مقالاتمقالات مختارة

التكفير والإلحاد والتراجع الأخلاقي.. مخاطر عُزلة الفقيه عن الواقع!

التكفير والإلحاد والتراجع الأخلاقي.. مخاطر عُزلة الفقيه عن الواقع!

بقلم أحمد التلاوي

ظهرت في الآونة الأخيرة -على منصَّات التواصل الاجتماعي، وفي بعض القنوات الفضائية- حالات جديدة من الجدل بشأن عددٍ من الفتاوى والآراء التي أطلقها بعض متصدِّري مشهد الفتوى والدعوة في الفضاء الافتراضي على خلفية بعض الأحداث والقضايا المطروحة.

وقد أبرزت هذه الحالات من ضمن ما أبرزته من دلالات وحقائق الدرك الأسفل الذي انزلقت إليه شرائح واسعة من الشباب، سواء فيما يتعلق بالنواحي الأخلاقية أو المفاهيمية، والتي تتجاوز مستوى الجهل العام بأبسط الأمور والبدهيات المطلوبة فيما يتعلق بالرأي المطلوب إزاء هذه الواقعة أو تلك، أو بكيفية التعبير عنه بشكل يتجاوز منطق الانحراف المعياري الذي يعني أنْ يرتكب الإنسان الخطأ، وهو لا يدرك في الأصل أنه خطأ، بل ويتصوَّر حماسةً أنه يخدم رسالته بذلك!

ولكن، ولئن كانت هذه الأمور كبيرة وخطيرة، إلا أنها كلها أعراض وليست أمراضاً في حد ذاتها، أعراض لمرضٍ أو آفة أكبر، وهي انفصال الفقيه والداعية عن الواقع.

وهذا الأمر ليس معنيًّا به فقيهٌ أو داعيةٌ بعينه، وإنما مناقشة لظاهرة حقيقية، ولا يمثل ذلك افتئاتًا على الحالة الدعوية والساحة الإفتائية، على اعترافنا أن هناك الكثير من الخطوات التي قطعها بعض المفكرين والدعاة والمفتين في طريق الامتزاج مع قضايا الواقع، وإنما بكل تأكيد هناك خللٌ حاصل ينبغي الالتفات إليه.

وأبرز دليل على ذلك، وهو ما نفتئُ نذكره في كل موضع، هو ما أثبته استطلاع الباروميتر العربي الذي أُعلنت نتائجه قبل عامٍ ونصف، وجرى على مدار أكثر من أربعة أعوام في عدد لا بأس به من المجتمعات العربية، منها مصر وتونس واليمن والمغرب، بشأن موقف الشباب من فكرة التديُّن.

فقد ذَكَر أنَّ نسبة مُعتَبرة من الشباب المُتديِّن، وصلت إلى خمسين بالمائة في بعض المجتمعات المذكورة، قد تفلُّتْ مِن فكرة التَّديُّن لأسباب تتمحور حول عدم وجود حلول لمشكلاتهم في الخطاب الديني، وسيطرة الخطاب المُتَشدِّد .

وهذه القضية لا يُلامون هم عليها بقدر ما يُلام الدعاة وأصحاب الفتوى، الذي أهملوا فقه الواقع، ووقفوا عند عتبات الحديث عن الأحكام الشرعية فحسب، من دون فقه التطبيق وكيفية تكييف الواقع والتعامل معه.

ونقف هنا عند كلمة أو عبارة “الخطاب المُتَشدِّد” هذه؛ فليس المقصود بها خطاب التَّشدُّد في الصورة الذهنية الشائعة عنه، والذي يربط بينه وبين جماعات السلفية أو التنظيمات الجهادية المسلحة أو ما شابه، وإنما هو أمرٌ أوسع من ذلك، ويتعلَّق في الأساس بعرض الحكم الشرعي في مسألة ما، والتأكيد على وجوبه في حالة مَن يسأل، بينما ابتعد الفقيه عن أهم نقطة، وهي دراسة الحالة المعروضة عليه، وهل يصح تطبيق الحكم الشرعي عليها أم لا.

وهذه قاعدة معروفة في القضاء والقضاء الوضعي منه، فلا خلاف على البند القانوني، ولكن التكييف القانوني للحالة أمرٌ مختلف تمامًا، لذلك هناك جرائم قتل يُحكم فيها ببراءة الجاني ولو كان قد ارتكبها فعلاً، لسبب أو لآخر، مثل أن يكون مجنونًا أو في حالة تلبُّس الزوجة بجريمة الزنا.

وهذا سبقت فيه الشريعة الإسلامية، فالرسول الكريم – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم – قال: “رُفِع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظَ وعن الصبي حتى يحتلم وعن المجنونِ حتى يعقِل” (أخرجه أحمد في المسنَد) وأنَّ هناك مناطَيْن للتكليف، العقل والبلوغ. فالقاتل يُقتَل، هذا حكمٌ شرعي، ولكن لو كان القاتل مجنونًا، فلا يُحاسَب.

إذًا، عمل الفقيه لا يقتصر على ترديد الأحكام الشرعية، وإنما عليه كذلك مراعاة السياق الاجتماعي بالمعنى الشامل الذي يتضمن العادات والتقاليد، والمُكوِّن الفكري والمجتمعي، وحتى السياسي الذي يتحرَّك فيه.

عمل الفقيه لا يقتصر على ترديد الأحكام الشرعية، وإنما عليه كذلك مراعاة السياق الاجتماعي بالمعنى الشامل الذي يتضمن العادات والتقاليد، والمُكوِّن الفكري والمجتمعي، وحتى السياسي الذي يتحرَّك فيه

وهذا الكلام، ليس بِدعًا من تاريخ الفقه الإسلامي ومدارسه المختلفة، بدءًا من حُكمَي عبد اللهِ بن عباس عن توبة قاتل المؤمن، وحتى ما جاء به الإمام الشافعي والإمام الشاطبي، وغيرهم من المدارس التي بنت على أساس ذلك فقه الموازنات والمصالح المرسلة، استنادًا إلى القواعد الفقهية الكُلِّيَّة تقول، ومنها أنَّه “لا ضرر ولا ضرار”، وأنَّ “دَفْع الضرر مقدَّم على جلب المنفعة”، و “الأخْذ بأهوَن الضرَرْين”، وغير ذلك.

بل أجرؤ على القول: إنَّه من غير الجائز خروج أحدهم علينا بترديد الأحكام الشرعية مِن دون التوضيح الشامل والكامل للموقف أو المسألة الفقهية التي يتناولها على أرض الواقع؛ لأن ذلك يقود في كثير من الأحيان إلى الكفر أو الإلحاد والعياذ بالله.

فعندما تخرج على الناس، وتقول إن عمل المرأة حرام، وأن مكان المرأة هو بيتها، فكيف تتوقَّع أن تكون ردود فعل ملايين السيدات الفقيرات المُعيلات، ممَّن اضطرِرْن للبحث عن عمل شريف لأجل قوت اليوم، ولأجل تربية الأبناء تربية صحيحة ولو بالكَفاف، لظروف الترمُّل أو الطلاق، أو عجز الزوج أو استهتاره!

إن القول بذلك من دون النظر إلى هكذا أوضاع، أمر يخالف القواعد السليمة للحديث في المجال الديني، فعلى أبسط تقدير: أين المجتمع المسلم الذي يكفيهنَّ ذلك؟ أين بيت مال المسلمين؟ أين الحاكم المسلم الصالح الذي يكون هو وليُّ الأمر في هذه الحالات؟ هل نحن في مجتمعات يحكمها الإسلام رسميًّا وفعليًّا؟ ولو كان كذلك، هل تتوافر كل هذه الاشتراطات لكي نقول للمرأة العاملة: فلتقبعي في بيتك!

ثم من أين هذه الأحكام، بينما في عصر عمر بن الخطَّاب -رَضِيَ اللهُ عنه- وآخرين من حُكَّام دولة الإسلام، نرى تولية المرأة على القضاء والأسواق؟

وهنا يكمُن أكثر من وجهٍ لخطورة إصدار الحكم الشرعي على إطلاقه، ومن بين ذلك، ويتصل بهذا الذي ذكرناه، قضية التضييق على الناس في معايشهم، والتَّشديد في غير موضعه، فلذلك أثرٌ سلبي في تنفير الكثيرين من فكرة التديُّن أصلاً كما أثبتت استطلاعات الرأي مثل الباروميتر العربي كما تقدَّم.

قضية التضييق على الناس في معايشهم، والتَّشديد في غير موضعه، لهما أثرٌ سلبي في تنفير الكثيرين من فكرة التديُّن أصلاً

كما أنَّه يُخالِف مراد اللهِ تعالى من إنزال الشريعة، فقد قال النبي – صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: “إنَّ اللهَ لم يبْعَثَني مُعنِتًا ولا مُتَعَنِّتًا ولكن بعثني مُعَلِّمًا ومُيَسِّرًا” (أخرجه مسلم في الصحيح).

وخطورة ذلك أيضًا، أنَّ لجوء البعض لترديد الحكم الشرعي على إطلاقه، من دون مراعاة الظرفية، أو اعتبارات المصالح المرسلة مقابل المضار، والأمور المتعلقة بفقه الموازنات الذي هو واحد من أهم أسباب ظهور الأفكار التكفيرية التي طالت المجتمعات المسلمة بشعوبها وحُكَّامها، مثلما حصل في أحكام الولاء والبراء.

فهؤلاء يكفِّرون الجميع وفق أحكام موالاة الكافرين، من دون النظر إلى سياقات العلاقات الدولية، وما تفرضه، ولا اعتبارات مدى قوة أو ضعف الدولة وهل لديها إمكانية الاستقلالية أم لا.

وفي ذلك أيضاً تجدهم يبررون لحكومات بعينها ما يعيبونه على أخرى، وفي الأصل، هو فهمٌ خاطئ ومجتزأ لمفاهيم الولاء والبراء في القرآن الكريم، فهم يقفون على آياتٍ وسياقات من دون آياتٍ وسياقاتٍ أخرى توازن العلاقات بين المسلمين، فرادى ومجتمعات ودول، وبين الآخر غير المسلم، فرادى ومجتمعات ودول أيضًا، سلمًا أو حربًا، وأمور شديدة التنوُّع والتعقيد، بحيث من الخطأ أصلاً القول بأنَّ هناك حكمًا شرعيًّا واحدًا للعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين في أي مستوىً من المستويات.

ومن الثابت شرعًا وعقلاً أن الله تعالى لم يفرض حكمًا شرعيًّا واحدًا – ولو في العبادات – من دون سببٍ ومن دون ظرفية، وانتفاء السبب وتبدُّل الظرف، يُبطِلُ تطبيق الحكم الشرعي، ولا يُبطِل الحكم ذاته .

ونجد هنا أن الفهم الخاطئ للجملة الأخيرة، وضع كثيرًا من فقهاء المسلمين عبر التاريخ، وفي زمننا المعاصِر، في مرمى التكفيريين، برغم بداهة الفكرة، فقد اتهموا الفقيه الذي يقول بذلك بأنه يُبطِل الحكم الشرعي نفسه، بينما هذا غير صحيح، لأنَّ المقصود هو القول بأنَّ هذه الحالة أو تلك لا تنطبق عليها الاشتراطات المطلوبة لكي تدخل ضمن هذا الحكم أو ذلك.

فالزواج حلال، لكنه حرام في بعض المواضع، حتى بين مَن تحلُّ لك من غير المحارم، مثل التحليل المقصود، بعد الطلاق ثلاثة، والعلاقات الزوجية حرام وقت الدورة الشهرية للزوجة، وكذلك الصلاة بخلاف الصلاة المفروضة، حرام في الأوقات الخمسة التي نهى عنها الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- والصوم حرام في أيام العيد، وفي مواضع أخرى.

بالمثل، السارق تُقطع يده. لكن في أية ظروف؟ لو أنَّ القاتل جائع وتقطَّعتْ به سُبُل العمل، فقد وَجَب عليك أنْ تعينه على الاكتفاء الحلال، لا أنْ تقطع يده، وخصوصًا وأننا ولو كُنَّا نعيش في مجتمعات مسلمة، فإنَّ مؤسسات وآليات الاكتفاء وتوفير الظروف الضرورية لإنفاذ الحدود الشرعية، غير متوافرة، فلا بيت مالٍ للمسلمين، ولا حد الكفاف قائم، بل إن غالبية المسلمين يعيشون ظروف عام الرمادة، بل أعوام الرمادة لا عامًا واحدًا!

في نموذج آخر. القرآن الكريم اشترط العقل وحماية للقَصَاص، من دون ذلك، لا قَصَاص، أي أنَّه لو أنَّ القَصَاص ترتَّب عليه المزيد من القتل والدماء، فلا قَصَاص، ولكن هذا لا يعني نفي حُكمَ القَصَاص في حدِّ ذاته كما قلنا.

يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179].

فعبارة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} هذه، معناها أنَّ القَصَاص مقصود به الردع والزجر عن ارتكاب جريمة الأذى البدني، من مستوى الجروح والعاهة المستديمة، وقتل النفس التي حرَّم اللهُ، ولكن لو لم يحدِث القَصَاص هذا الأثر، أو تسبَّب في ثارات وآثارٍ عكسية، فلا قَصَاص، ويحدد ذلك “أُولِيْ الأَلْبَابِ” كما قالت الآية.

والحديث الشريف الصحيح الذي ذكرناه، “إنَّ اللهَ لم يبْعَثَني مُعنِتًا ولا مُتَعَنِّتًا ولكن بعثني مُعَلِّمًا ومُيَسِّرًا”، يدحض تمامًا بعض مزاعم المتشدِّدين مِن أنَّه “لا يُوجد ما يسمَّى بالإسلام المتشدد، وإنَّما البعض يريده إسلامًا “عصريًّا” مُتفلِّتًا على هواهم”. مطلقًا. هذا ما يزعمونه هم، حقَّا لا يُوجَد ما يُسَمَّى بالإسلام المتشدد، وإنَّما الحديث واضح مِن أنَّ هناك تعنُّت في تطبيق للدين وأحكامه مِن جانب البعض.

إن هذا الغثَّ الذي نراه، أدَّى أيضاً إلى سلوك عقيم مقيت من جانب البعض، فنراهم دفاعًا عن “شيخهم” لمجرد أنه يخوض في نظرهم معركة حياة أو موت لحماية الأحكام الشرعية من الدَّخن الذي يريد البعض إدخاله فيها –بزعمهم– يشتمون بأقذع الألفاظ، خصومهم ومنتقدي هذا الشيخ أو ذاك، من دون النظر في قضية كيف يتفق حماسك لدينك مع بذاءة لسانك، بينما هذا الفقيه، لا يكلِّف نفسه عناء توجيه “مريديه” هؤلاء، وتذكيرهم ببديهية دينية غابت عنهم جميعًا، وهي أن الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما بعِثَ ليتمِّم مكارم الأخلاق!

في الأخير، فإنَّ التطبيق وإنزال الحكم الشرعي على الواقع، أمرٌ مختلف تمامًا عن قضية معرفة الحكم الشرعي ، وله أصول وقواعد عميقة، وليس بالسذاجة والسطحية التي يقف بها البعض أمام الحكم الشرعي بها الآن، ولا يفهمون أن هذا الدين شديد فيجب أن نوغِل فيه برفق، كما قال صاحب البعثة نفسه، صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.

ولم تظهر هذه النوعية من الأفكار، سوى في الفترات الانحطاط التي مرَّت بها الدولة الإسلامية، والمجتمعات المسلمة عبر تاريخها ضمن سُنَن اللهِ تعالى في التتابع الحضاري.

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى