مقالات

جلال الرسول ومقاصد الرسالة

بقلم الشيخ ونيس المبروك

لقد طغت الأساليب والنماذج المادية على ثمرات التربية والتعليم في العالم اليوم ؛ حتى استولت مناهجها على العقول والنفوس ، وأثرت في طرائق تفكير الناس، ومقاييسهم للنجاح والفشل ، والقوة الضعف ، والجمال والقبح ، …. فارتهنت مقاييسهم – بعد طول مران – لزوايا قاصرة من النظر ، وتكونت لديهم عدسات خاصة يرون بها الأشياء من حولهم .!

بعض المسلمين انتقلت إليهم تلك العدوى فهم لا يتصورون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من تلك الزاويا ، ولا يكتشفون عظمته إلا من تلكم العدسات ، بل تأثر بذلك حتى بعض الدعاة المعاصرين…!

فهم يفسرون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالمناهج السائدة اليوم ، ويصرون على توصيف سيرته ومسيرته – صلى الله عليه وسلم – بمصطلحات هذه العلوم “المترجمة”.

ولهذا المسلك جناية على الحقيقة ؛فهو يحول بين المسلم وبين “فقه مقاصد ” الرسالة وطبيعة الرسول ، كما أنه يصنع حاجزاً دون الاقتداء به، والاقتباس من نوره ،والاستمداد من روحه ، …

نحن لا ننكر دور مواكب العلماء والمصلحين والمخترعين والأبطال ، في حركة التاريخ ونهضة الأمم ،… فكيف لنا أن ننكر ريشة الفنان ، وعقل الفيلسوف ، وقريحة الشاعر ، ويد الصانع ، وتأملات المؤرخ ،وشجاعة الفارس ، وتدبير السياسي ، ….لكل منهم آثاره على الدنيا ، وأثره في الناس ،… لاينقص من قدرهم شيئا .

لكن هؤلاء وغيرهم ؛ حيارى على خطر ، ماداموا يجهلون ، قوانين هذا الكون؛ الذي اكتفوا بشِعْب صغير من شعابه ،وانحسروا في زاوية ضيقة من زواياه ، .. فعلموا شيئاً وغابت عنهم أشياء.

يعلمون غيضاً مما تراكم لدى البشرية من علوم ،ومعارف ،وفنون عبر القرون ، “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”.

إن جلال النبوة وروعتها ، في تلك ” الروح ” وذلك الوحي الذي ينزل من السماء ،…

إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ،رجل لطيف الحس ، كامل المواهب ، قوي العاطفة ، ….. ولكنه لا ينشر علماً ، ينبع من فيض ذكائه ، ولا يدعو لفضيلة من وحي غيرته ، ولا يقاوم ظلماً بدافع ألمه وفيض حنانه ، ولا يسكب دمعاً من رقة ضميره ، أو يكسب حرباً لعمق تدبيره ، …إن أكبر جناية على النبوة أن تظنوا ذلك ، أو تعتقدوه ،.. فمصدر كل خير وفضيلة أتانا الحبيب بها ، هي تلك ” الروح ” التي سرت في جثة الجاهلية الهامدة آنذاك .

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

فالنبوة – كما قال الإمام الغزالي – هبة لا كسب ، وفضل يتنزل من الله ، لا شأو يسعى إليه البشر .

النبي – صلى الله عليه وسلم – ليس مفكراً عبقرياً ، أو فقيها ألمعياً ، يستجيب لضغط الواقع ، وتجددات الحياة من حوله، … وهو لا ينسخ حكماً ، أو يُحدث تبديلاً في تعاليم رسالته ، من تلقاء نفسه ، بل هو مأمور أن يبلغ وحي السماء مفصلاً ومجملاً على حد سواء ….( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ )

نعم ؛ لقد كان الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم يراعي التدرج والتيسير على المكلف ، ويأخذ بالحكمة ، ويغلب المصلحة ، ويتفقد استعداد النفوس لكل ذلك ، … ولكن لم يكن ذلك في الثوابت والعقائد والمباديء والقيم كما يفعل بعض الناس في عالمنا اليوم .

ومما غاب عن وعي الناس اليوم ، سمة عظيمة من أعظم سمات بعثته صلى الله عليه وسلم ،؛ وهي التذكير بالآخرة ، والتنويه بشأنها ، واللهج بذكرها ، والاستعداد لها ، …

لقد كانت الدار الآخرة محور حياته ، وغاية سعيه ، فكل من قرأ القرآن واستعرض سيرته – صلى الله عليه وسلم – وتذوق كلامه ، واستشعر دقة بيانه، سيرى أن ” الآخرة ” ماثلة أمامه ، ونصب عينيه ،… ملكت عليه مشاعره وقلبه ، واستولت على فكره وعقله ،…. تجيش نفسه حين يشتاقها ، وتفيض عيونه حين يذكرها ، ويستبد به الحب والشوق طلباً للرفيق الأعلى ! .

لقد أطار الشوقُ النوم من جفونه ، فجافى جنبُه الفراشَ ، وكدر صفوَ عيشِه ما أعد الله تعالى للعصاة فيها ، فلم يهدأ له بال ، أو يقر له قرار ، فوصل بجهاده الليل بالنهار ، .. قام فأنذر ، والرجز هجر ، وعالج الليل إلا قليلا ، … وبالغ في النصح لأهله ، والإشفاق عليهم ، حتى كاد أن يهلك من الأسف ، فواساه ربه تبارك وتعالى قائلا ” فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ”

لم يكن في ذلك طامعاً في مجد أو سيادة ، ولم يتطلع لشهرة أو ريادة ، بل كان ينكر ذلك على أتباعه ، ويحذرهم من التعالي على الخلق ، ، ويعلمهم أن (تِلْكَ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَٱلْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )

لم يفعل مثل ما يفعل كثير من الأحبار والرهبان ، يذمّون الدنيا ، ويدعون الزهد فيها ، وهم يرضعونها صباح مساء ، فورث نهجهم بعض ضعاف النفوس من أمتنا اليوم ، من الذين عناهم عبد الله السلولي بقوله :

واذا نصبوا للقول قالوا فاحسنوا *** ولكن حسن القول خالفه الفعل

ذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها *** افاويق حتى ما يدر لها ثعل

لم تكن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للزهد ، كلمة على اللسان ، أو دعوى تفتقر لبرهان ، بل كان الزهد منهاجاً يسير عليه في حياته العامة والخاصة ، فقد كانت معيشته في بيته مدعاة للعجب ، تسحر النفوس ، وتملؤها روعة ومهابة ،…. وعندما خيّر القرآنُ أزواجَه -رضي الله عنهن- بين الدنيا ،وصحبة الزوج الزاهد ، اخترنه دون تردد ، وآثرنه على الدنيا وزينتها ؛” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا . وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ”

كم نحن في حاجة اليوم، لإزاحة حجب الغفلة ، ومجافاة اللهو والعبث، ونوم العقول ، … حتى ندرك حقائق الرسالة ، وحقيقة الرسول ، وقديماً قال البوصيري رحمه الله :

كيف يدرك في الدنيا حقيقته *** قوم نيام ، تسلوا عنه بالحلم

نعم أن محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإحياء ذكرى مولده ، لا تكون بضرب الطبول ، وفرش الموائد !

هذا أمر تنساق إليه النفس ، ويعين عليه داعي الهوى ، ولكن الحب كل الحب في الانقياد له ، واتباعه ، والتمسك بسنته ، والاصطفاف تحت لوائه ، والتخلق بأخلاقه ، والتفاني في نشر دعوته ، …يقول الإمام أبو الحسن الندوي – رحمه الله – ما معناه :

”لم تكن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، بعثة رجل لقومه ، أو رسالة تنتهي بموت الرسول ، بل كانت بعثة \” أمة \” أخرجت للناس ، تكافح ، وتنشر الخير ، وتتحدى الباطل ، وتداوي جذور الشر أو تقلعه ، وتخرج الناس من عبادة العباد لعبادة رب العباد ، ومن جور الدنيا لسعة الدنيا والآخرة ،.”.أ.هـ

لقد تسربت أنوار النبوة إلى كل مسلم ، وتدفقت كنوز الحكمة فسالت أودية بقدرها ، وخضع لها المسلمون دهراً طويلاً ، وانصبغ معاشهم، واجتماعهم ، وعلومهم ، ومدنيتهم بتلك الأنوار ، وأنبتت من تلك الأودية الكلأ ، فانتفعت الأمة ونفعت الناس .

لكن العالم اليوم استطاع – كما قال أحد الفلاسفة – أن يحلق في السماء كالطير ، ويغوص في البحار كالحيتان ، ولكنه لم يستطع أن يمشي على الأرض كإنسان !

إن رزية البشرية اليوم هي فقد ذلك الإنسان الذي صنعته يد النبوة ، فليس شقاء البشرية اليوم بسبب قلة المناهج والمكتبات ، أو المدائن والآلات ، أو الوسائل والجامعات ،…. إنما الشقاء كل الشقاء ؛ في ضلال الإنسان ، وانطماس بصيرته ، وانتكاس فطرته ، .. حتى انقلبت تلك الوسائل والمخترعات ، إلى آلة شيطانية عمياء ، أضرت بكل البشر ، وأشعلت بينهم الحروب ، فاكتوى بنارها الغالب والمغلوب

وسأختم مقالتي هذه بشهادتين ،.

الشهادة الأولى هي للمؤرخ الأمريكي مايكل هارت في كتابه ” أعظم مائة رجل في التاريخ” بعد وضعه للنبي صلى الله عليه وسلم في أول القائمة من كتابه . يقول : ” لقد اخترت محمداً ليكون أول القائمة ، ولابد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار ، ومعهم حق في ذلك ، لكن محمداً هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحاً على المستوى الديني والدنيوي ، هو قائد ؛دعا إلى الإسلام، ونشره كواحد من أعظم الديانات ، وأصبح قائداً سياسياً وعسكرياً ودينياً ، ورغم مرور ثلاثة عشر قرنا من وفاته فإن أثر محمد صلى الله عليه وسلم مايزال قوياً متجدداً ” !!

أما الشهادة الثانية ، فهي لفقيه الأدباء وأديب الفقهاء الشيخ علي الطنطاوي- رحمه الله – حيث يقول : من المعروف المشاهد أن الألفة تذهب العجب ، ونحن لا نعجب لطيران بيت ضخم من الحديد والفولاذ ( يقصد الطائرة ) ، ولا لنطق صندوق صغير من المعادن والأسلاك ( يقصد التلفزيون أو الرائي كما يحب أن يسميه ) ، لأننا ألفناه وعرفناه ، مع أن ذلك عجيب في ذاته ، وفوق العجيب .

وكذلك نحن حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نمر بخبر الحادث المدهش فلا نكاد ، من ألفتنا إياه و تكرار سماعه ، نفكر فيه ، أو ندهش منه ، ولو سمعنا الآن أن رجلاً أمياً ، لم يدخل مدرسة ، ولم يحضر حلقة علم ، ولم يتعلم القراءة ولا الكتابة ، وقام ( على ذلك كله ) في قرية معتزلة في صحراء منقطعة ، ليصلح وحده الدنيا كلها ، ويمنع الحروب منها ، وينزع سلاح الدول القوية العاتية ، ويكلفها بأن تترك دنياها وعتوها ، وأن تتبعه … لبلغت بنا الدهشة أبعد الغايات ! فكيف إن سمعنا بعد ُ، بأن هذا الرجل تبعه نفر قليل من الضعفاء والمساكين ، وأنه حمل هو وهؤلاء النفر ، أشد أنواع الأذى الجسمي والنفسي ، فثبت وثبتوا على ذلك كله ثباتاً ليس له نظير في تاريخ البشر .

وكيف لو سمعنا بأن هذا الرجل قد نجح ، وأنه لم تمض علي دعوته ثلاثون سنة ، حتى خضت لها أكبر دولتين في الدنيا اليوم : روسيا وأمريكا مثلا ، واتبعتا ما جاء به ، وقبل به ، وتحمس له شعباهما ، حتى سبقا في ذلك اتباعه الأولين ….

وأن هذه الدعوة لم يكن نجاحها ، فورة سريعة ، ولا كانت وثبة كنار القش ، تشب في لحظة ، وتخمد في لحة ، بل كانت شيئاً أخلد من الخلود ، وأبقى من الدهر، وأنها، بعد أن مر عليها أربعة عشر قرناً من الزمان ، وبعدما بلغت آفاق الدنيا ، لا تزال في نفوس أتباعها على القوة التي كانت عليها في ابتدائها ، ولا تزال على صفائها وطهرها ، كلما علقت بها أوضار الزمان ، انتفضت انتفاضة ، فعادت كما كانت .، كم يكون عجبكم من هذا الرجل ، لو ظهر من جديد ؟؟

هذا الذي صنعه محمد صلى الله عليه وسلم .

المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى