بقلم عبدالعزيز رجب
وُجدت المقاصد بوجود الإسلام وبعثة النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي منذ عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة والتابعين، حتى عصرنا هذا.
وهذا تلخيص لمراحل ونشأة وتطور المقاصد:
أولًا: في عصر النبي صلى الله عليه وسلم: المقاصد موجودة في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ففي القرآن الكريم: نستطيع أن نلاحظها من خلال تعليل الله عز وجل للأحكام وأسبابها، مثل: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾[الحج: 39]، ﴿ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ﴾ [الأحزاب: 37].
في الآية الأولى: علة الإذن بالقتال؛ لأنهم ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق، وفي الآية الثانية: علة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها بعد طلاقها من سيدنا زيد بن حارثة رضي الله عنه، تحريم النبي وعدم إحراج المؤمنين في ذلك.
وفي السنة النبوية المطهرة: نجد أيضًا كثيرًا من الأحكام المعللة، وربطت بين الأحكام الشرعية وغايتها الفعلية من ذلك:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أنه خطب امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))[1].
فالعلة من النظر هنا تحقيق مقاصد الزواج المتمثلة في الدوام والاستقرار.
وقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: ((لولا أن قومك حديثو عهد بشِرك، لبنيت الكعبة على قواعد إبراهيم))[2].
والعلة في عدم بناء الكعبة هنا هي: حفظ الدين الذي لا يستقيم مع إعادة بناء الكعبة.
ثانيًا: في عصر الصحابة رضي الله عنهم:
تمثلت مقاصد الشريعة في فهم الصحابة رضي الله عنهم لها في إيجاد التشريع المناسب لحل المشكلات الجديدة الطارئة، مثل:
1 – قتال أبي بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة وقوله: “والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول صلى الله عليه وسلم، لقاتلتهم على منعها”[3]، والمقصد من قول وفعل أبي بكر – رضي الله عنه – ذلك هو بناء على مقصد المحافظة على استقرار الدولة الإسلامية.
2 – جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه: بناء على مقصد حفظ الدين الإسلامي بحفظ مصدره.
3 – ميراث المطلقة في عهد عثمان رضي الله عنه: في امرأة عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه التي طلقها قبل موته: بناء على مقصد المحافظة على مقاصد الميراث التي يمكن أن يحتال المطلق لعدم وقوعها بفراره من توريث زوجته.
4 – تضمين الصناع: في عهد علي رضي الله عنه: بناءً على مقصد المحافظة على المال[4].
وهكذا نرى أن الصحابة رضي الله عنهم فهموا المقاصد واستعملوها في عصرهم، يقول ابن القيم: “وقد كانت الصحابة أفهم الأمة بمراد نبيه، وأتبع له، وإنما كانوا يدندنون حول معرفة مراده ومقصوده”[5].
ثالثًا: في عصر نشأة المذاهب الإسلامية:
النظر المقاصدي ظل مقومًا مهمًّا من مقومات الاجتهاد في الاستدلال، فكل من القياس والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، وغيرها من المصادر التشريعية التي تعود إلى أصل المصالح، وهي مجرد تخصيصات لأجل اعتبار المقاصد أو قواعد تفرعت بالشكل الذي اقتضته أصول كل مذهب[6].
رابعًا: بعد عصر نشأة المذاهب الإسلامية:
فهموا مقاصد الشريعة، ولكن لم يستخدموا مصطلح مقاصد الشريعة، ولكن كانوا يستخدمون مصطلحات مثل العلة، العلل، الحكمة، المصلحة، المعنى، المغزى، مراد الشارح، أسرار الشريعة، القياس، الاستصلاح، سد الذرائع.
- أول كتاب تكلم عن مقاصد الشريعة، هو كتاب أبي بكر القفال الكبير، المعروف بالشاشي، “محاسن الشريعة”، ثم كتاب مقاصد الصلاة للحكيم الترمذي، أول من ألف وشرح مقاصد الشريعة في كتب أصول الفقه هو إمام الحرمين الجويني في كتاب “البرهان في أصول الفقه”، ثم الإمام أبو حامد الغزالي، ذكر المقاصد في كتبه (المستصفى – شفاء الغليل – الكبائر)، ثم الإمام فخر الدين الرازي في كتابه “المحصول”، ثم جاء الإمام الآمدي في كتابه “الأحكام”، والعز بن عبدالسلام في كتابه: “قواعد الأحكام في مصالح الأنام”، وكتابه: “القواعد الصغرى”، أو “الفوائد في اختصار المقاصد”، والإمام القرافي في كتابه “الفروق”، والإمام الطوفي في كتابه: “التعيين في شرح الأربعين”، حتى جاء الإمام الشاطبي، وهو المؤسس والمنظر لها، والذي شهرها، وجعل لها كيانًا مستقلًّا، وعلمًا بارزًا، وكتابه: “الموافقات في أصول الشريعة” هو العمدة في مقاصد الشريعة.
ثم جاء الإمام الزركشي في كتابه: “البحر المحيط”، وشيخ الإسلام ابن تيمية: (اقتضاء الصراط المستقيم، الاستقامة، درء تعارض العقل والنقل).
خامسًا: مقاصد الشريعة في العصر الحديث:
- الإمام: الطاهر بن عاشور:
وهو رائد مقاصد الشريعة الإسلامية في العصر الحديث، وهو الذي ذاع وانتشر خبره وصيته، خاصة في كتابه: (مقاصد الشريعة الإسلامية)، ولا يذكر اسم المقاصد إلا وذكر معه ابن عاشور.
فقد افتتح الكلام في مسائل جديدة من مقاصد الشريعة الإسلامية، من هذه المسائل:
مقاصد المكلف في علاقتها بمقاصد الشارع – علاقة المقاصد بالاجتهاد ومدى توقفه عليها – طرق إثبات المقاصد – المقاصد في التشريعات.
- مقاصد الشريعة بعد ابن عاشور.
وبعد إبراز ابن عاشور للمقاصد: اهتم العلماء بالمقاصد، واتخذوا عدة مسارات:
المسار الأول: أعادوا النظر والبحث فيما كتبه العلماء السابقون في مجال المقاصد الشرعية، ومحاولة البحث والنظر بأسلوب علمي رصين ومنهجية علمية متأنية فيما كتبه هؤلاء العلماء، فظهرت بحوث ودراسات علمية وأكاديمية تتعلق بعلم المقاصد عند أمثال الشاطبي، العز بن عبدالسلام، القرافي، ابن تيمية، ابن عاشور.
المسار الثاني: إفراد علم المقاصد بمؤلفات خاصة تجمع بين الطابع الفطري التأهيلي، والعلمي التطبيقي، ومحاولة البحث والترتيب في صياغة مفردات هذا العلم وتقسيماته للاستفادة قدر الإمكان منه.
المسار الثالث: محاولة إبراز المقاصد في بعض العلوم الشرعية أو الأحكام الفرعية؛ كالمعاملات أو العبادات.
المسار الرابع: البحث والنظر فيما كتب حديثًا من المقاصد وتحليلها، ونقدها، بغية الوصول لأهم النتائج وتفعيلها[7].
- وأخيرًا:
أنشأ مركز الدراسات مقاصد الشريعة الإسلامية – تابع لمؤسسة الفرقان بلندن عام 2006 م – ضم نخبة من العلماء المهتمين بمقاصد الشريعة، على رأسهم: د/ يوسف القرضاوي، د/ محمد سليم العوا، الشيخ/ أحمد زكي يماني، د/ محمد وهبة الزحيلي، د/ أحمد يوسف سليمان، د/ عبدالله بن بيه، د/ سيف الدين عبدالفتاح، د/ أحمد الريسوني، د/ أحمد حسون، الشيخ/ فيصل مولوي، د/ عصام البشير، د/ محمد كمال الدين إمام، وافتتح كذلك أقسام خاصة بدراسة مقاصد الشريعة الإسلامية بقسم الدراسات العليا بالكليات الشرعية، خاصة في بلاد المغرب الغربي.
———————————————–
[1] أخرجه: الترمذي (3/ 397)، وقال: حديث حسن، والحاكم في المستدرك على الصحيحين، وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه.
[2] أخرجه: البخاري كتاب الحج، باب فضل مكة وبنيانها، (2/ 574)، ومسلم في: كتاب الحج: باب نقض الكعبة: (4/ 97).
[3] البخاري: كتاب الزكاة – باب أخذ العناق في الصدقة (2/ 529)، مسلم – الإيمان “الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله”، (1/ 38).
[4] المدخل إلى مقاصد الشريعة بتصرف (27، 28).
[5] إعلام الموقعين – ابن القيم (1/ 300).
[6] المصدر السابق: (29، 30).
[7] نظرية المقاصد عند إمام الحرمين الجويني: خالد عبدالكريم الأصقة – رسالة ماجستير – كلية دار العلوم (1429 هـ – 2008 م).
المصدر: شبكة الألوكة.