مقالاتمقالات مختارة

الحركة الإسلامية وتوظيف الفكر التنظيري للمفكرين الحداثيين

الحركة الإسلامية وتوظيف الفكر التنظيري للمفكرين الحداثيين

بقلم عزة مختار

مفكرون كثر تزخر المكتبة العربية بكتاباتهم، وأفكارهم تحمل الكثير من الحلول لما آل إليه حال الأمة العربية والإسلامية في الثلاثة قرون الأخيرة بعد ضعف واضمحلال وسقوط حضاري سريع، كل منهم وضع حلولاً تغطي جانباً من جوانب الضعف الحضاري -في وقته- وذلك بداية من ظهور الأطماع الاستعمارية الغربية تجاه الشرق العربي والإسلامي.

ولعبت الحركة الإسلامية دوراً محورياً في مقاومة الاستعمار والحفاظ على هوية الأمة، ظهرت الدعوة السّنوسية في شمال أفريقيا، والحركة المهدية في السودان، والشيخ محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية.

وقد ظهرت على الساحة المصرية ثلاث شخصيات كونت مدارسها الفكرية الخاصة لتمثل طليعة في عملية “التجديد” الفكري والحركي للأمة والمصلحين من بعدهم، هؤلاء هم الشيخ جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ محمد رشيد رضا.

بالطبع واكب هؤلاء مفكرين وأفاضل ومجددين آخرين -لا نقلل من دورهم- مثل المفكر الأديب عبد الرحمن الكواكبي -الذي شكّل “حالة خاصة” في مشروع المقاومة الإسلامي- وفي نهاية القرن الثامن عشر أصيبت الأمة بداءين كل منهما كان أشد خطورة من الآخر:

الأول/ هو حالة التردي الحضاري الخطير والسريع، والهوة الواسعة بين الحضارة الأوروبية الحديثة والحضارة الإسلامية المغلقة منذ ما يزيد عن قرنين، مع إغلاق كافة أبواب التجديد الفقهي والمنهجي، مع مفارقة وضعت العالم الإسلامي في حيرة؛ لأن الحداثة الأوروبية ارتبطت بثورة على الكنيسة التي كانت تعادي العالم والعلماء، فكانت الثورة الأوروبية للانتقال للحضارة المعاصرة مرتبطة بثورتها على الكنيسة وكل ما يمثل الدين.

الثاني/ هو الهجمة الاستعمارية الشرسة على دولة الخلافة التي أصابها الوهن والتخلف نتاج سنوات عجاف من التناحر الداخلي والتخلي عن مهمة الشهادة بعدما فقدت مقوماتها حين تخلت عن مشروعها الحضاري الشامل.

أسس التغيير الحضاري لدى مفكري الأمة

بدأت حركة التجديد الفكري بالشيخ جمال الدين الأفغاني -والذي ميز مشروعه للتغيير بالدعوة لجامعة إسلامية بدلاً من الجامعة العرقية- حين تحرك السيد جمال الدين الأفغاني بداية من أفغانستان إلى إيران إلى الهند إلى اسطنبول إلى مصر… في سعي دؤوب لتوحيد الأمة؛ وذلك لأن الحلول الفردية للأقطار المسلمة هي حلول وقتية سرعان ما تبوء بالفشل، فالعلاج الناجع لأمراض الأمة يكمن من وجهة نظره في توحيد الأمة وإعادة لحمتها.

ولم تتوقف دعوة الأفغاني عند وحدة المسلمين على أهل السنة فقط، بل جمع أهل السنة مع أهل التشيع في إطار وحدة اسلامية جامعة شاملة تحقق مصالح الجميع.

لقد كانت مجلة العروة الوثقى -التي أنشأها الأفغاني والتي كانت تحمل اسم التنظيم السري الذي أنشأه لمقاومة استبداد الحكام والحض على الثورة ضدهم- تدعو إلى الوحدة الإسلامية وتحث المسلمين في كل أصقاع الأرض على الوحدة واستعادة أمجاد الإسلام الضائعة.

تتلمذ على يد الشيخ جمال الدين الأفغاني إمام مجدد تابع مسيرة الشيخ المجاهد، وهو الشيخ “محمد عبده” -والذي اهتم بإعمال العقل والانفتاح على الغير من العلماء والمجتهدين- أما وسيلته المعتمدة لتحقيق أهدافه فكان الاجتهاد كضرورة شرعية وحضارية، وفريضة على الأمة، ثابتة بنصوص القرآن والسنة والإجماع.

جعل محمد عبده الدفاع عن قضية الاجتهاد هي محور حركته، الاجتهاد فيما لم يفصل فيه الإسلام وأحكام الدين، وجاءت به كمبادئ عامة، تاركة للناس -وصفوتهم من العلماء- أحقية الاجتهاد بما يخدم مصالحهم المستجدة، ويقدم لهم حلولاً نافعة لما يعترض حياتهم اليومية، ومثال على قضية التجديد التي تبناها الشيخ فقد وضع قاعدتين أساسيتين:

القاعدة الأولى/ كان يرى فيها أن ما آلت إليه الأمور الخاصة بالمرأة من تجهيل وحجب عن المجتمع هو أمر طارئ ليس له علاقة بالدين؛ فالقرآن كرم المرأة بتحريرها من ظلمات الجاهلية، لذلك يدعو الشيخ محمد عبده إلى وجوب تنقية الإسلام مما لصقت به من شوائب وتشوهات.

القاعدة الثانية/ تخص الردّ على ادعاءات المغرضين بأن الإسلام هو سبب تأخر المسلمين؛ فقد قال: “والإفرنج يأخذون مطاعنهم في الإسلام من سوء حال المسلمين مع جهلهم بحقيقة الإسلام، إن القرآن نظيف، والإسلام نظيف، وإنما لوثه المسلمون بإعراضهم عن كل ما في القرآن”، وكان من تلاميذ الشيخ محمد عبده أحد المفكرين السياسيين باحتراف وهو الشيخ محمد رشيد رضا.

أسس “رضا” مجلة المنار والتي اتخذت وجهة أكثر نحو الإصلاح السياسي بنفس المنظور السلفي الذي يعتمد في مرجعيته على القرآن الكريم والسنة الصحيحة.

وحاول في ذات الوقت أن يجمع بين فكر أستاذيه الأفغاني ومحمد عبده وذلك بالعمل في سبيل الإصلاح الديني والتربوي على نهج الإمام محمد عبده، والجهاد في سبيل الإصلاح السياسي على نهج السيد الأفغاني.

ولعل أهم ما سعى رضا لتحقيقه من مشروع الأفغاني للإصلاح السياسي هو محاولة بناء دولة إسلامية نموذجية وإقامة جامعة إسلامية، وكان قد بلور بالفعل رؤية للإصلاح السياسي في الدولة العثمانية وإقامة دولة إسلامية نموذجية فيها؛ فقد دعا رضا مثلما دعا الأفغاني من قبل إلى إقامة نظام سياسي إسلامي دستوري يلتزم بمبادئ الشورى والعدل والحرية، يشارك فيه الشعب في الحياة السياسية، ويلتزم فيه السلطان باستشارة زعماء الشعب وممثليه وتخضع الحكومة لمساءلتهم.

ودعا رضا علماء المسلمين وقادتهم السياسيين إلى ترشيح عدد من الأفراد لمنصب الخلافة، ‏ثم يلتحق هؤلاء بمدرسة تنشأ خصيصاً ‏لتعليم مبادئ الخلافة والتدريب على أداء مهامها، وبعد اجتيازهم تلك المرحلة يرشح هؤلاء الأفراد واحداً ‏من بينهم لمنصب الخلافة، ‏فإذا ما صادق علماء الأمة وقادتها على ذلك الترشيح يعرض على عامة المسلمين، فإذا ما وافقوا أصبح المرشح خليفة للمسلمين، وبذلك يصبح الخليفة مستوفياً ‏لشروط الخلافة ومؤهلاً لحمل أعبائها ومقبولاً بين الناس.

ولأن رضا يرى أن الخلافة مؤسسة وليست منصباً، اقترح إنشاء عدة أجهزة سياسية تعاون الخليفة على الحكم على النهج الإسلامي الصحيح، وتشبه بنية مؤسسة الخلافة عند رضا إلى حد كبير بنية النظام الجمهوري الديمقراطي الحديث.

نجحت دعوة الشيخ رشيد رضا للإصلاح السياسي بين الجماهير المسلمة وانتشرت، وأثرت أفكاره وجهوده الإصلاحية في فكر وحركة الشيخ حسن البنا -مؤسسة جماعة الإخوان المسلمين- وأول مرشد عام لها، بل أثرت أيضاً في البرنامج السياسي للجماعة.

ماذا تبقى من الفكر الحركي لحسن البنا

تمحورت دعوة الشيخ البنا حول التجديد ووصف دعوته بأنها واحدة من (الدعوات التجديدية لحياة الأمم والشعوب)، وطالب في نظرته النقدية للتراث بالتمييز بين الثوابت والمتغيرات وممارسات البشر، والعودة إلى المنابع الجوهرية والنقية المعصومة (الكتاب والسنة الصحيحة)، وبهذا فإن مبدأ التجديد كان أساس فكر البنا الحركي.

فهل التزمت الجماعة بالفكرة وقدمت ما يقتضي عملية التجديد تلك؟

وماذا تبقى من الفكرة اليوم لكي نحكم أن هذا الفكر الحركي ينتمي للمؤسس؟

وبالنظر فيما تقدم نجد أن الحركة أسهمت بشكل كبير في وقف التمدد الفكري الغربي، وفي حركة تحرير بلاد المسلمين، إلا أن النتائج التي حصدها الواقع العربي والإسلامي لا يتناسب وحجم الأهداف التي وضعتها الحركة الإسلامية لذاتها منذ بدايتها وحتى الآن.

لقد أسهمت الحركة الإسلامية بشكل كبير في وقف التمدد الفكري الغربي، وفي حركة تحرير بلاد المسلمين، إلا أن النتائج التي حصدها الواقع العربي والإسلامي لا يتناسب وحجم الأهداف التي وضعتها الحركة الإسلامية لذاتها منذ بدايتها وحتى الآن

أسباب الفصام بين الفكر الحركي والفكر التنظيري

ما حدث -في الآونة الأخيرة- من انتكاسة للحركة الإسلامية في معظم بلاد العرب، ليس للحركة الإسلامية فحسب، بل لكافة الأفكار التي حملتها، وفشل التجارب التي خاضتها برغم تاريخها الطويل في النضال والمقاومة، وبرغم توافر المراجع العلمية -والتي استمرت بعد اغتيال البنا رحمه الله- مثل المنتج العلمي لأمثال مالك بن نبي وغيره من مفكري الأمة، ينبئ بأن هناك خللاً ما في الفهم أو التطبيق، أو الانحراف عن الأساس الفكري التي بنيت عليه الحركة الإسلامية، وهناك أطروحات عدة، وتساؤلات يجب على رواد الحركة الإسلامية الإجابة الذاتية عليها إن كانوا يبحثون عن حل ناجع وحقيقي للخروج من أزمة الأمة والتي كانوا هم أنفسهم جزءاً منها:

• هل هناك هدف عام واضح ومعروف ومعلن وكذلك أهداف مرحلية محددة وواضحة لكل أفراد الحركة الإسلامية مجدولة زمنياً؟

• من هو القائم بالتخطيط للحركة الإسلامية، هل هم أهل العلم والخبراء والمتخصصون؛ امتثالاً لقول الله عز وجل: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59]؟

• هل يعي أفراد الحركة بفقه واقع الأمة؟ أم أن الأمر متروك للاجتهاد الفردي والظروف المحيطة؟

• هل تدرك الحركة الإسلامية -قيادةً وأفراداً- أهمية الحرية -كقيمة محركة للشعوب- وبالتالي للحركات تجاه الإبداع والعمق الفكري النابع من العقيدة البناءة والتمحور حول الفكرة لا الفرد؟

تلك مجموعة تساؤلات مبدئية، ويمكن إضافة الكثير إليها بما يراه المتخصصون وأهل الخبرة ليجيب عن تساؤل: لماذا لم تحقق الحركة الإسلامية أهدافها حتى الآن؟

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى