن نجعل ليلة القدر عيدًا لنزول القرآن، وهذا متفق مع أصلِ شرع من قبلنا، وهو ما جاء في رسالة موسى عليه السلام.

ومن هذه الواجبات: إكمال العدة؛ لأن الله تعالى يسر لنا تشريع الصيام، وذلل لنا الإتيان به في كل حال؛ حال الصحة والمرض، وحال السفر والحضر{وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}.

ومن هذه الواجبات تكبير الله تعالى وحمده وشكره على هذه النعم وتلك المنن التي لا توجد لأمة من الأمم في كتاب من الكتب، ولا تشريع من التشريعات: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.

ومن هذه الواجبات عبادة الله تعالى، والدعاءُ هو جوهرها وروحها، بل هو هي؛ ولهذا جاءت آية الدعاء في آخر آيات الصيام: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، يقول العلامة عبدالرحمن السعدي في بيان معاني الدعاء والقرب، وأنواعهما: «والدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة. والقرب نوعان: قرب بعلمه من كل خلقه، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.. فمن دعا ربه بقلب حاضر، ودعاء مشروع، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء، كأكل الحرام ونحوه، فإن الله قد وعده بالإجابة، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية، والإيمان به، الموجب للاستجابة، فلهذا قال: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}أي: يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره، سبب لحصول العلم كما قال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا}».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى