بقلم د. محمد عمارة.
قبل أن يتخرج سيد قطب (1324- 1386هـ، 1906- 1966م) من دار العلوم عام 1933م، ألقى عددا من المحاضرات الأدبية – بالكلية – كشفت عن عبقرية في النقد الأدبي تجعله واحداً من أساطين هذا الفن الذين اشتهروا في تراث العربية الأدبي والبلاغي.
ولقد نشرت إحدى هذه المحاضرات عن “مهمة الشاعر في الحياة وشعر الجيل الحاضر” عام 1932م، وقدم لها أستاذه العلامة مهدي علام (1318- 1413هـ، 1900- 1992م) بمقدمة مؤرخة في 28 فبراير 1932م، قال فيها: “.. ولئن كنت قد قدمت المحاضر سيد قطب بأنه طالب، يسرني أن يكون أحد تلاميذي، فإني أقول اليوم – وقد سمعت محاضرته – إنه لو لم يكن لي تلميذ سواه لكفاني ذلك سرورا، وقناعة واطمئنانا إلى أنني سأحمّل أمانة العلم والأدب إلى من لا أشك في حسن قيامه عليها”.
وأشار مهدي علام وأشاد “بالجرأة الرشيدة التي دعت سيد قطب إلى الاستقلال بالرأي في بحثه حتى ولو خالفنا في بعض ما نعتقده من الآراء الأدبية، وهي جرأة ستجعله أحب إلى قلوبنا، إن سيد قطب باحث ناشئ تعجبني عصبيته البصيرة، وإشادته بذكر الشعراء الناشئين من أمثاله، وهو جد موفق في اختياره لهم، وليس أقل توفيقا في اختياره من شعر نفسه، وإن ستره تواضعه وراء ستار: لـ”شاعر ناشئ”، إنني أعد سيد قطب مفخرة من مفاخر “دار العلوم” وإذا قلت “دار العلوم” فقد عنيت دار الحكمة والأدب”.
وفي هذه المحاضرة سلط سيد قطب الأضواء على جيل الشعراء الشباب، الذين يتجاهلهم الكبار، ووجه النقد للدكتور طه حسين، الذي يتجاهل الأدباء الشباب، والذي يقول: “إنك لتبحث عن الشاعر الشاب الذي نشأ في هذه الأعوام فصرف جماعة من الشباب عن شوقي وحافظ ومطران فلا تجده، وعن الكاتب الشاب الذي ظهر فاستحدث مذهبا في النثر صرف بعض الناس عن هيكل والمازني والعقاد فلا تظفر به”.
انتقد سيد قطب قول طه حسين هذا، مرجعا تفرد هؤلاء الكبار بطول الزمن، “وعمل هؤلاء المشهورين على تشجيع بعضهم البعض، وعمل بعضهم على محاربة الناشئة” ثم تحدى عميد الأدب العربي فقال: إن هذا الشباب الناشئ لن يقنع بقسمته تلك، ولن يهن أمام العقبات وسيعمل لنفسه كما عملوا لأنفسهم، ويخلص لمجهوده كما أخلصوا لمجهودهم من قبل، والمستقبل كفيل!!”.
كذلك عاب سيد قطب – في هذه المحاضرة – على الشعراء الذين يلهون ويفرحون ويمرحون ويطربون، متجاهلين معاناة الأمة وأنينها، وتساءل:
– انتصرنا في موقعة حربية على جيوش الأعداء فيغني الجيش والشعب أناشيد الظفر والسرور؟
– أفتحنا العالم فتحا جديدا؟ لا.
– بل أحصلنا على استقلالنا المغصوب؟
– أنتنفس بحرية في أي جو من الأجواء؟
– ألنا عظمة علمية تمتدح بمزاياها؟
– ودع ذلك كله، أفلنا سياسة تعليمية رشيدة، وهذا أبسط الشؤون؟! .
كل هذا في البلد جدير بالشكوى، وكل ما فيها بلذع بالألم، وإن التألم والشكاة لدليل على عدم الرضا، ولدليل السعي لتغيير الحال. وذلك عدتنا للمستقبل، وأملنا الوحيد للإصلاح المنشود.
ولو أن هذه الشكوى الدائبة صممت اليوم وانقلبت إلى لهو ومراح، لكان ذلك دليلا على الموت والاضمحلال، لأن الأمة التي لا تشكو من مثل هذه الحالة، أمة لا تحس، فهي أمة في طريقها إلى الفناء الرهيب، وإن الذين يهزلون اليوم أو يغنون ويمرحون، هم أحد فريقين، فريق أناني مجرم لا يعنى بهذه الأمة ولا يحفل بآلامها، لأنه في ظل نعمة ولا علاقة له بالآخرين، وفريق ميت الوجدان، ذليل الكرامة، لا تنبض به حياة إلا كالدواب والجراثيم”!.
هكذا تحدث سيد قطب عن الحياة الأدبية والفنية في ثلاثينيات القرن الماضي، ويا ترى لو كان حيا اليوم، ورأى حالنا في الثقافة والسياسة والآداب والفنون والعلم والتعليم، ماذا كان سيقول الشهيد صاحب “الظلال”؟!.