الإلحاد والملحدون في مصر (4): ما بعد الانقلاب
بقلم إسماعيل المصري
لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.
في 14 أغسطس عام 2013م صُدم المجتمع المصري عندما استيقظ على دوي الرصاص وشلال الدماء الذي جرى في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة، إذ قُتل يومئذٍ ما يفوق 1000 مواطن مصري بواسطة قوى الأمن فيما يعد أكبر مذبحة ترتكبها السلطة ضد المدنيين في تاريخ مصر الحديث بأسره، ولم يتوقف الأمر عند ذلك بل توالى بعد هذه الحادثة المفجعة سلسلة من الأحداث الدامية والقمع على كافة المستويات، أثرت هذه الأحداث الخطيرة في المشهد المحلي المصري سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ودينيًا، فلم تُستثن ظاهرة الإلحاد من جملة التحولات التي شهدها المجتمع المصري تبعًا لمستجدات هذه المرحلة.
المبحث الأول: الدوافع، والقابلية للإلحاد في المجتمع المصري
عقب مرحلة رابعة، تغيرت قواعد اللعبة، وتحول المشهد الاجتماعي للشباب في مصر تحولًا جذريًا –إلى الأسوأ- عما كان عليه المشهد قبل 2013م وحتى قبل 2011م، ووجد الشباب أنفسهم في سياق تاريخي اجتماعي جديد يتسم بعدة خصائص، منها:
- الغياب المطلق للمحاضن التربوية الإسلامية: حيث أغلقت المراكز الدينية ولوحق أصحاب الدور الإسلامية، ومنعت الدولة المشايخ من إلقاء الدروس أو التجمع بعوام المسلمين في المساجد وصارت المساجد لا تفتح إلا للصلوات الخمس فقط، في الوقت الذي تفتح الكنائس والأديرة أبوابها لمختلف الأنشطة والفاعليات الثقافية والاجتماعية والدينية. كما تم استبعاد كل من لا ينتمي لوزارة الأوقاف من إدارة المساجد وإرسال تهديدات إلى الأئمة الذين يرفضون الإذعان للدولة، وبات غالب أئمة الأوقاف بمثابة المخبرين والمرشدين في مساجد الدولة يبلغون قوات الأمن عمن له أدنى نشاط إسلامي خارج إطار وزارة الأوقاف والأزهر. وبسبب سيطرة العقلية العجوز والتبلد الذي أصاب المؤسسات الرسمية، تملل الشباب من خطب الجمعة وصارت عبئاً ثقيلًا عليهم وصارت الدروس الدينية بالنسبة لعموم الشباب أمرًا من الماضي. كل هذا أدى إلى غياب تام للمحاضن والمجتمعات الإسلامية الآمنة التي تزكي الأنفس وتهذبها وتعرّفها على خالقها سبحانه وتعالى. ثم زاد الأمر سوءاً عندما أغلقت الجوامع والمساجد بسبب أزمة كورونا ومر شهر رمضان ولم يكن ثمة مسجد واحد يقيم الصلاة مما تسبب في ضياع المتنفس السنوي الوحيد للمسلمين كي يراجعوا أنفسهم ويتشبثوا بالقيم والسلوكيات الدينية.
- الفقر الشديد في القدوات والرموز الدينية: فبسبب حالة القمع غير المسبوقة منذ 2013م فصاعدًا، لاحقت الدولة المصرية كل من لم يؤيد مسارها السياسي كائنًا من كان، ولم يتبق من المشايخ والعلماء المعروفين للعامة سوى من يناصر نظام السيسي مناصرة مطلقة غير مشروطة، مثل علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وأحد أشرس المشرعين لنظام السيسي وقمعه، والبابا تواضروس الثاني رأس الطائفة الأرثذوكسية وزعيمها الروحي الذي لا يترك مناسبة إلا ويعلن ولاءه الكامل للسيسي ونظامه، والحبيب علي الجفري أحد الرموز الصوفية التي تقدم ولاءً تامًا لنظام السيسي في مختلف المناسبات، وغير هؤلاء ممن ساهموا في تشويه صورة رجال الدين لدى الشباب[1]. كما عملت السلطة السياسية على إزاحة أي قدوة أو مثل أعلى ديني للشباب، وأصبح جل المؤثرين Influencers والرموز المجتمعية: قدوات شبابية غير مؤهلة لقيادة الشباب ولا يسعون في الغالب إلا وراء مصلحتهم الشخصية وزيادة عدد المتابعين ولا يمتون بصلة للصورة المفترض -شرعًا- تكوينها عن المشايخ وأهل العلم والدعاة إلى الله، وظهرت نوعية جديدة من وعاظ السوشيال ميديا ودعاة إسلام السوق والطبقة العليا وأصحاب خطاب “الموتيفشن الإسلامي” و “اللايف كوتشينج” والدعوة الممزوجة بالفحش اللفظي والتردي الأخلاقي.
- الانحلال الأخلاقي والتفسخ القيمي: تفكك النسيج الاجتماعي المصري عقب أحداث رابعة بشكل غير مسبوق، وفقد المجتمع بوصلته الأخلاقية تدريجيًا، وزادت حدة الاستقطاب بطريقة لا يمكن علاجها على المدى القصير، ونتيجة لانغلاق المجتمعات على أنفسها وعدم وجود مساحات متاحة للحركات المهتمة بالإصلاح الاجتماعي، تفككت القيم المحافظة للمجتمع المصري، وانتشرت الظواهر الشاذة مثل زنا المحارم والإلحاد والخيانات الزوجية والشذوذ الجنسي واغتصاب الأطفال. ويمكن القول بأنه لا صوت يعلو حاليًا فوق صوت التفاهة، واللامبالاة، والرفاهية، والاستغراق في المتعة والضحك والسخرية من كل شيء. وأعرض الشباب تمامًا عن أي مساحة تعيد تذكير المرء بالله وبواجباته الشرعية ومسؤولياته الأخلاقية أمام نفسه وأمام خالقه.
- الفردانية: مع انهيار سرديات التغيير الكبرى وتفكك التنظيمات الجماهيرية وضياع حلم يناير بالتغيير والنهضة، لم يتبق للشباب معنى للحياة سوى التمحور حول ذواتهم ومشاعرهم وأفكارهم الخاصة بعيدًا عن الانشغال بالأحداث الكبيرة أو بالقضايا المحلية أو الدولية، واختفت معاني النضال الجماعي لصالح النضال الفردي. عززت هذه الفردانية من قيمة الفرد وأعطت للشباب شعورًا بالتفوق والتحكم والاستغناء عن كل ما هو خارج الذات، سواء كان ذلك أسرة أو نظام اجتماعي أو سلطة سياسية أو دينية، مما ساهم في تعظيم الذات واختياراتها في مقابل تهميش الدين وتكليفاته.
- انتكاس الفطرة في المجتمع المصري: شهد المجتمع المصري منذ 2013م فصاعدًا حالة من التجريف الشامل للقيم الفطرية المركوزة في جبلة الإنسان، ونتيجة لضياع الفطرة انتشرت ظواهر مثيرة للاشمئزاز مثل التهليل للقتلة والفرح بسفك دماء المدنيين، والتندر حول مصطلح “ديوث” على وسائل التواصل الاجتماعي بسبب تحققه في كثير من الذكور الذين فقدوا نخوتهم ومروءتهم، والانتشار المخيف لزنا المحارم بشكل غير مسبوق، وادعاء بعض الأشخاص للألوهية على الإعلام الرسمي، وسب الأديان بشكل مستمر في شوارع مصر، وغيرها من الظواهر التي تناقض الفطرة نقضًا صريحًا.
- حالة التسطيح العامة لكل المسائل الثقافية والفكرية: مع تكميم أفواه المثققين والمفكرين الإسلاميين وسيطرة الدولة على المشهد الثقافي في المجتمع جنبًا إلى جنب مع انتشار ثقافة السوشيال ميديا الاستهلاكية، نجد مثلًا في الساحة الأدبية طوفانًا من الأدب الهابط والروايات البلهاء وديوانات الشعر التافهة يُطبع منها آلاف الطبعات في المعرض الواحد لشباب لم تتعد تجربتهم في الحياة المرحلة الثانوية بدون أي خلفية أدبية أو علمية تستحق الذكر، كما شاع أيضًا التناول الساذج للمسائل الجادة والعرض المخل للظواهر الاجتماعية والتحليل السطحي للقضايا الكبرى. ساهم هذا الأمر في تبسيط قضية الإلحاد للشباب وتسهيل تمريرها وسطهم بغض النظر عن إشكالاتها الفلسفية والعلمية الضخمة.
- التوحش الغير مسبوق للأفكار العلمانية/العالمانية/الدنيوية[2]: فبسبب غياب الإسلاميين عن الساحة وانشغالهم بالدفاع عن أنفسهم أمام الملاحقة القضائية والضربات الأمنية القاسية، خلت الساحة من الإسلاميين الدعويين وتفرغ العلمانيون والخطاب العلماني للتمدد في مساحات الفراغ التي خلفها الإسلاميون وراء انسحابهم، فتتابعت موجات العلمنة والإلحاد على المجتمع المصري وظهرت الدعوات إلى تجديد الخطاب الديني، والقراءات الحداثية العصرانية للنصوص الشرعية، والتشكيك في مصادر تلقي السنة النبوية وعلى رأسها كتابي (الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه) للإمام محمد بن إسماعيل البخاري المشهور بصحيح البخاري، وكتاب (الجامع) للإمام مسلم بن الحجاج المشهور بصحيح مسلم. وصار من المعتاد أن يقرع على أذني الشاب المصري يوميًا الطعن في أئمة الإسلام والسلف الصالح وعلى رأسهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمناداة المستمرة بالتنوير الفكري والتحرر العقلي من الجمود والرجعية والظلامية، والهجوم على مقدسات الإسلام مثل القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم بزعم محاربة الوهابية والجمود والتطرف.
- الإلحاد كميزة تنافسية للسلع في السوق: ساهم بعض الكتاب والمؤلفين في نشر الإلحاد عن طريق الاستجابة لآليات السوق، فكما ينتشر في علم التسويق مبدأ Sex Sells بمعنى أن كل سلعة يتم إضافة الجنس إليها في السوق تحصل على قدر أكبر من المبيعات، فإن المجتمع المصري له السبق في نشوء مبدأ Atheism Sells، فلكي تتمكن من الترويج لروايتك التي نشرتها، أو لبرنامجك الذي تصوره، أو لأفكارك التي تكتبها، فما عليك إلا أن تضمن الإلحاد في كلامك، أو تضع شخصية ملحدة في سرديتك الروائية، فإن فعلت ذلك فقد أضفت جوًا من الإثارة والتحفيز لسلعتك وضمنت مزيدًا من الصيت والترويج لها.
- حالة الانهزام الحضاري والانصياع لسلطة الثقافة الغالبة: أو بتعبير ابن خلدون: “المغلوب مولعٌ دائمًا باقتداء بالغالب في زيه ونحلته ومذهبه وسائر أحواله وعوائده”[3]. ومع تسارع منحدر التردي والانحطاط والتخلف الذي يشهده المجتمع المصري على كافة المستويات: الصحة والتعليم والمسكن والبحث العلمي الخ، في مقابل التصاعد الثابت للمجتمعات الغربية، يجد الشاب نفسه معظماً للغرب بطبيعة الانهزام الحضاري فيسري إليه شعور الاقتداء والامتثال للغرب في أفكاره وإلحاده ومذهبه.
- ولعل أهم خصيصة من هذه الخصائص التي في نظرنا هي حالة التيه التي عانى منها الشباب بعد سقوط الأيدولوجيات والتنظيمات والسرديات الكبرى وتحطمها أمام مستجدات الواقع في المنطقة والعالم: فبعد أحداث فض رابعة والملاحقة الأمنية المستمرة ضد كافة أطياف المعارضة، تفكك تنظيم الإخوان بفعل القمع السلطوي وبفعل الخلافات الداخلية بين قيادات التنظيم وأصبحت سردية (الفرد المسلم – البيت المسلم – المجتمع المسلم – الحكومة المسلمة – أستاذية العالم) التي طالما تبناها الإخوان ونشروها في المخيل الجمعي لأعضائهم ومحبيهم، لجأ الشباب بعدها من ذوي العاطفة الإسلامية إلى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وسرديته الكبرى (فسطاط أهل الإيمان – خلافة آخر الزمان). فما لبث تنظيم داعش هو الآخر أن انحسر وانكمش وفقد أغلب المناطق التي كان يسيطر عليها وذهب رونقه واندثرت سرديته في 2016م فلم يجد الشباب سردية إسلامية يؤمنون بها ويعبرون بها عن هويتهم، مما ولد عندهم شعورًا كاسحًا بالاغتراب واليأس والإحباط وفقدان المعنى. وصار حتى بعض أبناء الملتزمين والمشايخ والدعاة ربوببين وملاحدة ولاأدريين[4]. ضاعت الهوية والرؤية والنسقية في حياة الشباب، وانتشرت المقولات العدمية والعبثية بينهم حيث أن الدين والأيدولوجيا، بشكل عام، كما يرى أستاذ التحليل النفسي بجامعة جنت البلجيكية باول فيرهايجي، كانا يوفران هوية مشتركة تركز على الفعل الأخلاقي والإحساس المشترك بالمعنى، وفقدانهما يخلق فراغاً[5]. وأمام هذا الفراغ تلجأ النفس الإنسانية بطريقة جبلّية إلى ملئه سواء بالسردية الإلحادية أو بغيرها من السرديات.
في هكذا سياق اجتماعي يغيب فيه المكون العقدي الإسلامي عن ساحة التأثير في النسيج الاجتماعي المصري، استطاعت هذه العوامل مجتمعة أن تشكل ما يسميه الباحث عبدالله الشهري (القابلية للإلحاد)، ويعني بها: استعداد الفرد النفسي للإلحاد ومدى توافق فكرة الإلحاد مع طبيعة الشخص[6]. تفاقمت هذه القابلية للإلحاد بين الشباب مما سهل انتشار الإلحاد كثيرًا بين صفوف الشباب والفتيات، وهنا نؤكد على خطأ النظرية التي يقول أصحابها، مثل توماس فريدمان في مقاله بصحيفة النيويورك تايمز، أن تزايد أعداد العرب الذين يديرون ظهورهم للدين يعود إلى الممارسات التي ترتكبها الجماعات المتطرفة، مثل داعش، باسم الإسلام. ومنذ 2013م قامت وسائل الإعلام المصرية بنقل هذه النظرية وأصبحت تدعي في كل خبر وفي كل حوار أن الإسلاميين هم السبب في انتشار ظاهرة الإلحاد في مصر، مما يكرس الصورة الشيطانية للإسلاميين التي يحاول الإعلام المصري نقلها للجمهور.
وعلى النقيض يخبرنا الصحفي والناشط المغربي أحمد بن شمسي أن هذا الرأي القائل بأن الإسلاميين هم السبب في الإلحاد: “يعكس عقلية المُفكرين الغربيين الذين تتمحور رؤيتهم وتحاليلهم عن الشرق الأوسط من زاوية الإرهاب بشكل مركزي، لكن واقع الأمر أن رفض الإرهاب لا يُعد دافعًا رئيسيًا للمسلمين على الإلحاد إلا فيما ندر. ويدعم الصحفي البريطاني براين ويتيكر هذا الطرح من خلال سطورٍ بسيطة في كتابه فيقول: “بينما كنت في طور البحث أثناء إعدادي لهذا الكتاب… قضيت الكثير من الوقت محاولًا أن أفهم السبب الذي يدفع بعض العرب إلى الإلحاد، لم يذكر أحدٌ من الأشخاص الذين قد تحدثت معهم شيئًا عن الإرهاب أو الجهاد كوازعٍ رئيسيٍ لقراره… لم يكن ذلك مفاجئاً لي، لأن الإلحاد في ذاته هو رفضٌ لكل أشكال التدين، ولا يقتصر على رفض الجوانب الشاذة منها””[7].
وباستقرائنا لمئات الحالات من الشباب والفتيات الذين ألحدوا في هذه الفترة، فإننا يمكننا أن نعزو دوافع الإلحاد الرئيسية في مصر حاليًا إلى ثلاثة دوافع رئيسية:
أولًا: إلحاد الشباب بسبب سؤال الشر:
سؤال الشر هو التساؤل عن العدل الإلهي في عالم مليء بالدمار والظلم والفساد وسفك الدماء، تتسرب الشكوك في وجود الله إلى الشخص عندما يجد هذا الكم الهائل من المعاناة والألم بدون أن ينقذ الله خلقه أو يعينهم على الانتصار لحقوقهم، فيبدأ التساؤل حول مفهوم العدل الإلهي والخيرية الإلهية، ثم ينتهي المطاف بالشخص إلى إنكار وجود الله بالكلية، لأن وجود هذا القدر الكبير من المعاناة يتناقض مع مفهومي العدل والخير الإلهيين، ومن ثم فإن الإله هو مجرد وهم غير موجود في الحقيقة، بحسب المشككين.
ورغم أن حجة الشر لا تصمد حجة كثيرًا أمام التمحيص المنطقي، بل يعتبرها البعض نوعًا من المغالطات المنطقية لمشهورة لا علاقة فيها لسببها بنتيجتها، فإن أقصى ما يمكن قوله هو أن بعض صفات الإله كالخيرية والعدل والعلم لا تتوافق مع وجود الشر في العالم، ووجوده غير متعلق بمحل الإشكال أصلًا، لكن الأزمة عند الملحد هي أن سؤال الشر لا يمثل له حجة منطقية أو برهانًا عقليًا قدر ما هو رد فعل تجاه حالة نفسية وموقف رافض للشعور العاطفي الذي يطغى على التفكير العقلاني والمنطقي.
لذلك فإن اتجاه الكثير من الشباب المصري إلى الإلحاد يرجع إلى حالة الإحباط واليأس وفقدان المعنى التي يعاني منها الشباب لا إلى الأسباب المنطقية العقلانية، يوضح الباحث د. سامي عامري خطورة طغيان هذه الحالة الشعورية السلبية على الشباب في العصر الحديث والتي تؤدي بدورها إلى توليد سؤال الشر، فيقول: “يفقد الإنسان قدرته على مغالبة الشر لأنه يفقد في ذاته حافز القدرة على استشعار أي معنى إيجابي للمكابدة والصراع مع أوجه النقص في حياته”[8].
يمكننا القول إننا من خلال رصد مئات الحالات من الإلحاد في مصر أن سؤال الشر هو الدافع الأول لإلحاد الشباب المصري بلا نزاع، وهذا ليس خاصًا بالحالة المصرية فحسب وإنما هو حالة عامة في التاريخ الإنساني، كما يقول الفيلسوف الأمريكي ألفن بلانتنجا: “ومن المحتمل أن يكون سؤال الشَّرِّ هو أقوى دليل يمكن أن يستحضره الملحد ضد المعتقد الألوهي”[9]. وقد وصف الشاعر الألماني الملحد جورج بوخنر Georg Buchner سؤال الشر بأنه “صخرة الإلحاد”[10]. ويرجع هذا إلى أن هذا السؤال يعتبر مادة الاعتراض الأولى الحاضرة في غالب السجالات الإيمانية-الإلحادية، ولا يكاد يخلو سجال إلا ويٌستحضر فيه هذا السؤال.
وجدير بالذكر أنه بسبب عدم اتساق الرؤية اللاهوتية في الغرب مع سؤال الشر في العالم فقد الكثير من المؤمنين الغربيين إيمانهم بعد زلزال لشبونه عام 1755م الذي خلف حوالي 40 ألف قتيل وامتدت آثاره إلى أرجاء أوروبا، وبدأ سؤال الشر في إحداث “مشكلة” عند المؤمنين منذ ذلك التاريخ فصاعدًا، مما دفع رجال الدين والمفكرين إلى التصنيف في المسألة من أجل التوفيق بين إدراك الناس لشرور العالم وبين إيمانهم بالله، وقد نشر باري ويتني دراسة بيبليوجرافية عن المؤلفات الفلسفية واللاهوتية التي نشرت في الغرب عن مشكلة الشر بين عامي 1960-1990 فإذا هي تبلغ أكثر من 4200 دراسة في تلك السنوات الثلاثين فحسب[11].
وفي المقابل تتسق العقيدة الإسلامية مع وجود الشرور في العالم بشكل محكم وصلب، مما يفسر غياب مثل هذه الدراسات تمامًا عن العالم الإسلامي اللهم إلا قبسات يسيرة مقررة في كتب العقيدة عند الفرق العقدية المختلفة، على رأسها ما ورد في كتاب (شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل) لابن قيم الجوزية المتوفى 751هـ.
لكن بسبب العوامل العشرة التي ذكرناها آنفاً، أصبحت مسألة الشرور في العالم من المسائل المشكَلة عند الكثير من الشباب المصري، وصار السؤال من أكثر الأسئلة حضورًا في أغلب السجالات التي يخوضها المتخصصين في ملف الإلحاد، ونحن نرى أن سؤال الشر هو عرض لا مرض، فالمرض الحقيقي يكمن في العوامل العشرة التي ذكرناها، هي أصل المشكلة، فإذا تم علاج المرض زال العرض تلقائيًا.
ثانيًا: إلحاد الشباب كمراهقة فكرية
تتميز مرحلة المراهقة بتقلبات فكرية عنيفة، وتصاحبها رغبة قوية في الاستقلال وإثبات الذات والتخلص من عبء مرحلة الطفولة، يقول عبد الكريم بكار: “تتمثل أحد مفاتيح فهم شخصية المراهق في إدراك الأنشطة والمواقف التي يحاول المراهق من خلالها أن يُثبت لنفسه ولمن حوله أنه جدير بالاحترام، وجدير بأن يُعامل على أنه شخص كامل الأهلية وذو رأي ناضج ومعبر عن خبرة وتجربة .. إن مرحلة المراهقة هي مرحلة اعتزاز بالذات وبناء للاستقلالية”[12]. وتذكر أن المراهق “يهتم بذاته كثيرًا إلى حد النرجسية .. وتعد فترة المراهقة فترة أزمة وتوتر وصراع مع الناس، وتمرده عن القواعد والتقاليد والأعراف الاجتماعية والقانونية”[13].
وفي هذا السياق أذكر ثلاثة حالات ممن تعاملت معهم شخصيًا: في الحالة الأولى طلب مني أحد الشباب عمره 15 عامًا أن يجلس معي ليناقشني في إلحاده، فلما جلست معه أخبرني أنه ألحد وهو ابن 13 عامًا فقط، فلما بدأت النقاش معه ظهر لي مستواه شديد الضحالة وفهمه بالغ السطحية لأي قضية من القضايا، حتى أن إرجاعه إلى الإسلام لم يستغرق سوى جلسة واحدة لم تتعد ساعة واحدة. بدا بشكل واضح خلال لقائي مع الشاب أنه يعاني من التوتر والقلق المصاحبين لفترة المراهقة، وتمرده على النمط الأسري السائد خلال طفولته لا لشيء إلا لإعلان وجوده وإثبات ذاته في محيطه الاجتماعي.
وفي حالة أخرى أخبرني أحد الشباب أنه يريد أن يناقشني في نظرية التطور باستفاضة، وتوقعت من الشاب أن يكون ذا إلمام واسع بالنظرية إذ العادة أن الشباب يناقشون مسألة وجود الله لا التطور، بسبب حاجة النظرية إلى اطلاع على علوم الفيزياء والكيمياء والأحياء قبل الدخول إلا تفاصيلها. ذهبت في اليوم المحدد لمقابلة الشاب وفوجئت أنه شاب لم يستكمل عامه الخامس عشر بعد، وكان فهمه للقضايا العلمية منعدمًا ولا يستطيع التفرقة بين شريط الحمض النووي وبين النواة. ورغم هذا المستوى البائس من الجهل إلا أن الشاب كان شديد التمرد والغضب تجاه الدين، الأمر الذي أولته بتعرضه لمشاكل دينية نفسية في حياته لم يطلعني عليها.
أما الحالة الأخيرة فهي لفتاة عمرها 16 عامًا أخبرتني أنها لديها شكوك تجاه موقف الإسلام من المرأة وتريد أن تلحد بسببها، فلما جلست معها وبدأنا النقاش لم تستطع تفنيد شكوكها ولا عرض موقفها أصلًا، وظهر مدى ضحالة معرفتها بالنصوص الشرعية التي لم تكن تحفظ منها شيئًا تقريبًا، وكان يغلب على كلامها الشعارات العامة التي يرددها العلمانيون مثل (الإسلام ظلم المرأة) ونحوها، وعندما أسألها عن تفصيل هذه الشعارات لا تستطيع الرد، وعلى الرغم من ذلك فقد مالت الفتاة إلى الإلحاد رغم غياب حجتها بشكل كامل.
تمثل هذه الحالات لونًا من اندفاع المراهقين نحو الإلحاد بطريقة عنيفة وسطحية في الوقت ذاته، لا ينبني عند هذه الفئة من المراهقين قرار الإلحاد على النظر والبحث والتفكر، وإنما هو شكل من أشكال إثبات الذات وإعلان التفوق على الأقران لا أكثر.
ثالثا: إلحاد الشباب رغبة في التفلت من رقيب أخلاقي
يميل أغلب الشباب إلى الاستمتاع واللهو والترف، ويأتي الدين -لا سيما الإسلام- ليقيّد استمتاع الإنسان بشهواته ويضع له التكاليف الشرعية وموازين الحلال والحرام وضوابط تصريف الشهوات في مواضع معينة، وأمام هذه العقبات التي يجد الشاب نفسه أمامها، يصبح الإلحاد خيارًا مطروحًا أمامه، حيث أن مثل هذا الشاب، بحسب الباحث هشام عزمي: “يجد تعارضًا بين الاستمتاع بالشهوة مع الشعور بالذنب ووخز الضمير، ويكون على المرء أن يختار بين طاعة الله وبين الانخراط في الشهوات، فيكون قراره هو التخلص من الدين وتكاليفه”[14].
ولهذا يعترف ريتشارد دوكنز بهذه الحالة التي تعتري الشاب من “الشعور بالراحة” عندما يتخذ قرار الإلحاد، فبحسب دوكنز، فإن الشاب يتخلص من قيود الدين الظالمة ويتحرر من الاستبداد الديني وسيطرته على حياته، ليحصل في المقابل على أفق جديد تمامًا يتسم بالحرية الكاملة في حياته ليفعل فيها ما يشاء[15].
يأتي هذا الدافع للإلحاد متوافقاً مع ما يسمى في علم النفس بالتنافر المعرفي Cognitive Dissonance، وهي ” حالة من التوتر أو الإجهاد العقلي أو عدم الراحة التي يعاني منها الفرد الذي يقوم بسلوك يتعارض مع معتقداته وأفكاره وقيمه، وينشئ داخله دافع لمحاولة الحد من هذا التنافر”[16]. وفي الغالب يكون الأسهل على الشاب أن يغير من معتقداته وأفكاره عوضًا عن تغيير سلوكه وتصرفاته.
المبحث الثاني: شريف جابر
عقب 2014م خفتت أصوات أغلب رموز الإلحاد المصريين، لم يعد هناك اهتمام كبير بإسماعيل محمد أو علياء المهدي أو ألبير صابر أو غيرهم، بسبب أن هذه الفئة:
- اقتصر نشاطها على اللقاءات المطولة أو المجموعات المغلقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وهي وسائل لا تحقق الانتشار المطلوب للخطاب الجماهيري الذي ينشده الملاحدة.
- ظهرت في فترة كان للإسلاميين فيها اليد العليا في المجال العام ومن ثم لم تكن هذه الدعوات الإلحادية محط اهتمام للرأي العام أصلًا، بل كانت توصم في 2011م-2013م بأنها دعوات شاذة لا هدف لها سوى لفت النظر وتعبير عن المراهقة الفكرية لا أكثر مما دفع أغلب الشباب إلى النفور منها وعدم الانتباه إليها.
- كانت الأحداث السياسية لا تزال صاحبة اليد العليا في المجال العام ولم يبدأ الشباب من الالتفات عن السياسة بعدما فقدوا الأمل منها إلا منذ أواخر 2015م على وجه التقريب.
- بالإضافة إلى اتهام بعض هؤلاء الملاحدة إما بالهروب من المواجهة أو بالبحث عن الشهرة أو بالنفاق والبحث عن المتعة فحسب أو بالعمالة مع النظام، وغيرها من الاتهامات التي يتهم الملحدون بعضهم البعض بها.
في تلك اللحظة لم يكن لخطابات الإلحاد ذات صدى معروف عند عموم الشباب المصري، لا سيما مع المواقف المخزية للملحدين التي أيدوا فيها المذابح بحق المدنيين والانقلاب على المسار الديمقراطي للدولة المصرية في 30 يونيو 2013م، فلم يكن ثمة وجه جماهيري معروف لدى الشباب سوى أحمد حرقان وكان أغلب من يعرفه يتناوله بالسخرية، حتى لو كان ملحدًا، بسبب ضعفه الشديد وأخلاقياته السيئة. انقلب هذا المشهد رأسًا على عقب عندما بدأ شريف جابر في نشر فيديوهاته في مارس 2016م، ومنذ حلقته الأولى كان التهكم وأسلوب السخرية من الإسلام غالبًا على خطابه.
وبسرعة تدعو للاستغراب، بلغ الخطاب الجماهيري لشريف جابر ما لم يبلغه أي خطاب إلحادي في مصر على الإطلاق بدءًا من إسماعيل أدهم وعبدالله القصيمي، وصولًا إلى أحمد حرقان وإسماعيل محمد، مرورًا بكريم عامر وألبير صابر وعلياء المهدي وغيرهم. فبحلول نهاية عام 2018م، أي بعد حوالي سنتين ونصف فقط من بداية ظهور شريف جابر، بلغ إجمالي عدد المشاهدات على قناة جابر على موقع يوتيوب 15 مليون مشاهدة لإجمالي 20 فيديو فقط، أي بمتوسط 750 ألف مشاهدة للفيديو الواحد. بالطبع لا يمكننا تحديد المشاهدات الحقيقية من المشاهدات الزائفة، ولا يمكننا كذلك تحديد من أي بلد جاءت تلك المشاهدات، لكننا نقدّر أن نصف المشاهدات على أقل تقدير هي مشاهدات حقيقية جاءت من بلده الأم مصر.
وُلد شريف جابر بالسويس عام 1993م، والتحق بكلية الآداب قسم اجتماع بجامعة السويس، وحينذاك بدأت أولى صداماته مع الدين، ففي إحدى محاضرات علم الاجتماع قام الأستاذ بعرض قضية الشذوذ الجنسي كانحراف سلوكي مما دفع جابر للاعتراض قائلًا بأنه أمر طبيعي، وفي محاضرة أخرى قال المعيد إن الصلاة أساس للأخلاق فتدخل شريف لينقض رؤية المحاضر ويصرح بأن الصلاة ليست شرطًا للأخلاق ويمكن للمرء أن يكون ملحدًا خلوقًا. تسبب هذا في غضب الطلاب والمحاضرين فتم رفع شكوى إلى رئيس القسم بالكلية ثم إلى النائب العام، فاحتجزت قوات الأمن جابر في أكتوبر 2013م ثم أخلت سبيله في ديسمبر من نفس العام[17].
لا يُعلم مصدر دقيق عن طبيعة أو مصدر تمويل شريف جابر سوى الدعم الجماهيري المقدم له من قبل المتطوعين عبر موقع Patreon، فبحلول شهر يوليو 2018م، أي في ذروة قمة نشاط جابر وذيوع صيته، وصل إجمالي الدعم المقدم إليه عبر الموقع 3427 دولار شهريًا (حوالي 61 ألف جنيه مصري شهريًا) مقدم من 284 داعم Patrons[18].
وذكر موقع Walla الإسرائيلي أن شريف جابر هو نجم صاعد في المجتمع المصري، وقال أن الفيديوهات خاصته “تم إعدادها بدقة، وتحوي أغلبها ترجمات للإنجليزية بل وحتى العبرية، تشهد على أن جابر يتلقى في الغالب دعمًا من صندوق أو منظمة ما”[19]. وفي نفس السياق قامت صفحة (قف معنا بالعربية) التابعة لمنظمة Stand With Us الصهيونية التي تهدف إلى “تعليم الناس من كل الأعمار حول دولة إسرائيل ومحاربة معاداة السامية والتطرف في المنطقة العربية”[20]، بنشر فيديو شريف جابر في سبتمبر 2016م المعنون بـ “ليه بتكره إسرائيل” في إعلان مدفوع الأجر Sponsored على صفحتهم الرسمية على موقع فيسبوك[21].
لا يُعرف أية تفاصيل حول حياة جابر الشخصية والمبررات التي دفعته نحو الإلحاد، سوى أنه كتب منشورًا على صفحته الشخصية بعد انطلاق فيديوهاته بأربعة أشهر فقط استعاد فيه شريط ذكرياته القاسية مع والده العنيف، كتب فيه أنه كان يعاني من طفولة قاسية مع والده الذي كان يسومه سوء الضرب والشتيمة والإهانة ثم ينافق الناس بصورة ملائكية، وسرد شريف فصولًا من مأساته مع أبيه ثم ختم منشوره قائلًا: “حتى بعد وفاتك ب 6 سنين، مازلت أنت الكابوس الوحيد الذي أقوم من الليل مستيقظًا باكيًا منه”[22].
استنتاج الفصل الرابع
لا يزال الملحدون يتخندقون في منابر وسائل التواصل الاجتماعي دون وجود فعلي لهم على أرض الواقع إلا في ثلاثة مواقع رئيسية: الأول هو حركة (علمانيون) التي أشرنا إليها سابقاً التي يتشابك معها كثير من الملحدين. والموقع الثاني هو مبادرة (الحزب العلماني المصري) تحت التأسيس، ومنذ اليوم الأول لتأسيسه في أوائل 2015م وهو يتم اتهامه بأن الملحدين هم الأعضاء المؤسسون له، استضاف الحزب عددًا من المؤلفين على رأسهم سيد القمني في فبراير 2016م، لكن لم نستطع التحقق من صدق هذه الادعاءات بطبيعة ضبابية المشهد الإلحادي في مصر برمته. أما الموقع الثالث فهي بعض مقاهي وسط البلد بالقاهرة.
لم تتشكل مقاهي وسط البلد بالقاهرة كبيئة جاذبة لتجمعات الملحدين في السنوات الأخيرة فحسب، بل كان الأمر كذلك منذ بداية موجة الإلحاد الحديثة في مصر، فقد قام سامولي شيلك، الباحث بمركز الاستشراق الحديث بالعاصمة الألمانية برلين، بلقاء أربعة ملاحدة مصريين عام 2008م، وذكر في ورقته البحثية أن المشاكل التي يتعرض لها الملاحدة في البيئة المصرية المحافظة “تدفع الملاحدة إلى التحرك إلى أوساط اجتماعية أقل التزامًا بالدين، وأهم هذه الأوساط الاجتماعية هي المشهد الفكري والفني في وسط البلد بالقاهرة، حيث توفر مساحة للاديينين المصريين لتبادل الأفكار وعرضها”[23].
وفي عام 2015م زعمت الحكومة المصرية أنها بصدد إغلاق “قهوة الملحدين” في وسط البلد بالقاهرة، لكن علق أحد الملحدين قائلًا: “وارد يكون هناك بعض الملحدين في المقهى، لكن هناك أهداف أخرى تم غلق المقهى بسببها .. ليس هناك مكان محدد للملحدين، صحيح أن قهوة (صالح) في وسط البلد كانت المكان الأول للملحدين، إلا أن هذا التجمع قد افترق وليس غريبًا أن تجد ملحدًا هنا أو هناك يرتاد مقاهي مختلفة.. فتجمعات الملحدين تبدأ بشكل عفوي على فيسبوك، فكل ملحد جديد يحاول أن يبحث عن شخص يشاركه في الفكر نفسه ثم يتفقان على اللقاء في أحد المقاهي”[24].
سوى هذه المواقع الثلاثة لم نستطع تحديد جسور جماهيرية يعبر الملحدون من خلالها إلى المجتمع المصري. وكان الغالب الأعم على نشاطهم هو النشاط الالكتروني، ويوجه عموم الملحدين في مصر خطابهم على وسائل التواصل نحو شريحة الطبقة الوسطى[25] حصرًا، ولا يكاد يخرج عن الطبقة الوسطى الحضرية، ومن الصعب جدًا أن يلمس الخطاب الإلحادي المجتمع الريفي الزراعي المصري الذي لا يعرف هذا التقسيم الطبقي ابتداءً ويتسم بقدر أكبر من تأصل القيم المحافظة فيه ومن ثم فإن الخطاب الإلحادي سيكون غريبًا عليه إن لم يكن مستهجنًا.
أما على مستوى الشريحة العمرية فإن خطاب الملحدين يخاطب فئتين أساسيتين من رواد مواقع التواصل: فئة المراهقين (14-18 عام[26])، وفئة طلاب الجامعات، ناعتًا إياهم بمصطلحات مثل (جيل التنوير) و (عقول المستقبل) و (رواد الفكر الحر) ومستخدمًا عبارات مثل (أنتم كشباب مستنير أمل الوطن في تحريره من سلطة الأديان) و(أنتن أحرار في اختياركن والعالم كله ينظر بفخر إليكن) ونحوهما.
خاتمة الدراسة
تبدو إذن ظاهرة الإلحاد في مصر مؤخرًا من الظواهر التي فرضت نفسها على الساحة المصرية وإن كانت لا تزال في مرحلة مخاض وتتسم بسرية نشاطها على الأرض وانغلاق شبكاتها على نفسها، وعبر رصد الظاهرة على مدار 83 عامًا منذ 1937م إلى 2020م، يمكننا الخروج بعدة نتائج:
أولًا:
تشتبك ظاهرة الإلحاد في مصر في علاقة مد وجزر طبقاً للإرادة السياسية للنظام الحاكم في مصر، أي أن الظاهرة تخضع حسب تقديرنا في المقام الأول لموقف السلطة السياسية منها، ففي الفترة 1930-1960م كان النظام الملكي ثم الجمهوري رافضًا للظاهرة فلم يكن ثمة وجود فعلي لها بين الجماهير المصرية، لكن تغير الأمر في 1960-1970م بسبب هيمنة الشيوعيين في مراكز القوى في الدولة وتصالح النظام آنذاك مع الاتحاد السوفيتي فأصبح الإلحاد مقبولًا في أوساط المثقفين والطلاب الجامعيين، ثم انحسرت الظاهرة مرة أخرى في 1970-2011 بسبب الشرعية الدينية التي أراد السادات ومبارك أن يكتسباها أمام شعبهما فانحسرت ظاهرة الإلحاد في المجتمع، ثم في 2013-2020 أصبح النظام الحاكم متصالحًا مع الملحدين وخصمًا لهم في نفس الوقت، فغض الطرف عن نشاطهم وأصبح يوظفهم من أجل خدمة الهدف الأيديولوجي المركزي للنظام وهو ضرب الإسلاميين وإشغالهم بمعارك جانبية وتفكيك تنظيماتهم وشبكاتهم مما ساهم في تعزيز الظاهرة اجتماعيًا.
لذلك كتب أحد المقربين من أحمد حرقان على صفحته الشخصية قائلًا: “أكد لي قريبي الذي يعمل في المخابرات العامة أنها [أي السلطة] تقصد إظهار الملحدين في التليفيزيون حتى يعلم الناس أن تجار الدين هم السبب في الإلحاد”[27]. كما لاحظنا أن خصوم إسماعيل محمد دائمًا ما يتهمونه بـ”الدولجي” وهو المصطلح الذي يعني أنه مؤيد للنظام ويتلقى الأموال منه.
ومما يُؤكد صحة الاتهامات السابقة هو ما تردده وسائل الإعلام الرسمية والتابعة للنظام مع كل ظهور لأحد الملحدين على القنوات الفضائية، فتلقي بكل أسباب الإلحاد على جماعة الإخوان المسلمين فحسب دون اعتبار لأي سبب آخر[28]، مما يعني أن سماح النظام بهامش حرية للملاحدة يستهدف بشكل رئيسي توظيف الملاحدة لشيطنة الإسلاميين في مخيل الشعب المصري وإضفاء مزيد من الشرعية لممارسات النظام السلطوية والقمعية.
وبالتالي فإن ظاهرة الإلحاد في مصر ليست ظاهرة دينية فحسب وإنما هي ظاهرة سياسية كذلك حيث أن طبيعة الدول الاستبدادية ذات الطابع الشمولي أنها لا تعترف بما يسمى المساحة الشخصية للمواطن ولا تؤمن كذلك بالشؤون التي تتعلق بالفرد وحده، وإنما تسعى الدولة إلى فرض هيمنتها على كل المجالات الخاصة والعامة من أجل التحكم في المجتمع وأفراده وتكريس منظومة الاستعباد للنظام الحاكم.
لذلك مهما حاول الملحدون الابتعاد عن السياسة فإنهم سيتم محاولة استقطابهم لأحد الشلل “الدولجية” من أجل تسييس قضيتهم لصالح النظام، يؤكد هذا ما ذكرته المجلة السياسية الأمريكية The New Republic أن العديد من الملحدين العرب “لم يكونوا قد سُيّسوا، ولكن يبدو أنه ليس هناك مفر .. يقول مؤمن، وهو ملحد مصري، أنه لم يقصد تسييس إلحاده: “ولكن عندما يكون إيمان الناس أمرًا سياسيًا، فإن عدم إيماني سيصبح بالضرورة أمرًا سياسيًا هو الآخر .. طالما عومل غير المؤمنين باضطهاد، وطالما بقي الدين ينتهك حياة الأفراد الشخصية، لن أستطيع أن أكفر به كقضية شخصية. وفي كل الأحوال، أصبحت السياسة جزء رئيسي من كل القضايا، ولن نستطيع إلا أن نمارسها””[29].
ثانياً:
يتصف أغلب رموز حركة الإلحاد الجديد المصريين التي رصدناها بالولاء التام لدولة إسرائيل دعمًا وتأييدًا وترويجًا لمشروعهم في الأرض الفلسطينية، وهي سمة تتصف بها حركة الإلحاد الجديد بشكل عام منذ نشأتها.
فقد قام أحمد زيدان وأميرة طاهر، الملحدان السابقان صاحبا صفحة (الله)[30] على فيسبوك في 2010م، بإنشاء صفحة (علاقة طبيعية مع إسرائيل)، قبل أن يكشفهما موقع المرصد الإسلامي ويرغمهما على إغلاق الصفحة، كما ذكرنا. بالإضافة إلى ذلك فقد قامت أميرة طاهر بكتابة تدوينة في 2009م بعنوان (حقائق وأكاذيب حول إسرائيل) دافعت فيها بشدة عن إسرائيل أمام النقد الموجه لها[31]، قبل أن تحذف مدونتها من الإنترنت بالكلية وتغير معتقداتها وأفكارها بعد سنوات.
وفي ديسمبر 2010م كتب المدون المصري الملحد مايكل نبيل سند مقالًا بعنوان (ليه أنا مؤيد لإسرائيل؟) على مدونته الشخصية[32]. وبعد ذلك في سنتين، في ديسمبر 2012م، كرمت الجامعة العبرية بإسرائيل سند، وألقى هناك محاضرة ذكر فيها أن زيارته إلى إسرائيل: “هي رسالة من مجتمع السلام المصري بأننا مررنا بما يكفي من العنف والمواجهات، وآن لهذا الوضع أن ينتهي. نريد أن نعيش سوياً كبشر بدون عنف أو عنصرية أو أسوار”[33].
أما حامد عبد الصمد فهو صاحب علاقة وثيقة مع هنريك برودر، الصحفي اليهودي الأشهر في ألمانيا المدافع عن إسرائيل. وفي عام 2010م اشترك عبد الصمد مع برودر في برنامج تليفيزيوني من عدة حلقات طافا فيه ألمانيا بسيارة رُسم عليها علم دولة إسرائيل. كما تم تكريمه من إحدى المؤسسات اليهودية في ألمانيا نتيجة لجهده في دعم دولة إسرائيل.
حامد عبد الصمد أثناء تكريمه من قبل جالية اليهود بألمانيا لجهوده الداعمة لإسرائيل
وكذلك علياء المهدي التي تلقت دعمًا إسرائيليًا من الناشطة الإسرائيلية أور تيبلير عندما نشرت المهدي صورها العارية في 2011م، دعت تيبلير الفتيات الإسرائيليات إلى دعم موقف الناشطة المصرية، فاستجابت 40 امرأة إسرائيلية والتقطن صورة جماعية لهن وهن عاريات وهن يحملن لافتات مكتوب عليها: “حب بلا حدود، تكريمًا لعلياء المهدي .. الأخوات من إسرائيل”[35].
أما إسماعيل محمد فقام بنشر منشورين في عام 2014م يؤيدان التوطين الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية ويؤيدان التسليح الإسرائيلي ضد الاعتداءات الفلسطينية[36]، وهو دائم الدعم لإسرائيل على صفحته الشخصية حتى اللحظة وذكر أنه “لو لم يكن مصريًا لود أن يكون إسرائيليًا”[37].
وبالمثل لا يجد ألبير صابر غضاضة في تطبيع العلاقة مع المؤسسات الإسرائيلية، فقد أجرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” الإسرائيلية حوارًا مطولًا مع صابر عام 2014م وصورته كنموذج للاضطهاد الديني في مصر[38].
وبخصوص سيد القمني فقد تم تصوير مقابلة معه مع إسماعيل محمد صرح فيها القمني بأنه يرى أن الحل للصراع الفلسطيني هو التعايش مع الدولة الإسرائيلية ونبذ “خرافات الصراع الديني” بصفته هو الوسيلة الوحيدة لضمان استقرار المنطقة[39]. وفي موقف آخر يروي الشاعر صلاح عبد الله أنه سمع سيد القمني بأذنيه يقول في إحدى جلساته الخاصة: “يوم ما الأمريكان ييجو يحتلوا البلد أنا ابني هيكون راكب على أول دبابة تحتل الأزهر”[40].
وفي سبتمبر 2015م قام شريف جابر بنشر حلقة بعنوان (ليه بتكره إسرائيل؟) روج فيها للتقدم التقني في إسرائيل وتصديرهم للتكنولوجيا وللسلاح وللمركبات العسكرية، كما مدح جهدهم البحثي في مجال العلوم الطبيعية وأثنى على إنتاجهم الصناعي والزراعي كذلك. وهو الفيدو الذي قامت صفحة Stand With Us بالعربية الإسرائيلية بمشاركته كما ذكرنا.
وكذلك قام مولانا مصري ملحد في عام 2016م بنشر فيديو يدعم فيه الدولة الإسرائيلية داعيًا إلى التحالف وتطبيع العلاقة معها كدولة متقدمة وناجحة في المنطقة بعكس الدول الإسلامية الرجعية والمتخلفة، على حد قوله[41].
ثالثًا:
تغير خارطة المجتمع المصري بشكل جذري بعد ذيوع وسائل التواصل الاجتماعي، وسيطرة منطق الشللية على الشبكات الاجتماعية للملحدين في مصر. فقد أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي عددًا من الفرص للملحدين للتشبيك بين شللهم وتمكينهم كمهمشين في المجتمع المصري، كما أحدثت وسائل التواصل تغييرًا في طبيعة العلاقات الاجتماعية بشكل لا رجعة فيه، مما يعني أن الظاهرة ستفرض نفسها بأدوات جديدة ينبغي أن يتم التعامل معها وفقاً لهذا المنطق الشبكي الجديد حتى يتم فهمها أو معالجتها بطريقة سليمة.
لا تزال ظاهرة الإلحاد في مصر ظاهرة وليدة لم تمض عليها بضع سنوات فحسب، وأمام المستجدات التي طرأت على الظاهرة، يجد المهتمون تحديًا كبيرًا في رصد جانبين أساسين: الأول هو تحليل الشبكات الاجتماعية للملحدين واستكشاف طبيعة العلاقات بينهم، والثاني هو كيفية توظيف النظام السياسي لهذه الشبكات. لم نستطع رصد هذين الجانبين لصعوبة إجراء عمل استقصائي في المجتمع المصري بسبب تعامل السلطة مع العمل البحثي الاستقصائي كتهديد للأمن القومي، مما أعاق الكثير من الفرص التي كانت ستكشف لنا الكثير من الأسرار حول طبيعة الظاهرة في مصر، نظرًا لخوف كثير من الملحدين من إجراء لقاءات معنا، لكن في نفس الوقت هذه السلبية تفتح الآفاق في ذات الوقت للمزيد من الأبحاث حول الظاهرة وإثراء المساهمة البحثية لها.
الهامش
[1] ليس ثمة “رجال دين” بالمعنى الكهنوتي في التصور الإسلامي، وإنما يعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال، ولكننا نستخدم المصطلح في هذا السياق تجاوزًا.
[2] تتنوع ترجمة مصطلح Secularism ويختلف المفكرون في ترجمته إلى العربية إلى ثلاثة مصطلحات رئيسية هي العلمانية والعالمانية والدنيوية، انظر: عزمي بشارة، الدين والعلمانية في سياق تاريخي، المجلد الثاني الجزء الأول، و: سامي عامري، العالمانية طاعون العصر: كشف المصطلح وفضح الدلالة.
[3] ابن خلدون، المقدمة، (دمشق: دار يعرب، 1425هـ)، 1/283.
[4] تنطوي اللادينية على ثلاثة اعتقادات: الأولى هي الإلحاد أي إنكار وجود الله، والثانية هي الربوبية أي الإيمان بإله خالق للكون لكنه لا يأبه به ولا يتدخل في أي شيء فيه، والثالثة هي اللاأدرية أي عدم تحديد موقف. وشخصيًا قابلت عشرات الحالات ممن كانوا أبناء قيادات إسلامية كبرى ولكنهم اتجهوا إلى الإلحاد في نهاية المطاف.
[5] Paul Verhaeghe, What About Me? The Struggle for Identity In a Market-Based Society, Translated By: Jane Hedley-Prole, (London: Scribe, 2014), P. 110.
[6] عبد الله الشهري، ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان، (بيروت: مركز نماء، 2014م)، ص/ 93.
[8] سامي عامري، مشكلة الشر ووجود الله: الرد على أبرز شبهات الملاحدة، (لندن: مركز تكوين، 2016م)، ص/ 27.
[9] ألفن بلانتنجا، هل الإلحاد لاعقلاني؟، (مصر: مركز براهين، 2014م، ص/ 3.
[10] Randy Alcorn, If God is Good: Faith in the Midst of Suffering and Evil (Colarado Springs, Colo.: Multnomah Books, 2009), P. 11.
[11] Daniel Howard-Synder, ed. The Evidential Argument from Evil (Bloomington: Indiana University Press, 1996), p.ix.
[12] عبدالكريم بكار، المرهق: كيف نفهمه وكيف نوجهه؟، (القاهرة: دار السلام، الطبعة الثانية، 1431هـ)، ص/ 22-23.
[13] جميل حمداوي، المراهقة: خصائصها ومشاكلها وحلولها، نسخة الكترونية على موقع شبكة الألوكة، ص/ 57.
[14] هشام عزمي، الإلحاد للمبتدئين: دليلك المختصر في الحوار بين الإيمان والإلحاد، (مركز براهين، 2016م)، ص/ 35.
[16] Leon Festinger, A Theory of Cognitive Dissonance, (California: Stanford University Press, 1957).
[23] Samuli Schielke, Being a Non-Believer in a Time of Islamic Revival: Trajectories of Doubt and Certainty in Contemporary Egypt, Int. J. Middle East Studies 44 (2012), P. 306.
[25] الطبقة الوسطى كما يعرّفها عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر هي مجموعة الأفراد الذين يعيشون في مستوى اجتماعي واقتصادي يأتي بين الطبقة الثرية والطبقة الفقيرة، وتشير مشيرة العشري أستاذ علم الاجتماع بجامعة دمياط، إلى أن مفهوم الطبقة الوسطى مفهوم سائل يمكن تحديد أطره بالنظر إلى عدة عوامل مثل التعليم والدخل والمهنة والموقع الوظيفي ونمط الحياة، لكنهم جميعًا يميلون إلى تبني أنماط سلوك وقيم ثقافية مشتركة. انظر: مشيرة العشري، الطبقة الوسطى من مرحلة الازدهار إلى سياسات الإفقار، (القاهرة: مصر العربية للنشر والتوزيع، 2014م).
[26] تتباين الآراء العلمية حول حيز سن المراهقة ومتى يبدأ ومتى ينتهي، وبلغت بعض الدراسات حد القول بأنه يبدأ من سن 10 أعوام ويستمر إلى سن 24 عامًا، وسبب هذا عدم الاتفاق بين الدراسات هو أن أحد عوامل تحديد سن المراهقة هو السياق الاجتماعي والبيئة المحيطة بالشخص، وهي الأمور التي تتباين فيها المجتمعات الإنسانية تباينًا شديدًا، انظر: Susan Sawyer, Peter Azzopardi, The age of adolescence, The Lancet Child & Adolescent Health, Volume 2, Issue 3, March 2018, Pages 223-228.
[28] انظر مثلًا: الرابط و الرابط
[33] https://www.skynewsarabia.com/middle-east/61601-تكريم-المدون-المصري-مايكل-نبيل-بإسرائيل
أقرأ أيضاً: الإلحاد والملحدون في مصر (3): بين 25 يناير2011 و30 يونيو 2013
(المصدر: المعهد المصري للدراسات)