آخر خيوط شمس النيوليبرالية: حقبة اللا-ليبرالية الجديدة
إعداد حمزة عامر
مقدمة المُترجِم
يغلبُ على ميلتون فريدمان، الأب الروحي لما أصبح يُعرَفُ باسم النيوليبرالية، يقينٌ متفائل بفعالية ما نظَّر له من مبادئ كما يُتلمَّسُ في هذا الاقتباس من كتابه Why Government is the Problem (1993) الذي جاء بعد فترةٍ وجيزةٍ من حقبة ريغان ومارغاريت تاتشر.
يعود أصل كلمة النيوليبرالية، أو الليبرالية الجديدة، إلى الفرنسية (néo-libéralisme)، ولعل أول استخدام لها بالإنجليزية يرجع إلى عالم الاقتصاد الفرنسي «تشارلز غايد» في وصفه لسياسات الاقتصادي الإيطالي مافيو بانتيليوني في نهايات القرن التاسع عشر. في كل الأحوال شاع استخدام المصطلح أكثر فيما أتى، مع تغير معانيه ودلالاته عبر ما توالى من فترات، لوصف مجموعةٍ من المبادئ والأفكار التي جاءت لتُجيب على أزمة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن الجديد، وكبديلٍ لمبادئ دولة الرفاه التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا والولايات المتحدة، فضلًا عن كونها إعادة تقديمٍ لمبادئ الليبرالية الكلاسيكية. واليوم أصبح المصطلح يُستخدَم بالدرجة الأولى، ومنذ السبعينيات والثمانينيات، لتوصيف عددٍ من السياسات الاقتصادية المرتبطة بالسوق الحر والعولمة التي زفتها حقبتا ريغان وتاتشر للعالم لتهيمن عليه فيما تبع ذلك من سنوات.
يرتبط المفهوم بالأفكار الاقتصادية التي نظَّر لها ميلتون فريدمان، والتي تتلخصُ في العولمة واللبرلة الاقتصادية والخصخصة ورفع القيود الاقتصادية وتقليل الإنفاق الحكومي، مع اشتراط وجود حرية الاختيار وديمقراطيةٍ تنافسية وسوقٍ عالمي.
بعيداً عن تفاؤلية هذه الأفكار وما أبانته منظومة النيوليبرالية عن قدرٍ من المرونة في مبادئها، لقيت هذه الموجة الاقتصادية الكثير من الانتقادات بوصفها حركةً تُعادي الديمقراطية الحقيقية في جوهرها كما يقول نعوم تشومسكي في كتابه Hopes and Prospects (2010)، وأنها قامت على استغلال، وأحيانًا تصنيع الأزمات والكوارث المختلفة، كحرب العراق مثلًا، لتصدير سياساتٍ معيَّنة بحد ذاتها، فيما يُعدُّ أحد أهم الأعمال الناقدة للنيوليبرالية المعروف باسم «عقيدة الصدمة» (2007) لكاتبته نايومي كلين.
برز في الفترة الأخيرة أيضًا ظهور تيارٍ يتنبَّأُ بأن النيوليبرالية لم تعد قادرةً على تقديم حلولٍ للأسئلة السياسية والاقتصادية الجديدة، وأنها بالفعل تلفظ أنفاسها الأخيرة، كان منه من أكَّد مثلًا أن أزمة 2008 كانت هي مؤذن بنهايتها، بل إن الكثيرين بدأوا يتساءلون فيما سيأتي لاحقًا وكأن أمر انتهاء حقبة النيوليبرالية لم يعد سوى مسألة وقت، كبروز تنظيرات اليسار من جديد، والأهم من ذلك بكل تأكيد صعود اليمين المتطرف المعادي للعولمة. وفي هذا السياق تعقَّدت الأسئلة وتفاقمت بكل تأكيد مع جائحة كورونا التي ألقت بظلالٍ ثقيلةٍ على المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي والإقليمي.
يطرح الباحث البلجيكي «ريجر هيندريكس» في هذه المقالة وصفًا للمشهد العالمي اليوم الذي رسمته النيوليبرالية من جهة والإعلام الرقمي واليمين البديل وأمريكا ترامب وبريطانيا بريكست من جهةٍ أخرى، وما هي العلاقات والديناميكيات التي حكمت كل ذلك مبيِّنًا كيف أن آخر إفرازات النيوليبرالية المحتضرة قد بدأ يتجلَّى في حقبةٍ جديدةٍ من اللاليبرالية، مع محاولةٍ لرسم المسار الذي أودى بنا من الأولى إلى الثانية، وما تأثير جائحة كورونا على كل ذلك، مستنيرًا بعض الشيء بأفكار كتاب «عقيدة الصدمة».
إحياء الأزمة
وقع العالم اليوم رهينةً بيد فيروس كورونا والنخب السياسية التي تصدَّت له. مشهدٌ كهذا يجدر بمن يريد فهمه أن يتمعَّن في السياق الجيوسياسي والاقتصادي الذي أحكمت جائحة كورونا قبضتها عليه. وهنا يشيرُ محلِّلون كثر بأصابع المسئولية للنيوليبرالية التي جزَّأت الخدمات العامة، كالرعاية الصحية، وجعلت منها سوقًا تنافسيًّا، وها نحن اليوم ندفع ثمن كل ذلك. تؤذنُ جائحة كورونا بإفلاس الرأسمالية النيوليبرالية القائمة على شبكات الإنتاج العالمي التي تشكَّلت من تحالفاتٍ بين الشركات الغربية والمصانع الصينية، والتي نقلت معها الفيروس ليجتاح معظم أنحاء العالم. ومن سوء حظ النيوليبرالية أن الأوبئة قد عادت لتفتك بها، ومن يدري فلعل هذه الأزمة قد تكون حقًّا نهايتها.
فقد كان هناك من استبشر من قبل بموت النيوليبرالية وليس أقل ذلك ما كان وقت الأزمة المالية في 2007-2008، ولكن استيقظت النيوليبرالية وقتها من مرقدها، بل عادت أقوى مما كانت عليه. كما أن النيوليبرالية قد مرَّت بتحوُّلاتٍ كبيرة في السنوات الأخيرة لأسبابٍ كثيرة لم يكن أقلها محاولة التماشي مع القواعد المتغيِّرة للرأسمالية العالمية.
تشكّلُ جائحة كورونا فرصةً لتغيير العالم للأفضل، ولا أقل من ذلك فرصةً لنقض عقودٍ من آثار النيوليبرالية بمنح الوظائف الهامة في الرعاية الصحية والتعليم حقَّها من التقدير. إلا أن المتفائلين بذلك، وللأسف، يجب أن يتنبَّهوا إلى أن الأزمات تقدِّمُ فرصًا وفيرةً للأنظمة القائمة بتحقيق طموحاتٍ قد تبدو غير واردة في الظروف العادية، كما تبين ناعومي كلين في كتابها عقيدة الصدمة. فقد هيمنت طبقةٌ مليارديريةٌ صاعدة على المشهد الاقتصادي العالمي قبل تفشِّي الجائحة ومعها المنصات التكنولوجية، مع صعود طبقةٍ من السياسيين الذين سعوا إلى تقويض أسس الليبرالية، بحيث ضمَّ سياسيو هذه الطبقة جهودهم معًا لإطلاق موجةٍ جديدة تُعيد رسم البنية الجيوسياسية الاقتصادية، وقد ارتأيتُ (أي كاتب المقالة) تسمية هذه الطبقة بـ «النيو-لاليبرالية». فماذا ستكون تداعيات جائحة كورونا على هذا المشهد الجديد؟
واقع جديد
كان رجوح كفة بريكست وترامب مفاجأةً جديدةً نهشت هي الأخرى جسد النيوليبرالية بعد الأزمة المالية عام 2008. إلا أن التاريخ كان له أن يكرِّر نفسه، فقد حمل عام 2016، كما كان عليه الحال بعد 2008، مزيدًا من الإعفاءات الضريبية التي استفادت منها الشركات والطبقة الغنية، والمزيد من رفع القيود البيئية والمالية، وتخفيض ميزانيات الخدمات العامة، أي بالمختصر المزيد من السياسات التي تعزف على أوتار النيوليبرالية. ولكن المشهد السياسي الذي أفرز هذه السياسات النيوليبرالية قد مرَّ بتغيُّراتٍ هائلة. فلمَّا كانت موجات النيوليبرالية الأولى نتاج أحزابٍ وسطيةٍ في مجملها ضمن تحالفاتٍ بين يمين الوسط مع يسار الوسط يُلزِم فيها الأول نفسه بسياساتٍ تقدمية في سبيل دعم اليسار لعملية لبرلة الاقتصاد، برز منذ عام 2016، عوضًا عن ذلك، تحالفٌ جديد بين الوسط واليمين المتطرِّف، بحيث شطحت أحزاب وسط اليمين، كالحزب الجمهوري الأمريكي والحزب المحافظ في بريطانيا، أكثر وأكثر نحو اليمين ونحو أفكارٍ أكثر تطرُّفًا متخلِّيةً بذلك عمَّا أسماه طارق علي «الوسط المتطرِّف». أي أن أحزاب يمين الوسط التي شاركت في إفراز العالم النيوليبرالي قد أعادت تقديم نفسها بعباءةٍ قوميةٍ تتحدَّى عالمًا «معولمًا» لا يفوِّتون فرصةً لنعته اليوم بأنه يساري.
ولمَّا حدَّت موجات النيوليبرالية الأولى من سلطة الديمقراطية على صناعة السياسات الاقتصادية، تتوجَّه الموجة القومية الحالية، التي يتصدَّرها دونالد ترامب وأشباهه، إلى نزع الصبغة الليبرالية من السياسة، في سعيٍّ دؤوب لتقويض أسس منظومة التوازنات والمعادلات الليبرالية-الديمقراطية، وتطويع الأذرع التشريعية والقضائية الحكومية لمسئولين متعطِّشين للسلطة. ولا يختلف الحال كثيرًا في ممالك السلطات الاجتماعية، من الوسط الأكاديمي إلى الإعلام والمنظمات غير الحكومية، هذا غير استهداف الحقوق الدستورية والأساسية التي تحرِّم الاستخدام اللاليبرالي للسلطة المطلقة. وهنا لا بد من الالتفات إلى أن هذه التطورات قد تؤذنُ بنهاية النيوليبرالية التقدمية، ولكن عملية نزع الليبرالية من السياسة لا تزال تحمي حدود الرأسمالية العالمية التي تبقى نواة طموحات مشروع النيوليبرالية.
لعله ممكنٌ أن يقارن المرء بين سيناريو صعود النيو-لاليبرالية وتفشِّي فيروسٍ ما بالنظر إلى تلوُّن الديمقراطيات الغربية الليبرالية بصفات الديمقراطيات اللاليبرالية والأنظمة السلطوية (التنافسية) في بقعٍ أخرى من العالم. فقد فتكت الأنظمة التي تزداد في لاليبراليتها في المجر وبولندا بجسد الاتحاد الأوروبي، ويعود الفضل في ذلك بجزءٍ كبير إلى الغطاء السياسي المُسمَّى بحزب الشعب الأوروبي (EPP)، ولكن هذا لا يعني أن النيو لاليبرالية ليست في جوهرها ظاهرةً عالمية. فانظر مثلًا إلى البرازيل والهند اللتين اعتنقتا مؤخرًا عقيدة النيو لاليبرالية السياسية دون ارتدادهما عن السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، فيما شدَّدت الصين وروسيا، وكلتاهما تقومان على أنظمةٍ لاليبرالية، قبضتهما السلطوية. ويبقى العامل المشترك بين هذه الأسماء وغيرها من الأنظمة الأخرى اعتماد سياساتٍ قوميةٍ مُفرِّقة، وتوجَّه رجال الدولة المختلفين في هذه الدول إلى اعتماد دساتير تتماشى مع رغباتهم، بما يُغيِّبُ في معظم السيناريوهات المساحة السياسية التعددية مع حماية واجهتهم النيوليبرالية التي تصل الاقتصاد الوطني بالرأسمالية العالمية.
الرأسمالية العالمية
إذا ما أردنا أن نفهم صعود النيو-لاليبرالية، فعلينا العودة إلى بداية الألفية الجديدة التي شهدت عددًا من التطورات كانت بمثابة تتويجٍ للتحالفات النيوليبرالية. فبعيدًا عن الهجمات الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة والتي أسهمت في تصدِّر السرديات اليمينية المتطرِّفة للساحة، شهد عام 2001 أيضًا دخول الصين اللاليبرالية إلى منظمة التجارة العالمية النيوليبرالية، حيث كان لقاء الطرفين في العاصمة القطرية الهادئة الدوحة بعيدًا عن أعمال الشغب التي شهدتها مدينة سياتل. ومثَّل دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية نقلةً جغرافيةً على الساحة العالمية تجلَّت في صكِّ المصطلح الجديد BRIC (Brazil, Russia, India, China، أو البرازيل وروسيا والهند والصين) على يد الاقتصادي «جيم أونيل» الذي كان يعمل لصالح مجموعة جولدمان ساكس. فقد تنبَّأ أونيل بوجود نموٍّ اقتصاديٍّ أكبر في الدول غير الغربية وحثَّ قادة الغرب على مقاسمة مقاليد السلطة مع الدول غير الغربية داخل مؤسسات الحكم الرئيسية، وهذا ما كان في نفس العقد بانبثاق مجموعة العشرين التي أصبحت هيئة الحوكمة العالمية الأولى.
شهدت الألفية الجديدة أيضًا، إلى جانب لهث الدول الكبرى وراء أسواقٍ جديدة وأيدٍ عاملةٍ رخيصة، نشوء عالم الحسابات الخارجية، وهي أشبه بمملكةٍ قانونيةٍ جديدة قامت على التهرُّب من الضرائب والتشريعات السرية. وائتمنت الشركات والطبقات الغنية هذا العالم الجديد على أموالهم وعقاراتهم، وتحوَّلت الحسابات الخارجية إلى نظامٍ يحتل مكانةً مركزيةً ببداية الألفية الجديدة. ومنذ ذلك الوقت طفحت مدنٌ مثل لندن بأموال الحسابات الخارجية القادمة من روسيا وغيرها حاملةً معها حُمَّى الإنفاق على العقارات وأندية كرة القدم والشركات الإعلامية الضخمة وشراء الذمم السياسية. وكان من أهم ما سمحت به مملكة الحسابات الخارجية حدوثَ حالاتٍ مخيفةٍ من احتيال الشركات، بل إنها كانت سببًا في انهيار شركة الطاقة الأمريكية العملاقة «إينرون» التي استنتسخت بنوكٌ غربيةٌ حيلها المحاسباتية، مما رسم مشهد الأزمة المالية في نفس العقد.
وكان ميلاد المنصات الرقمية الضلع الثالث الذي شكَّل مع الحسابات الخارجية وصعود الدول غير الغربية أهم التطورات الألفية الجديدة. فاخترغت جوجل رأسمالية المراقبة أو كما أسمتها سوزانا زوبوف «منظومةً مأتمتة هي بمثابة مرآةٍ من طرفٍ واحد». فنمت رأسمالية المراقبة لتتحوَّل إلى آلةٍ عالميةٍ مكرَّسةً لمراقبة السلوكيات والتلاعب، لتتغلغل أكثر وأكثر بين مبادئ تكنيز رؤوس المال.
شهد العقد الأول من الألفية الجديدة ميلاد رأسماليةٍ مفرطةٍ كانت في جوهرها عالميةً رقميةً مموَّلةً تقوم على حسابات الخارج، ونمت هذه الرأسمالية تحت جناحي الحرب على الإرهاب والاضطرابات المالية. استخدامُنا لأوصافٍ مثل بنوك الظل والاستثمارات الشبحية والأموال السوداء لا يُوفي هذه العوامل حقَّها بالنظر للدور الذي لعبته في بناء العالم الجديد. فكان عالم الحسابات الخارجية نقطة بداية الأزمة المالية، دون إهمال العوامل الأخرى بكل تأكيد، حيث كانت البنوك تُخفي استثماراتها المشؤومة. نحن نتحدَّث عن العالم الجديد الذي كان «مرتع» الشركات التكنولوجية التي وصلت قيمتها إلى تريليونات الدولارات وشكَّلت مع غيرها من الشركات (الوهمية فعليًّا) شبكةً متداخلةً من الشركات التي تعود ملكيتها في النهاية إلى طبقةً من المليارديرية العالميين تضمُّ ما يقارب ألفي فرد وعائلة.
شهد العقد الثاني من الألفية الجديدة بداية مرحلة التعافي الاقتصادي، ومعه زاد انصهار القطاعين المالي والتكنولوجي. وكان ذلك بموجب ما أسمته السياسية الاقتصادية دانيلا غابور «إجماع وولستريت» أو The Wall Street Consensus، تيمنًا بما عُرف باسم إجماع واشنطن (وهو حزمة الإصلاحات التي اقترحتها عددٌ من المؤسسات المالية في واشنطن للدول النامية التي عصفت بها أزماتٌ اقتصادية، وكان استخدام المصطلح لأول مرة عام 1989) ضمن هيكل الدول العشرين. وتمثَّل إجماع وول ستريت بتوجه المؤسسات المالية حول العالم نحو اعتماد التكنولوجيا المالية، أو FinTech، يدفعهم في ذلك نهمٌ لا نهاية له لتحصيل البيانات الشخصية واستخدامها لتغذية رأسمالية المراقبة.
ولكن شهد العقد الثاني تطورًا هامًّا أيضًا على هذا الصعيد هو اقتحام القطاع التكنولوجي الصيني لساحة الهيمنة العالمية بعد أن تنعَّمَ السيليكون فالي باحتكارٍ كاملٍ لذلك في الماضي. ولم تُخفِ اللوبيات المالية الغربية مخاوفها من المنصات الصينية مثل «علي بابا» و«تينسينت» اللتين يصفونهما على أنهما عددٌ من الشركات الأمريكية «مجموعةٌ في كيانٍ واحد» التي تعمل تحت إشرافٍ لصيقٍ من الحزب الشيوعي الصيني. ولم تأتِ هذه المخاوف من فراغ بكل تأكيد، ففي الوقت الذي واجه فيه فيسبوك صعوباتٍ كثيرة في سبيل إنشاء عملةٍ رقميةٍ عالمية، استطاع المصرف الصيني المركزي صكَّ عملةً بديلةً خاصَّةً به، وأمر الحزب الشيوعي الصيني بنوك الصين ومنصاته التكنولوجية باعتمادها. وكما يقول مارك زوكربيرغ نفسه:
اللينينية القومية
يلخِّصُ وصف «الحركة السريعة وقلب الموازين» سياسة «شي جين بينغ» في الصين تلخيصًا وافيًا، ولكن لا بد لنا أن نتذكَّرَ أن هذه السياسة لازمت طويلًا وادي السيليكون، الذي فضَّل دائمًا طلب العفو على التوسل للحصول على الإذن. فإحداث اضطراباتٍ في مجالاتٍ وممارساتٍ وعملياتٍ تسير باتجاهاتٍ واضحة هو سمةٌ متأصِّلةٌ في اسمٍ مثل «أوبر» الذي يعمل دون الالتفات مطلقًا للقوانين أو أدنى معايير المروءة. واجتاحت هذه السياسة دهاليز الحكومات مع صعود النيوليبرالية الغربية. فليس هناك طريقةٌ أفضل لفهم بريكست من أنه عملية إحداث اضطرابٍ تستهدف الممارسات والإجراءات السياسية المتعارف عليها من التهرُّب من المؤتمرات الصحفية إلى حلِّ البرلمان دون سلطةٍ قانونيةٍ تسمح بذلك. وكما تقول صحيفة الإيكونوميست:
لقد أحدثت عملية الرقمنة المطردة اضطراباتٍ في عددٍ من المجالات منذ بداية الألفية الجديدة، قبل أن تضع نصب أعينها، ومنذ الأزمة المالية، المنظومة المالية القائمة، إلا أن العقد الثاني قد تمايز بتسلل التكنولوجيا إلى القيم السياسية المتعارف عليها. فهناك الفيسبوك وجوجل اللتين توجِّهان موظّفيهما لدعم حملاتٍ سياسيةٍ أمريكية منذ صعود باراك أوباما، ولكن الأهم هو انبثاق بيئةٍ متكاملةٍ خصبةٍ بلاعبين سياسيين تكنولوجيين نمت وترعرعت على هذه المنصات. فإلى جانب البوتز (Bots) ومزارع الترولز (Troll Farms) هناك اليوم شبكةٌ إعلاميةٌ كاملة تهدف إلى تكريس سردية اليمين المتطرف وعلى رأسها Breitbart News التي يموِّلها الملياردير الأمريكي روبرت ميرسر، ويقودها الهوياتي الديماغوجي ستيف بانون.
وتحوي هذه البيئة أيضًا ضلعًا مهمًّا آخر هي شركات تحليل البيانات، مثل كامبردج آناليتكا (CA)، التي يرأسها أيضًا ميركر وبانون، وشركة Palantir Technologies التي يملكها الملياردير الأمريكي بيتر ثيل النشط في قطاع التكنولوجيا. درس أليكساندر، مؤسِّس شركة كامبردج آناليتكا، في الجامعة المرموقة Eton College رفقة ديفيد كاميرون وبوريس جونسون، أما ثيل فهو لا يتمتَّع فقط بنفوذٍ سياسي بصفته أحد مستشاري ترامب، بل أيضًا أحد أعضاء مجلس إدارة فيسبوك، حيث كان هو من أقنع الشركة بعدم التحقق من الحقائق التي ترد في الإعلانات السياسية. وعلى هذا الصعيد تحكي الصحفية الأمريكية عمَّا تسمِّيه «بيت فوكس نيوز الأبيض»، محاولةً إبراز العلاقة الوثيقة بين ترامب وثاني أضخم شركةٍ إعلاميةٍ في العالم، ونحنُ يمكننا أيضًا أن نُطلِقُ على ما كان أول رئاسةٍ تويتريةٍ في العصر الرقمي «بيت فيسبوك الأبيض» إذا ما نظرنا إلى ترامب الذي تحوَّل إلى فيروسٍ أصاب الإعلام الجماهيري بفضل أضخم شركةٍ إعلاميةٍ في العالم. ولا أبلغ من مدير حملة ترامب الرقمية في وصف هذه الظاهرة:
يجد الناظر بصمات الشركات التكنولوجية على مسار صعود النيوليبرالية العالمية حيث ساعدت ميميات الواتسآب، على سبيل المثال، جير بولسونارو على الفوز بالانتخابات الرئاسية في البرازيل، ومثله عمد رودريجو دوتيرت إلى استغلال ما يوفره فيسبوك من تأثيرٍ سياسيٍّ منذ وقتٍ مبكِّر في الفليبين. وبمجرد وصول هؤلاء الرموز إلى السلطة تراهم يتصرَّفون مثل مديرين تنفيذيين لشركات التكنولوجيا الاضطرابية مع عملهم على تقويض الديمقراطية الليبرالية واستخدام أدوات المراقبة لتوطيد سلطتهم. ومثالٌ على ذلك هو اكتشاف اختراق تشفير الواتسآب مؤخَّرًا في الهند، وهو ما سمح لمودي بتعقُّب حركات خصومه. لا ينكرُ أحدٌ بكل تأكيد الدور المخيف الذي تلعبه شركات التجسُّس الإسرائيلية والمخترقون الروس في نشر سياسات النيو-لاليبرالية، ولكن إذا ما أردنا استيعاب الأبعاد السياسية للعصر الرقمي استيعابًا كاملًا، فلا بد لنا من التوجه إلى بكين حيثُ تلعب التكنولوجيا الرقمية دورًا مفصليًّا في ممارسة السيطرة الاجتماعية.
أصبح الحزب الشيوعي الصيني أحد طليعي النيو-لاليبرالية منذ سبعينيات القرن الماضي بمزجه بين الاقتصادية النيوليبرالية والسياسية اللاليبرالية. فيصف الخبراء نظام حكم الحزب الشيوعي الصيني بأنه مزيجٌ عجيبٌ بين القومية واللينينية قام على أعقاب رفض الصين لأيديولوجيات الثورة الفرنسية والروسية الذي تجلَّى، كما يرى البروفيسور الصيني «وانغ هو»، بعد الثورة الثقافية وكانت معركته الأخيرة هي أحداث ساحة تيانانمن.
بدأ هذا المزيج بين القومية واللينينية بترك بصمته على الغرب منذ عام 2016، وتجلَّى ذلك في مشاريع قومية مثل أمريكا أولاً! وبريكست التي يرسم طريقها شخوصٌ يصفون أنفسهم بأنهم لينينييون مثل بانون وأيضًا دومينيك كامنغز مستشار بوريس جونسون. وإلى جانب لينين كان هناك شيوعيٌّ آخر غذَّى أيديولوجيات حروب اليمين المتطرّف التي تستهدف الثقافة وهو الماركسي الإيطالي «أنطونيو جرامشي»، وبالمحصِّلة وضع هؤلاء اللينينيون نصب أعينهم تحطيم الديمقراطية الليبرالية وحكم القانون. ويتظاهرُ هؤلاء، في سعيهم لتحقيق أهدافهم، بأنهم يمثِّلون «إرادة الشعب»، ولا يفوِّتون فرصةً لتقويض عُرى الديمقراطية الليبرالية، واصفين مؤسساتها الرئيسية بأنها «عدوةٌ للشعب»، و«مخرِّبون»، و«خونة». وبكلمات بانون نفسه، الهوياتي الذي أصبح دميةً بيد طبقة المليارديرية:
جائحة
يرى كثيرون أن جائحة كورونا هي المسمار الأخير في نعش النيوليبرالية، وربما يكون ذلك صحيحًا، ولكن لا بد ألا ننسى أن النيوليبرالية هي أيديولوجيةٌ مرنةٌ جدًّا، تملك قدرةً عاليةً على استغلال إخفاقاتها وتحويلها لصالحها. وربما يمكن أن نصيغ ذلك بطريقةٍ أخرى: إذا كانت النيوليبرالية بالفعل على فراش موتها، فما نشهده اليوم هو موتٌ بطيء.
فقد رأى البعض أن نهاية النيوليبرالية الحتمية مسألة وقت في ظلِّ ما عُرِفَ باسم فقاعة الإنترنت بداية الألفية الجديدة، ومن ثم فقدت النيوليبرالية جاذبيتها الذاتية في أزمة عام 2008، وأعقب ذلك تحوُّل النيوليبرالية إلى حالةٍ أكثر سلطوية، ولو أنها كانت لا تزال مبنيةً على تآلفاتٍ وسطية التي انهارت لاحقًا عام 2016، ليحمل رايةَ المشروع الاقتصادي النيوليبرالي سياساتٌ لاليبراليةٌ واضحة.
والسؤال بعد كل ذلك هل ستكون جائحة كورونا هي حقًّا من يحصد روح هذا المشروع الاقتصادي؟
فلو نظرنا مثلًا إلى أركان هذا المشروع، مثل التنقلات العالمية لرؤوس الأموال واستقلالية المصارف المركزية، فهذه الأركان لا تزال واقفة. ومن ناحيةٍ أخرى فإن ما رأيناه من سياساتٍ غير نيوليبرالية قرَّر العالم اللجوء إليها لكبح انتشار الفيروس، مثل وضع قيودٍ على رؤوس الأموال، قد تكون ببساطة مجرد تدابير مؤقتَّة تُبقي هذا المشروع على قيد الحياة.
ولكن لو افترضنا أن جائحة كورونا هي بالفعل نهاية النيوليبرالية، وهو أمرٌ أشارت إليه صحيفة الفاينيشال تايمز، فقد يكون ذلك من حظ النيو-لاليبرالية وخصائصها الجوهرية. فمثلًا عُدَّ فيروس كورونا شهادة إدانةٍ بحقِّ العولمة النيوليبرالية، ولكنه أيضًا سارع من ضعضعة الديموقراطية الليبرالية وقوَّى أذرع المراقبة الرقمية. فاللينينيون الجدد ومليارديرية التكنولوجيا رأوا في الفيروس التطوُّر الأمثل الذي يُحدِثُ الاضطراب الذي يمكن لهم استغلاله. استغلَّ الحزب الجمهوري الأمريكي الجائحة لسنِّ مزيدٍ من الإعفاءات الضريبية ورفع قيود التنظيم فيما كان جزءًا من حزمة إنقاذ فاقت في حجمها حزمة أزمة 2008، ولكن من المهم هنا ألا نستخف بمدى قدرة ترامب على استغلال هذه الجائحة لصالحه، وليس أقلها للهرب من خسارة الانتخابات والمحاكمة القضائية. فهناك الكثيرون من رموز السلطة ممن يستغلون الفيروس لتوطيد سلطتهم، وليس أقلهم «فيكتور أوربان» الذي استغلَّ هذه الأزمة بكل وضاعة لتسريع تحويل المجر من ديمقراطيةٍ ليبرالية إلى ديكتاتوريةٍ لاليبرالية، ومرةً أخرى تعامى الاتحاد الأوروبي عن ذلك، في علامةٍ أخرى على تآكل النيوليبرالية داخل جسده.
لا تزال معظم دول العالم تعمل على اختبار قدراتها في رصد الفيروس وإيجاد حلولٍ معقولةٍ لإنهاء الحجر الصحي المفروض، ولكن كان هناك الكثير من الدول التي خفَّفت من تشريعاتها التي تمسُّ موضوع الخصوصية لرصد الفيروس في المساحة الرقمية، وكان من بينها تحالفاتٌ حكوميةٌ يساريةٌ في إسبانيا. وفي هذا السياق نرى أن الفيروس قد أعاد من جديد الشعار الذي تحبُّ النيوليبرالية التصدُّح به: «لا يُوجدُ بديل». فأيُّ عاقلٍ سيفكِّر بتداعيات المراقبة المستقبلية وأرواح الناس اليوم بين الحياة والموت؟ فكما يقول «جيمي بارتليت»:
ضمَّت شركتا آبل وجوجل جهودهما معًا للسماح للحكومات برصد الفيروس محاكيين بذلك ما فعلته الصين من دمجٍ بين القطاعين المالي والتكنولوجي، أما الحكومة الأمريكية فقد وعدت بإصدار عملةٍ ومحفظةٍ رقمية ستكونان جزءًا من حزمة الإنقاذ التي تعمل عليها. وهكذا كان هذا الفيروس بكل حق أجمل فألٍ على شركات التكنولوجيا، وأبرزها شركة «بالانتير»، التي يملكها بيتر ثيل، حيث وقعت الشركة عقدًا مع خدمة الصحة الوطنية البريطانية للرفع من سرية إدارة البيانات.
سرَّع الفيروس في مختلف أنحاء العالم تطوير التطبيقات الرقمية باستخدام بيانات المكان وتقنيات تمييز الوجوه لرصد صحة الناس وأماكنهم. ففي الهند مثلًا أجبرت حكومة مودي الناس على أخذ سيلفياتٍ كل ساعة لتعقُّب الفيروس من خلال معرفة مكانهم، وجزاء رفض هذه التعليمات هو حجرٌ قسريُّ عام، وهذا طبعًا لن يُسهم إلا في زيادة احتمال الإصابة بالفيروس لدرجةٍ شبه مؤكَّدة. وهكذا حملت معها هذه الأزمة تهديدًا آخر هو تمكين أذرع النيو-لاليبرالية القبيحة من سياسات حجزٍ عامة كما رأينا في إقليم الإيغور في صين جيانغ، واللاجئين الذي ظلوا عالقين في البحر الأبيض المتوسط وغيرهم على الحدود الأمريكية-المكسيكية.
ومع أن الجائحة لم تستفحل حتى اللحظة في الأحياء الفقيرة مهدِّدةً بذلك أرواح الطبقات المستضعفة، فإن ما رأيناه من التراخي في الاستجابة للفيروس في العالم النامي (وأبرز تجليات ذلك سحب تمويل الخدمات الصحية) يفضحُ نزعة الداروينية الاجتماعية في منظومة النيوليبرالية.
صحيحٌ أننا نرى اليوم في ظل هذه الأزمة نقلاتٍ جيوسياسية واقتصادية عميقة مع صعود النيو-لاليبرالية، ولكن في المقابل يمكن استغلال الجائحة لإعادة رسم هذه النظم. فهل نحن سائرون باتجاه إعادة جميع الأرصدة المالية إلى الصفر وهو ما كان من المفترض أن يحصل عام 2008 ولكن تم إرجاء ذلك بفعل بعض المناورات المالية؟ هل ستسيِّل الصين ما تملكه من أصولٍ أمريكية؟ هل سترتفع أصوات الحرب بين قوى العالم الكبرى أم أنها ستحاول الوصول إلى اتفاقاتٍ؟ أم أننا ننظرُ إلى ملامح عالمٍ جديد؟ وهناك أيضًا أمازون التي توسعت أعمالها بصورةٍ هائلة في الوقت الذي تواجه فيه الكثير من الأعمال الصغيرة والمتوسطة الإفلاس، والاقتصاد على شفا هاوية وما يأتي سيكون أسوأ حتمًا. كيف سيكون العالم بعد كورونا؟ وهل ستستطيع الرأسمالية أن تبقى على قيد الحياة بعد الأزمة؟
كما يعرف الجميع فنحن لا نزال ننتظر ما يخبِّئه المستقبل، ولكننا واجهنا بالفعل أحد أكبر الاضطرابات الاجتماعية وهي فقدان العلاقات الاجتماعية الطبيعية والتقارب والتواصل الحقيقي بين الناس، وقنعنا بأن نبقى محبوسين في منازلنا لا منفذ لدينا سوى الشاشات الرقمية ونحن نسرِّبُ البيانات إلى آلة رأسمالية المراقبة التي تصبح كل يومٍ أضخم وأضخم. نعم ليس هناك بديلٌ اليوم، ولكن لا بدَّ من أن نستغل اللحظة: فهذا الفيروس وما أحدثه من اضطراب يمثِّل فرصةً ثمينةً لإعادة برمجةٍ اجتماعية بكل ما قد يحمله ذلك من خيرٍ أو شر. فعلينا ألا ننسى في النهاية أن الأزمة ليست بيولوجيةً فقط، بل هي أيضًا سياسية.
(المصدر: موقع إضاءات)