مقالاتمقالات مختارة

بلاء المتلونين من أهل العلم

بلاء المتلونين من أهل العلم

بقلم محمد فتحي النادي

إن أهل العلم متفاوتون في حظوظ النفس؛ فمنهم من يصون نفسه عن مواطن المذلة والمهانة، ويعف عن أي مكسب من مال يرى فيه شبهة حرام، بل يمكن أن يترك كثيراً من الحلال خوفاً من شبهة اختلاطه ببعض الحرام.2020-06-17_11h01_48.jpg

ومنهم من يقول كلمة الحق ولا يخاف في الله لومة لائم، ولو على نفسه أو الأقربين أو ذوي الجاه والسلطان.

ومنهم من يجتنب مخالطة الناس ترفُّعاً لنفسه عن النميمة والغيبة والوقوع في أعراض الناس.

ومنهم من يتأبَّى على المناصب فتأتيه وهي راغبة، بل ويعزل ونفسه عنها، ويطلبه السلطان للعودة فيجيب أحياناً ويتمنَّع كثيراً.

ومنهم من لا تغره الدنيا بزخرفها؛ فيستوي عنده غناه وفقره؛ فلا يفرح لغناه، ولا يحزن لفقره، ويعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه.

وهناك من لم يعصمهم العلم؛ فيعظون الناس ولا ينتفعون هم أنفسهم بمواعظهم، انغمسوا في الدنيا وملذاتها، واتخذوا العلم وسيلة للإثراء من الحلال والحرام، اتخذوه وسيلة للاستطالة على غيرهم، رفعهم العلم لكنهم أبوا إلا أن يذلوا أنفسهم.

وقفوا على أبواب الأمراء والسلاطين راغبين في لعاعة الدنيا، لم تمتلئ أعينهم بما عندهم فراحوا يستزيدون ويستزيدون.

يخافون من أهل الجاه والسلطان أكثر من خوفهم من الله تعالى.

جعلوا فتاواهم في خدمة الأمراء والسلاطين، يُحلُّون ما أراد الأمراء تحليله، ويحرِّمون ما أرادوا تحريمه.

يدورون مع أهواء الأمراء والسلاطين أينما دارت.

يتلونون مع كل حاكم وأمير؛ فالاشتراكية من الإسلام، ويوماً آخر تكون الرأسمالية والديمقراطية هي العلاج لمشكلات الأمة!

يملكون حسن المنطق لا لإبراز الحق والحقيقة، بل لاستمالة قلوب العوام، ولتسويق فتاواهم المداهنة لذوي الجاه والسلطان.

يشغلون الناس بسفاسف الأمور، وبقضايا فرعية، ويهيلون التراب على عظائم القضايا.

يقيمون المعارك الكبيرة إذا أراد الحاكم، ويسكتون إذا أراد الحاكم.

يتقربون إلى أهل السلطان بالطعن في أهل العلم والحق.

ويميلون إلى تقسيم الناس؛ فهذا أشعري، وهذا معتزلي، وإخواني، وهذا سروري، وهذا جهادي، وهذا حزبي بغيض، وهذا قبوري مشرك.2020-06-17_11h01_58.jpg

يشعلونها حرباً متقدة على «عُبَّاد القبور» -في زعمهم- ويكونون برداً وسلاماً على سكان القصور.

يدفعون المال للوصول إلى مناصبهم؛ زيادة في الجاه، وزيادة في المال.

كلما ارتقوا في المناصب دفعوا في سبيل ذلك من كرامتهم.

يخافون من عزلهم من مناصبهم خوفهم من الموت أو أشد خوفاً.

يسيرون في ركاب القوي مهما كان حتى ولو كان عدواً للأمة، سفَّاكاً لدماء أبنائها، محتلاًّ لأراضيها.

وفي لحظة يخسرون كل شيء عندما يغضب عليهم السلطان، أو يجيء سلطان آخر فيعزل بطانة من سبقه، أو يبطش بهم لسوء أفعالهم السابقة.

فلم يبق لهم الجاه الذي أمَّلوه، ولا الكرامة التي أهدروها، ولا المال الذي بذلوه.

خسروا أنفسهم، وأعانوا على أنفسهم.

العلماء اللصوص

والتاريخ مليء بأمثال هؤلاء الذين تسربلوا بسربال العلم، لكن قلوبهم كانت قلوب ذئاب ضارية.

وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من انزلاق الأقدام بالإتيان لأبواب السلاطين، وما بعد الانزلاق إلا السقوط، وإذا كان يليق بعامة الناس عدم الإتيان فهي بالعلماء أليق، فقال: «إياكم وأبواب السلطان؛ فإنه قد أصبح صعباً هبوطاً»(1)، قال المناوي: «هُبوطاً؛ أي: منزلاً لدرجة من لازمه، مذلاًّ له في الدنيا والآخرة»(2).

وقد ضيَّق جعفر الصادق الدائرة، فقال: «الفقهاء أمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركنوا(3) إلى السلاطين فاتهموهم»(4).

والفتنة في الدين والنفس والمال ملازمة لمن خالط الأمراء والسلاطين، يقول ابن مسعود: «إن على أبواب السلطان فتناً كمبارك الإبل، والذي نفسي بيده لا تصيبون من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينكم مثله»(5).

وقد اعتبر سفيان الثوري العالِم الذي يحتمي بالسلطان لصّاً؛ فهو لص يسرق من دين السلطان بتزيين أفعاله وإضفاء الشرعية عليها، ويسرق من دين نفسه بالسكوت على الظلم وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسرق من دين العامة الذين يرضون مظالم السلطان، ويسكتون على تعديه على الشرع لسكوت العلماء، فقال: «إذا رأيت القارئ يلوذ بالسلطان فاعلم أنه لص، وإذا رأيته يلوذ بالأغنياء فاعلم أنه مُراء، وإياك أن تخدع فيقال لك: ترد مظلمة تدفع عن مظلوم؛ فإن هذه خدعة إبليس اتخذها القراء سلماً»(6).

ومن سعي العالِم على نفسه أن يحدِّث الناس بما لا يعرفون، يقول الذهبي عن وكيع بن الجراح: محنة وكيع -وهي غريبة- تورط فيها، ولم يُرد إلا خيراً، ولكن فاتته سكتة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع»(7)، فليتق عبد ربه، ولا يخافن إلا ذنبه.

قال علي بن خشرم: حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عبدالله البهي، أن أبا بكر الصديق جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، فأكب عليه، فقبَّله، وقال: «بأبي وأمي، ما أطيب حياتك وميتتك»، ثم قال البهي: وكان تُرك يوماً وليلة حتى ربا بطنه، وانثنت خنصراه.

قال ابن خشرم: فلما حدَّث وكيع بهذا بمكة، اجتمعت قريش، وأرادوا صلب وكيع، ونصبوا خشبة لصلبه، فجاء سفيان بن عيينة، فقال لهم: الله الله! هذا فقيه أهل العراق، وابن فقيهه، وهذا حديث معروف.

قال سفيان: ولم أكن سمعته إلا أني أردت تخليص وكيع.

قال علي بن خشرم: سمعت الحديث من وكيع، بعدما أرادوا صلبه، فتعجبت من جسارته، وأخبرت أن وكيعاً احتج، فقال: إن عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم عمر، قالوا: لم يمت رسول الله.

فأراد الله أن يريهم آية الموت.

فهذه زلة عالم، فما لوكيع ولرواية هذا الخبر المنكر المنقطع الإسناد! كادت نفسه أن تذهب غلطاً، والقائمون عليه معذورون، بل مأجورون؛ فإنهم تخيلوا من إشاعة هذا الخبر المردود غضّاً ما لمنصب النبوة(8).

ومن سعي العالِم على نفسه وإيرادها المهالك ما يحكى أن قَاضِي الْقُضَاة شَيخ الإسلام أحد الأئمة الأعلام جمال الدّين بن جمَاعَة الْكِنَانِي الشَّافِعِي بَاشر الخطابة بِالْمَسْجِدِ الأقصى الشريف، وولي قَضَاء الشَّافِعِيَّة بالقدس، وعزل نَفسه مرَاراً ثمَّ يسأل ويعاد، وولي تدريس المدرسة الصلاحية.

وَاتفقَ أن بعض الحسدة أغرى الشَّيْخ سراج الدّين الْحِمصِي على السَّعْي عَلَيْهِ، فبذل مَالاً لبَعض مباشري(9) السُّلْطَان، فَطلب الشَّيْخ جمال الدّين إلى مصر، وَعُقد لَهُ مجْلِس للمناظرة بَينه وَبَين الْحِمصِي، فغيب الْحِمصِي، فَاسْتمرّ الشَّيْخ جمال الدّين فِي المشيخة، وأكرمه الظَّاهِر جقمق، وَعَاد إلى الْقُدس معاملاً بالجميل.

ثمَّ سعى الْحِمصِي فِي المشيخة، وأعطيها، وباشر مُدَّة يسيرَة ثمَّ عزل، وأعيد الشَّيْخ جمال الدّين وَاسْتمرّ بهَا إلى أن توفّي»(10).

فهذا الحمصي رغم ما فعله من مكائد، وما بذله من أموال ليصل إلى المناصب الرفيعة ولو على رقاب العلماء الأثبات، لم يمكث في منصبه إلا مدة يسيرة، وتم عزله؛ فهو قد أهان نفسه، ولم يصنها، وأعان غيره عليه، ولم يشفع له ما بذل من مال.

فضاع عليه المال ومن بعده ضاع المنصب.

وهذا قَاضِي الْقُضَاة جمال الدّين يُوسُف بن غَانِم بن أَحْمد بن غَانِم الْمَقْدِسِي النابلسي، ولي قَضَاء نابلس مُدَّة طَوِيلَة، ثمَّ ولي قَضَاء صفد، ثمَّ ولي خطابة الْقُدس فِي شهر ربيع الآخر سنة إحدى وَثَمَانمِائَة بِمَال بذله.

ثمَّ سعى عَلَيْهِ القَاضِي جمال الدّين عبدالله بن السائح قَاضِي الرملة بِمِائَة ألف دِرْهَم، وَلم يقم بهَا غير ثَلاثَة أشهر، وعزل بالباعوني»(11).

فماذا أفادت ابن السائح تلك المائة ألف درهم التي بذلها؟ وهل تمكن من جمعها في ثلاثة أشهر، أم كان يريد ببذلها جاهاً ووجاهة؟!

والمستفيدون الوحيدون هم أصحاب السلطان وحاشيتهم، استفادوا بتلك الأموال المبذولة، يضربون العلماء بعضهم ببعض؛ حتى لا يجتمع أهل العلم عليهم، فيذعنوا لهم وهم صاغرون، لكنهم استفادوا وأذلوا وتمكَّنوا من حكمهم.

 

 

__________________________________________________________________

(1) أخرجه أبو نعيم في «معرفة الصحابة»، (4/2018)، ح(5072)، وقد ذكره الألباني في «الصحيحة»، (3/252)، ح(1253).

(2) فيض القدير، للمناوي، 3/121.

(3) في حلية الأولياء، 3/194: «ركبوا».

(4) تاريخ الإسلام، للذهبي، 3/833.

(5) مصنف عبدالرزاق، 11/317، ح(20644).

(6) شعب الإيمان، للبيهقي، 7/51.

(7) أخرجه أبو داود في «الأدب»، باب: «فِي التَّشْدِيدِ فِي الْكَذِبِ»، (4/298)، ح(4992)، وقد صححه الألباني في «صحيح سنن أبي داود»، (3/226-227).

(8) سير أعلام النبلاء، للذهبي، (9/159-160) باختصار.

(9) «مباشر: قيم، ناظر، وكيل» (تكملة المعاجم العربية، لدوزي، 1/350).

(10) تهذيب الأنس الجليل، للعليمي، صـ380.

(11) السابق، صـ409.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى