بقلم د. أكرم كساب
الحديث عن الأخلاق في الحرب هو حديث عن السياسية الشرعية، لأن الحرب بما تشمله من قتال وأسر وانتصار وهزيمة وسلم ومهادنة أمر يحتاج إلى أخلاق سواء ما كان منها متعلقا بالحرب أثناء نشوبها، أو ما كان سابقا للحرب أو متعلقا بها بعد انتهائها. والحق أن هذا الجانب الأخلاقي جانب تفردت به أمتنا إذ (حسن المعاملة في الحرب، ولين الجانب مع الأعداء، والرحمة بالنساء والأطفال والشيوخ، والتسامح مع المغلوبين، لا تستطيع كل أمة أن تفعله، ولا يستطيع كل قائد حربي أن يتصف به. إن رؤية الدم تثير الدم، والعداء يؤجج نيران الحقد والغضب، ونشوة النصر تسكر الفاتحين فتوقعهم في أبشع أنواع التشفي والانتقام، ذلك هو تاريخ الدول قديمها وحديثها) من روائع حضارتنا/ د: مصطفى السباعي. ولله در شوقي حين قال:
وَالأَرْضُ مَمْلُوءَةٌ جَوْرًا مُسَخَّرَةٌ لِكُلِّ طَاغِيَةٍ فِي الخَلْقِ مُحْتَكِمِ
مُسَيْطِرُ الفُرْسِ يَبْغِي فِي رَعِيَّتِهِ وَقَيْصَرُ الرُّومِ مِنْ كِبْرٍ أَصَمُّ عَمِي
يُعَذِّبَانِ عِبَادَ اللَّهِ فِي شُبَهٍ وَيَذْبَحَانِ كَمَا ضَحَّيْتَ بِالغَنَمِ
وَالخَلْقُ يَفْتِكُ أَقْوَاهُمْ بِأَضْعَفِهِمْ كَاللَّيْثِ بِالبَهْمِ أَوْ كَالحُوتِ بِالبَلَمِ
إن الجانب الأخلاقي في حروب المسلمين يظهر أول ما يظهر في تحديد الغاية من هذه الحرب؛ هل الحرب غاية وهدف، أم وسيلة وأسلوب، هل هي حالة أساسية، أم ظرف طارئ؟
إن الحرب في الإسلام ليست أساس العلاقة مع الناس بل هي حالة طارئة، يكره عليه المسلمون، وفي التنزيل:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}(البقرة: 216)، والقرآن اعتبر انتهاء الحرب نعمة يمن بها على المسلمين، قال تعالى بعد الخندق:{ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ}(الأحزاب: 25)، كما اعتبر القرآن صلح الحديبية الذي جنّب المسلمين والكفارا حربا ودماء اعتبره فتحا فقال:{ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا}(الفتح: 1)، كما جعل الاستجابة لجنوح العدو للسلم أمرا واجبا فقال: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(الأنفال: 61)، وأعطى المسلمين ثلث العام هدنة إجبارية فلا حرب فيها، قال تعالى:{ ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}(المائدة: 2) (فقه الجهاد/ د: يوسف القرضاوي).
إن حروبا كثيرة قامت لأجل جمع مال أو سلب خيرات بلاد، أما الحرب في الإسلام فإذا قامت فليست لهذا كله ولا لبعصه، لكنها ترد كيد المعتدين، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [البقرة:190]. وتنقذ المستضعفين، {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75]. وتأديب الناكثين، {الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال:56،57].
وما أروعه شوقي حين قال:
قالوا: غزوتَ، ورسل الله ما بُعثوا بقتل نفس ولا جاؤوا بسفـك دم
إفك وتضليل أحـلام وسفسطـة فتحتَ بالسيف بعـد الفتح بالقلم!
والشرُّ إن تلـقه بالخير ضقت بـه ذرعــا، وإن تلقه بالشرِّ ينحسمِ
وقد ظهرت الأخلاق جلية في عدم التجاوز في رد العدوان ولهذا قال تعالى:{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}(النحل: 126)، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضعفاء والصغار والشيوخ والرهبان، روى البخاري عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَخْبَرَهُ: أَنَّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. (متفقه عليه).
وقد روى مالك وصية الصديق رضي الله عنه لقواده، وهي وصية تكتب بماء الذهب، جاء فيها: عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ بَعَثَ جُيُوشًا إِلَى الشَّامِ. فَخَرَجَ يَمْشِي مَعَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ… ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ. فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَّسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ… وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا، إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ. وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ وَلَا تَجْبُنْ. (رواه مالك).
وأبو بكر رضي الله عنه إنما شرب هذا من معين النبوة، فقد روى مسلم عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ، أَوْ سَرِيَّةٍ، أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، ثُمَّ قَالَ: “اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا”رواه مسلم.
وفي صورة رائعة من صور الوفاء في الحرب روى لنا مسلم عن حُذَيْفَة بْن الْيَمَانِ، قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٌ، قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ، قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا، فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَلَا نُقَاتِلُ مَعَهُ، فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللهَ عَلَيْهِمْ»؟رواه مسلم.
ومنه ما جاء في الإحسان إلى الأسرى روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” فُكُّوا العَانِيَ، يَعْنِي: الأَسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ”متفق عليه، وعند الطبراني عَنْ أَبِي عَزِيزِ بْنِ عُمَيْرٍ، أَخِي مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَوْصُوا بِالْأَسَارَى خَيْرًا وَكُنْتُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَكَانُوا إِذَا قَدَّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ أَكَلُوا التَّمْرَ وَأَطْعَمُونِي الْخُبْزَ بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُمْ».
وهذا السمو الأخلاقي أقر به المنصفون من المستشرقين، فهذا (وليم موير) يقول عن معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لأعدائه: عامل حتى ألد أعدائه بكل كرم وسخاء حتى مع أهل مكة، وهم الذين ناصبوه العداء سنين طوالاً، وامتنعوا من الدخول في طاعته، كما ظهر حلمه وصفحه في حالتي الظفر والانتصار، وقد دانت لطاعته القبائل التي كانت من قبل أكثر مناجزة وعداء له. ويقول (واشنجتون إيرفنج): كانت تصرفات الرسول في مكة تدل على أنه نبي مرسل لا على أنه قائد مظفر. فقد أبدى رحمة وشفقة على مواطنيه برغم أنه أصبح في مركز قوي. ولكنه توّج نجاحه وانتصاره بالرحمة والعفو.
وهذا (إميل در منغم): فقد برهن محمد في انتصاره النهائي، على عظمة نفسية؛ قلَّ أن يوجد لها مثال في التاريخ؛ إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء والمسنين والأطفال والنساء، وحذرهم أن يهدموا البيوت، أو يسلبوا التجار، أو أن يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم ألا يجردوا السيوف إلا في حال الضرورة القاهرة، بل رأيناه يؤنب بعض قواده ويصلح أخطاءهم إصلاحاً مادياً ويقول لهم: إن نفساً واحدة خير من أكثر الفتوح ثراء !.